الاثنين، 28 نوفمبر 2022

حديث "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"

 

ـ هذا الحديث رواه ابن حنبل وعبد بن حميد والبخاري في التاريخ الكبير والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وابن خزيمة والبغوي وابن قانع كلاهما في معجم الصحابة والطبراني في المعجم الكبير وفي الدعاء والبيهقي في دلائل النبوة، من طرق عن عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة عن أبي جعفر قال سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حُنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: "إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخرتَ ذاك فهو خير". فقال: ادْعُهْ. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعوَ بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتـُقضى لي، اللهم شفعه فيَّ".

وجاء عند البيهقي وابن قانع والطبراني: عن أبي جعفر الخطمي. ورواه ابن حنبل والبيهقي في الدعوات عن روح بن عبادة عن شعبة عن أبي جعفر المديني.

[عثمان بن عمر بن فارس بصري ثقة مات سنة 209. شعبة بن الحجاج بن الورد الواسطي البصري ثقة ثقة مات سنة 160. أبو جعفر الخطمي عمير بن يزيد مدني نزيل البصرة صدوق ثقة مات بعد سنة 140 في قول الذهبي في تاريخ الإسلام، وأرجِّح أنه مات قبل ذلك بعد سنة 130. عمارة بن خزيمة بن ثابت مدني ثقة مات سنة 105. عثمان بن حُنيف صحابي شهد أحدا وما بعدها ومات بعد سنة 40].

ورواه ابن حنبل عن مؤمل بن إسماعيل، والنسائيُّ في الكبرى عن محمد بن معمر البحراني عن حَبان بن هلال، والبخاريُّ في التاريخ الكبير عن شهاب، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة قال أخبرنا أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف، به نحوه. وجاء عند ابن حنبل والبخاري في التاريخ الكبير: عن أبي جعفر الخطمي.

ورواه يعقوب بن سفيان في مشيخته وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم والبيهقي في دلائل النبوة من طرق عن أحمد بن شَبيب بن سعيد، ورواه ابن قانع وأبو نعيم كلاهما في معجم الصحابة والطبراني في المعجم الصغير وفي الدعاء والبخاريُّ في التاريخ الكبير من طرق عن عبد الله بن وهب، كلاهما عن شَبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف عن عمه عثمان بن حنيف، به نحوه. وجاء عند ابن السني والحاكم: عن أبي جعفر المدني وهو الخطمي. وجاء عند الطبراني: عن أبي جعفر الخطمي.

ورواه البخاري في التاريخ الكبير عن محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن أبي جعفر يزيد بن عمير أو عمير بن يزيد عن أبي أمامة بن سهل عن عمه، ورواه النسائي في الكبرى عن زكريا بن يحيى عن محمد بن المثنى، به، غير أنه ليس عنده تسمية أبي جعفر. هذا ومن المعلوم أن معاذ بن هشام في حفظه لين، وقد ظهر بعض هذا هنا حيث شك في اسم أبي جعفر هل هو يزيد بن عمير أو عمير بن يزيد؟.

ـ مَن هو أبو جعفر الذي روى عنه شعبة وحماد بن سلمة وروح بن القاسم وهشام الدستوائي هذا الحديث؟:

جاء في عدد من الطرق المتقدمة أنه أبو جعفر المدني، وفي عدد منها أنه أبو جعفر المدني وهو الخطمي، وفي عدد منها أنه أبو جعفر الخطمي.

روى شعبة عن ثلاثة يُكنون بأبي جعفر: أبو جعفر الفراء وهو كوفي، وأبو جعفر مؤذن مسجد العريان وهو كوفي ويقال بصري، وأبو جعفر عمير بن يزيد الخطمي وهو مدني نزل البصرة.

وروى حماد بن سلمة عن اثنين يُكنيان بأبي جعفر: أبو جعفر عبد الملك وهو بصري، وأبو جعفر عمير بن يزيد الخطمي وهو مدني نزل البصرة.

فأبو جعفر الذي روى عنه شعبة وحماد بن سلمة هذا الحديث ـ كما في عدة روايات ـ هو المدني، وهو الخطمي، ولم أجد فيمن روى عنهم روح بن القاسم وهشام الدستوائي ولا فيمن روى عن عمارة بن خزيمة وأبي أمامة بن سهل بن حنيف أحدا يُكنى بأبي جعفر سوى أبي جعفر الخطمي، وفي هذا دلالة على أن أبا جعفر الوارد في سند هذا الحديث هو أبو جعفر عمير بن يزيد الخطمي الثقة الذي وثقه جماعة من الأئمة.

