الأربعاء، 29 يوليو 2015

ابن حزم ونقوله عن الأشاعرة من كتابه الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل

ابن حزم
ونقوله عن الأشاعرة
من كتابه الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل

ابن حزم هو المحدث الفقيه الأصولي الظاهري علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي المتوفى سنة 456، صاحب كتاب المحلى وغيره.
له كتاب مشهور في العقائد وتاريخ الفرق سماه "الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل"، وهو من المراجع الهامة في هذا الباب.
كان المفترض في المؤلف أن يتحلى بالدقة والنزاهة والأمانة في نقوله عن أهل الأديان والفرق، وربما كان عنده من هذا شيء كثير، لكن يبدو أن له مع الأشاعرة مسلكا آخر.
ـ طريقة المحدثين عند النقل من الكتب السابقة أن يذكر المحدث ـ في المرة الأولى على الأقل ـ سنده إلى مؤلف الكتاب الذي ينقل منه، أي سند النسخة التي اعتمد عليها، فإن لم يفعل فقد سقط هذا المحدث سقطة عظيمة وسقطت بذلك كل النقول التي ينقلها من تلك النسخة.
يبدو أن ابن حزم ـ وهو المحدث الناقد للروايات ـ قد نسي أو تناسى هنا تماما كل ما يعرفه من وجوب التثبت، لأن الأمر هنا يتعلق بالأشاعرة، وكأنه نسي قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
وكأنه نسي كذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه وأبو عوانة عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه". وما رواه مسلم عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه". أي: إلا رجَع عليه.
ـ من أراد أن يعرف مدى ما عند هذا الرجل من التثبت في النقل فلينظر في قوله "يقول بعضُ الفقهاء وأتباعُه أن رجلا واحدا يكون ابنَ رجلين وابنَ امرأتين كل واحدة منهما أمه وهو ابنها بالولادة"!. ولا أدري كيف خطت يده مثل هذا؟!.
لو أن أحد الباحثين ألف كتابا في تاريخ الفقه الإسلامي ووقف على هذا النص وأدرجه في كتابه فهي طامة من الطامات.
ـ من الغرائب أن يقول ابن حزم: "قالت الأشعرية: ليس في العالم شيء له بعضٌ أصلا، ولا شيء له نصفٌ ولا ثلـُث ولا ربُع ولا خمُس ولا سدُس ولا سُبُع ولا ثمُن ولا تُسُع ولا عُشُرٌ ولا جزء أصلا"!.
هذه الكلمة تكفي لنعرف مدى ما يتصوره ابن حزم عن الأشاعرة!، ومن الممكن ـ من حيث الإمكان العقلي المجرد ـ أن يُقال لعل الأشاعرة أو بعضهم قد قالوا ذلك فعلا، ولكن المنهج القرآني يأمرنا بالتثبت والبحث عن مدى عدالة الناقل وضبطه، {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
ومن الغرائب أن يقول: "ذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلى أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم، وهذا أمر ناظرنا عليه من لقيناه منهم".
أنا لا أكذبه في دعواه أنه ناظر على هذا أناسًا أو ناظره عليه أناسٌ لقيهم وتوهَّمَ أنهم من الأشاعرة، ولكنه لم يسمِّ واحدا منهم على الأقل لنرى هل هو من الأشاعرة؟ وهل هو من علماء الأشاعرة أو من الجهلة الذين يلصقون أنفسهم بالمذهب الأشعري.

ـ اتهام ابن حزم للأشاعرة من حيث الاعتقاد في الله جل وعلا:
ذكر ابن حزم أشياء في العقيدة عن أبي الهُذيل والنظـَّام المعتزليين ولم ينس أن يضيف إليهم الأشاعرة في الاتهام، فقال: "أما أبو الهُذيل فجعل قدرة ربه تعالى متناهية بمنزلة المختارين من خلقه، وهذا من التشبيه حقا، وأما النظـَّام والأشعرية فكذلك أيضا، وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقـْدر على شيء ولا يقدر على آخر، وهذه صفة أهل النقص".
السؤال الذي ينبغي أن يوجه لابن حزم وللذين اعتمدوا على مقولاته هو: أين الدليل من كتب الأشاعرة على أنهم يقولون بهذا؟!.

ـ اتهام ابن حزم للأشاعرة من حيث الاعتقاد في نبينا سيدنا محمد وسائر النبيين والمرسلين صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين:
قال ابن حزم: "فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الآن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية".
أين الدليل على أن هذا القول قد ذهب إليه الأشعرية؟!، لا دليل، بل هو كذب وافتراء.
لا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأن رسالته باقية إلى قيام الساعة.
قال تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى: "إنكار الرسالة بعد الموت معزوة إلى الأشعري، وهي من الكذب عليه، بل صرح بخلافها، وكتبه وكتب أصحابه قد طبقت طبَقَ الأرض وليس فيها شيء من ذلك، بل فيها خلافه، ومن عقائدنا أن الأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم فأين الموت؟!، وقد أنكر الأستاذ أبو القاسم القشيري في كتابه شكاية أهل السنة هذه وبيَّن أنها مختلقة على الشيخ، وكذلك بيَّن ذلك غيرُه، واشتد نكير الأشاعرة على مَن نسب هذا القول إلى الشيخ وقالوا قد افترى عليه وبهَته".
ـ قال ابن حزم في كتاب الفِصل: "قال الباقلاني: جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث بُعث بالنبوة إلى أن مات". ثم نقل عن أبي جعفر السمناني وهو من أصحاب الباقلاني مثلَ ما نقل عن شيخه الباقلاني.
لا أملك ما أقول سوى أن هذا كذب مفضوح وجراءة عظيمة، ولا أدري ما أقول في ابن حزم بعد هذا. واللهُ الموعد.
ـ وقال ابن حزم: [اختلف الناس في هل تعصي الأنبياءُ عليهم السلام أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أن رسل الله صلى الله عليهم وسلم يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذبَ في التبليغ فقط، وهذا قول الكرامية من المرجئة وقولُ ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه، وأما هذا الباقلاني فإنا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول "إن كل ذنب دقَّ أو جلَّ فإنه جائز على الرسل حاشىا الكذبَ في التبليغ فقط"، قال "وجائز عليهم أن يكفروا"، قال "وإذا نهى النبي عليه السلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أن ذلك النهي قد نُسخ لأنه قد يفعله عاصيا لله عز وجل"، قال "وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه"].
هذا الكلام المنقول عن الإمام الباقلاني رحمه الله هو محض كذب وافتراء، لا شك في ذلك. {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا}.