وهذه أقوال أئمة المحدثين التي تؤكد من هو أبو جعفر الوارد في السند:

روى الطبراني في الدعاء عن علي بن المديني أنه قال: ورواه روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة بن سهل.

وذكر البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف عددا من روايات هذا الحديث، وفي بعضها التصريح بأن أبا جعفر هو الخطمي وفي بعضها التصريح باسمه واسم أبيه، ولم يتعقبها بشيء، فالظاهر أنه يرى صحتها.

وقال النسائي في السنن الكبرى: خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فقالا عن أبي جعفر عمير بن يزيد عن أبي أمامة بن سهل.

وقال الطبراني في المعجم الصغير: وقد روى هذا الحديثَ شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، والحديث صحيح. وقال الطبراني في كتاب الدعاء: خالف شعبةُ روحَ بنَ القاسم في إسناد هذا الحديث، فرواه عن أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه.

وقال البيهقي في دلائل النبوة: وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.

فلم يبق بعد كل هذا شك في أن أبا جعفر الذي جاء في سند الحديث هو عمير بن يزيد الخطمي المدني نزيل البصرة.

ـ ملخص سند الحديث:

هذا الحديث رواه شعبة بن الحجاج وحماد بن سلمة عن أبي جعفر عمير بن يزيد عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف، ورواه روح بن القاسم وهشام الدستوائي عن أبي جعفر عمير بن يزيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، وهؤلاء كلهم ثقات.

لكن، هل روى أبو جعفر عمير بن يزيد الخطمي هذا الحديث عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أو عن أمامة بن سهل بن حنيف أو عن كليهما؟، رجح أبو زرعة الرازي الرواية الأولى من هاتين، ورجح ابن أبي حاتم الثانية.

وحيث إن الإسناد صحيح على كلا الترجيحين فالحكم على إحدى الروايتين بالإعلال ـ إن قلنا به هنا ـ هو من باب العلة غير القادحة.

ـ والخلاصة أن الحديث في الجملة صحيح.

* وفي بعض روايات هذا الحديث زيادة، هي أن عثمان بن حنيف علم رجلا أن يدعو بهذا الدعاء في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيكون للحديث قصة موقوفة بالإضافة إلى القصة المرفوعة:

قال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا طاهر بن عيسى ابن قِيرِس المصري المقرئ حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابنَ حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضيَ لي حاجتي"، وتذكرُ حاجتك، ورُحْ حتى أروح معك. فانطلقَ الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى بابَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطِنفِسة، فقال: حاجتك؟. فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كان الساعة. وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمانَ بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمتَه فيَّ. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمتُه، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فتصبر؟. فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شق علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.

[طاهر بن عيسى المصري وثقه ابن ماكولا في الإكمال، ومات سنة 292. أصبغ بن الفرج مصري صدوق ثقة مات سنة 225. عبد الله بن وهب مصري ثقة مات سنة 197. أبو سعيد هو شَبيب بن سعيد بصري ثقة فيه لين مات سنة 186، وكان يختلف في تجارة إلى مصر. روح بن القاسم بصري ثقة مات سنة 141. أبو جعفر الخطمي عمير بن يزيد مدني نزيل البصرة صدوق ثقة مات بعد سنة 130. أبو أمامة بن سهل بن حنيف مدني من كبار التابعين الثقات ولد سنة 9 ومات سنة 100].

وقال أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة: حدثنا أبو عمرو حدثنا الحسن حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا ابن وهب قال أخبرني أبو سعيد، واسمه شبيب بن سعيد من أهل البصرة، عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان لا يلتفت إليه، فلقي ابنَ حنيف فشكا ذلك إليه. الحديثَ بطوله.

[أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان نيسابوري ثقة مات سنة 377. الحسن بن سفيان نسائي ثقة إمام مات سنة 303. أحمد بن عيسى بن حسان مصري صدوق فيه لين مات سنة 243].

ورواه البيهقي في دلائل النبوة عن أبي سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد عن أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال عن أبي عروبة عن العباس بن الفرج عن إسماعيل بن شبيب عن أبيه عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني، به نحوه.

[عبد الملك بن محمد بن إبراهيم الزاهد نيسابوري ثقة مات سنة 407. أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي ثقة مات سنة 365. أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود الحراني ثقة إمام مات سنة 318. العباس بن الفرج الرياشي بصري صدوق مات سنة 257. إسماعيل بن شَبيب بن سعيد: لم أجد لشَبيب بن سعيد ولدا بهذا الاسم، وابنه اسمه أحمد، وهو معروف بالرواية عن أبيه، وقد روى عن أبيه الجزء المرفوع بهذا الإسناد، كما تقدم، فالظاهر أن اسمه تصحَّف هنا، وأحمد بن شبيب بن سعيد بصري ثقة فيه لين مات سنة 229].

وبمجموع هذه الطرق فإسناد القصة الموقوفة التي فيها تعليم عثمان بن حنيف هذا الدعاءَ للرجل في خلافة عثمان رضي الله عنه صحيح كذلك.

إشكال وجواب: قد يقال إن شَبيب بن سعيد وثقه جماعة من الأئمة ولكن حدَّث عنه ابن وهب أحاديث مناكير، فيخشى أن تكون هذه الرواية من تلك المناكير.

أقول: لم ينفرد عبد الله بن وهب بهذه الرواية عن شَبيب بن سعيد، بل رواها عنه ابنه كذلك، فصح الإسناد بمجموع الطريقين.

* هذا وقد أعلَّ أحد المشايخ الأفاضل هذا الحديث بأربع علل، فلا بد من استعراضها والتعليق عليها:

قال الشيخ الفاضل: [العلة الأولى: أن شعبة يرويه عن أبي جعفر غير منسوب وغير مسمى، وإنما ذكر بكنيته، وأبو جعفر هذا قال فيه الترمذي "وليس الخطميَّ"، فـأبو جعفر الخطمي ثقة مدني معروف، ولكن أبو جعفر هذا لا يُدرى من هو، والذين صححوا الحديث اعتمدوا على أن أبا جعفر هذا هو الخطمي].

أقول:

أبو جعفر الوارد في سند هذا الحديث جاء في عدد من الروايات أنه المدني، وجاء في عدد من الروايات الأخرى أنه الخطمي، فالذي يقول فيه "لا يُدرى من هو" يبدو أنه لم يقف على تلك الطرق التي تقدمت في تخريج الحديث.

وقد قال كبار أئمة علماء الحديث بأن أبا جعفر الوارد في السند هو عمير بن يزيد الخطمي، منهم علي بن المديني والبخاري والنسائي والطبراني والبيهقي، واجتماع كلمتهم على مثل هذا الأمر لا يسوغ مخالفته بدون حجة.

ثم إن الشيخ نقل عن الترمذي جازما بأنه قال "أبو جعفر ليس الخطميَّ"، وللبيان أقول:

اختلفت نسخ سنن الترمذي في نقل هذه الكلمة عنه، ففي بعض النسخ "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر، وهو الخطمي". وفي بعض النسخ "وهو غير الخطمي". بزيادة لفظة "غير".

فلا بد من تتبع القرائن من أجل الترجيح، والراجح عندي أن الترمذي إنما قال "وهو الخطمي"، وأن إدخال لفظة "غير" في هذا النص خطأ، وذلك لعدد من الأسباب: منها أن عدة روايات من روايات هذا الحديث قد جاء فيها التصريح بأن أبا جعفر هو الخطمي، وبعضها جيد الإسناد، ولعل الأقرب أنها لا تخفى على الترمذي، ومنها أن القول الموافق لما عليه خمسة من المحدثين الحفاظ أولى من أن يُنسب للترمذي قول ينفرد به دونهم، ومنها أن الحافظ المزي والحافظ ابن كثير رحمهما الله نقلا قول الترمذي على هذا الحديث في تحفة الأشراف وفي البداية والنهاية بدون زيادة هذا اللفظ المشكوك فيه، والنسخ التي يعتمدها العلماء لها منزلة كبيرة في الترجيح.

وهذا كله يرجح أن الترمذي قال في كتابه السنن عن هذا الحديث "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر، وهو الخطمي".