ـ اتهام ابن حزم للأشاعرة في موضوع التكفير:
ـ قال ابن حزم: "الطائفة القائلة إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبَدَ الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليبَ وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، وهذا قول جهم بن صفوان وقول أبي الحسن الأشعري وأصحابهما".
وقال ابن حزم كذلك: "وأما الأشعرية فقالوا إنَّ شتْمَ مَن أظهر الإسلامَ لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلانَ التكذيب بها باللسان بلا تقيةٍ ولا حكايةٍ والإقرارَ بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا، ثم خَشُوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا".
أقول: بل هذا كفرٌ قطعا، لأن من يقوله ليس في قلبه إيمان صحيح قطعا، ومثل هذا الكلام لا يصْدر إلا عمن عشش الكفر في قلبه، إما كفر الجحود، وإما كفر الاستخفاف المنافي لتعظيم الخالق جل وعلا.
إنها أكاذيبُ وافتراءات! ينقلها ابن حزم دون تثبت من صحة النقل. ويقول بعدها عن الأشاعرة ثم خَشُوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا"!!.
وددت لو نبهه بعض تلاميذه وقالوا له: هل يجوز لك شرعا أن تتهم كبار علماء الإسلام بهذا دون تثبت؟!!، وهل أعطاك المولى جل وعلا علم الغيب فشققتَ عن قلوبهم وعلمت أنهم يسمون الكفر الصراح إيمانا ثم خَشُوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا؟!!.
أظن أن ابن حزم قد جاءه بعض الكذابين فنقل له مثل تلك المفتريات فصدقها ونقلها في كتابه دون تثبت، والله أعلم بغيبه.
ومن أراد أن يعرف ما إذا كانت تلك المقولات مما يمكن أن تصح نسبتها للإمام الباقلاني رحمه الله أو لا فليقرأ كتبه، فالرجل وعلمُه وكتبه والنقول عنه أشهر من نار على علم، ومن كتبه في العقيدة "الإنصاف"، و"تمهيد الأدلة".
ثم قال ابن حزم: [أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي الصوفي أن بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرتُ ذلك وقلت له ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى؟!. فقال لي: ويلك والله ما فيه إلا السُخَام والسواد، وأما كلام الله فلا. وكتب إلي أبو المرجى بن رزوار المصري أن بعض ثقات أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلا من الأشعرية قال له مشافهة "على من يقول إن الله قال قل هو الله أحد الله الصمد ألف لعنة"].
الأشاعرة وسائر المسلمين يقولون: إن الذي قال {قل هو الله أحد الله الصمد} هو الله سبحانه وتعالى، والذي اتهم الأشاعرة بذلك البهتان هو من الكاذبين، والله جل وعلا يقول {ألا لعنة الله على الكاذبين}.

ـ تمحيص المرويات يعتمد على نقد السند ونقد المتن:
فأما نقد السند فهو أن نقول: كل قول يُعزى لأحد بسند ضعيف أو تالف أو بدون إسناد فهو غير مقبول، لأن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وأما نقد المتن فهو أن تنظر فيما كتبه علماء الأشاعرة وفي هذا المنسوب إليهم وتتفكر في نفسك: هل من يكتب هذه المؤلفات القيمة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والأصول يكتب هذه الأقوال الكفرية الشنيعة؟!!.
ـ وفي الختام أقول: أما في الدنيا فليقلْ خصوم الأشاعرة ما يشاؤون، فاليوم عملٌ ولا حساب، وأما في الآخرة فليستعدوا للعرض الأكبر بين يديْ من لا تخفى عليه خافية، فذاك يوم الحساب ولا عمل.
ـ لا شك في أن تلك الأقوال التي حاول الوضاعون اتهام الأشاعرة بها هي محض كذب وافتراء، ولكن هذا لا يعني أن ابن حزم هو الذي فعل ذلك وأنه يبوء بذلك الإثم الكبير والبهتان العظيم.
إلا أن تساهله في نقلها مع السكوت عليها لا يعفيه من التبعة والمسؤولية، وكذا كل من نقل شيئا من ذلك تصريحا أو تلميحا دون الدفاع عن أعراض أولئك الأئمة الأعلام. والملتقى بين يديْ أحكم الحاكمين.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 8/ 8/ 1436، الموافق 26/ 5/ 2015، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على عبده ورسوله سيدنا محمد وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.