قال الشيخ الفاضل: [العلة الثانية: أن النسائي أخرج هذا الحديث من وجه آخر في السنن فقال فيه "عن أبي جعفر عن عمارة بن زيد بن ثابت"، بدل "عمارة بن خزيمة بن ثابت"، وهذه العلة ما وجدتُ من نبه عليها من الذين تكلموا على هذا الحديث، وقد بحثت عن عمارة بن زيد بن ثابت هذا فما وجدت له ذكْرا في كتب الرجال، إلا ذكْرا لا يبشر بخير، وهو أنه قـُتل في معاقرة الخمر، فلا يصلح للاحتجاج به، وعلى هذا فإن إسناد الحديث فيه اختلاف على الراوي أبي جعفر هذا، هل شيخه فيه عمارة بن زيد بن ثابت أو عمارة بن خزيمة بن ثابت؟، عمارة بن خزيمة بن ثابت لا إشكال فيه، لأنه ثقة من التابعين، وعمارة بن زيد بن ثابت هو الذي ذكرناه، ولا نعرف له ترجمة ولا ذكْرا إلا في هذه الواقعة].

أقول:

إذا جاء اسم الراوي في مواضع كثيرة في مصادر التخريج "عمارة بن خزيمة بن ثابت" وجاء مرة واحدة في أحد المصادر "عمارة بن زيد بن ثابت" فهذا يعني أن الصواب هو الأول، وأن الثاني ـ إذا صح أنه في النسخة كذلك ـ هو مجرد خطأ من أوهام النساخ، وأنه لا يصح القولُ ـ من أجل هذا ـ بأن إسناد الحديث فيه اختلاف على الراوي يؤثر في درجة الحديث.

هذا وقد رجعت إلى أكثر من طبعة من السنن الكبرى للنسائي فلم أجد فيه هذا الراوي "عمارة بن زيد بن ثابت" البتة، ورجعت إلى تحفة الأشراف للمزي وعدد من الكتب التي ترجمت لرجال الكتب الستة فلم أجده فيها كذلك، ولو كان قد ورد اسمه في أحد الأسانيد في سنن النسائي الكبرى لذكر في هذه المصادر.

تنبيه: قول الشيخ عن التابعي عمارة بن زيد بن ثابت إنه "قـُتل في معاقرة الخمر" هو مجرد توهم، وقد عزى قصة قتله إلى الموطأ بإبهام اسمه وإلى المحلى لابن حزم بالتصريح بالاسم، وليس فيهما أن المقتول كان يشرب الخمر، وغاية ما فيهما أن القاتل هو الذي كان شاربا للخمر لدرجة السُكْر:

ففي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يذكر أنه أتِي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية أن اقتله به.

وقال ابن حزم في المحلى: "ومن طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الرحمن بن أبي الزناد أن معاوية أقاد من السكران، قال ابن أبي الزناد: وكان القاتلُ محمدَ بنَ النعمان الأنصاريَّ والمقتولُ عمارةَ بنَ زيدِ بن ثابت". قال ابن حزم: وهذا لا يصح، لأن يحيى لم يولد إلا بعد موت معاوية، وعبد الرحمن بن أبي الزناد في غاية الضعف".

وجاء في أحد الأسانيد عند ابن عساكر عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال: قتل نعيمانُ وهو سكرانُ عمارةَ بنَ زيد بنِ ثابت.

فلم يأت في أي مصدر من هذه المصادر أن عمارة بن زيد بن ثابت كان يعاقر الخمر.

قال الشيخ: [العلة الثالثة: أن فيه أن عثمان احتجب عنه، وما عُرف عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه احتجب، بل كان يأذن لكل من طرق إلا في أوقات الانشغال، وكيف يكون محتجبا عن الناس وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ولي من أمر أمتي شيئا فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة"، فلا يمكن أن يحتجب عن ذوي الحاجات من المسلمين].

أقول:

لا بد أولا من أن نلحظ أمرا هاما في المنهج، وهو أنه إذا كان الحديث فيه قصة مرفوعة وقصة موقوفة وكان الجزء الموقوف فيه ضعف أو نكارة فهذا لا يعني أن الجزء المرفوع الوارد في الحديث ضعيف كذلك، هذا إذا سلمنا أن الجزء الموقوف في هذا الحديث ضعيف سندا أو متنا، لكنه ليس بضعيف لا في السند ولا في المتن.

القصة الموقوفة ليس فيها أن عثمان بن عفان رضي الله عنه احتجب عن الرجل، وغاية ما فيها أن عثمان كان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، وربما كان ذلك في أوقات الانشغال، ثم إن الرجل صنع ما قال له عثمان بن حنيف، ثم أتى بابَ عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله عليه، فأجلسه عثمان معه على الطِنفِسة، وقضى له حاجته، وقال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كان الساعة.

فالقصة الموقوفة سندها صحيح وليس فيها غرابة ولا نكارة، فهي بعيدة عن الحكم عليها بالضعف.

قال الشيخ: [العلة الرابعة: أن في هذا الحديث "اللهم شفعني فيه وشفعه فيَّ"، كيف تشفـَّع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، فقد فسرها العلماء بأن معنى "اللهم شفعني فيه": اللهم تقبل دعائي له بالإجابة، و"شفعه فيَّ" معناها: تقبل دعاءه لي بالشفاء].

أقول:

المعقول أن يقول ذلك الرجل "اللهم شفعه فيَّ"، أي اقبل شفاعته فيَّ إذا شَفَع لي، وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة "واشفع تُشفـَّع"، وليس من المعقول أن يقول الرجل "اللهم شفعني فيه"، حتى ولا بذلك التفسير الذي نقله الشيخ ساكتا عليه.

واللفظ الذي جاء في بعض روايات هذا الحديث هو "اللهم فشفعه فيَّ"، دون اللفظ الآخر، وجاء في بعضها "اللهم فشفعه فيَّ وشفعني في نفسي"، وهذان لا غبار عليهما، وجاء في بعضها "اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه"، لكن راويَ هذا اللفظ شك فيه بعد ذلك، فقد قال بعض من رواه عنه: ثم كأنه شك بعدُ في "وشفعني فيه". فسقط اللفظ المستنكر بشك راويه فيه، وبذلك تكون هذه اللفظة "وشفعني فيه" ضعيفة سندا ومتنا.

ـ والخلاصة أن الحديث صحيح بكلا الجزأين المرفوع والموقوف، فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليمُ عثمان بن حُنيف هذا الدعاءَ للرجل في خلافة عثمان بن عفان ثابت كذلك.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 1/ 9/ 1436، الموافق 18/ 6/ 2015، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2022

حديث الجساسة

 

رُوي هذا الحديث عن فاطمة بنت قيس وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

* ـ فأما حديث فاطمة بنت قيس فرواه مسلم [7496 ـ 7499] وأبو داود الطيالسي [1751] وابن أبي شيبة [38675] وابن راهويه [2361] وابن حنبل [27102، 27331، 27350] وأبو داود [4326 ـ 4327] والترمذي [2253] والنسائي في الكبرى [4244] وابنُ ماجه [4074] وابن حبان [6788 ـ 6789]، من ثمانية طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي عنها.

وهذا نص الرواية في صحيح مسلم [7496]:

رواه من طريق عبد الله بن بُريدة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: "ليلزمْ كل إنسان مصلاه". ثم قال: "أتدرون لم جمعْتكم؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتْهم دابة أهلبُ كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟. فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟. قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمَّتْ لنا رجلا فرِقنا منها أن تكون شيطانة، فانطلقنا سراعا، حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟. قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟. قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقيتْنا دابة أهلب كثير الشعر لا يُدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟. فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟. قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق. فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟. قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟. قلنا له: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر، أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟. قال: هل فيها ماء؟. قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، أخبروني عن عين زُغَر. قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟. قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟. قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟. قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتَلَه العرب؟. قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟. فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟. قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤذن لي في الخروج، فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملَك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكةً يحرسونها". قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر: "هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة". يعني المدينة، "ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟!". فقال الناس: نعم. "فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشأم، أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو". وأومأ بيده إلى المشرق، قالت: فحفظتُ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم ينفرد الشعبي وهو إمام ثقة برواية هذا الحديث، فقد رواه أبو داود [4325] وابن أبي عاصم في كتاب الآحاد والمثاني [3180] وأبو يعلى في معجمه [157] والطبراني في الكبير [922 من الجزء 24] من طرق عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس به نحوه.

ـ فاطمة بنت قيس صحابية، لكن هل هي مقبولة الرواية بإطلاق أو هي ممن ينبغي أن يُتوقف في قبول روايتها؟:

جاء في بعض المصادر أنها من المهاجرات الأُوَل!، وفي هذا نظر، فهي أخت الضحاك بن قيس، وهي أكبر منه بعشر سنين، وقد وُلد الضحاك فيما بين السنة الأولى والسنة السادسة من الهجرة، وإذا افترضنا أنه وُلد في السنة الأولى فتكون ولادتها قبل الهجرة بتسع سنوات، فمتى هاجرت حتى تكون من المهاجرات الأُوَل؟!، هذا في غاية البعد، ويبدو أن الإمام الذهبي رحمه الله قد استبعد ذلك، ولذا فإنه اقتصر في كتابه سير أعلام النبلاء على قوله عنها "إحدى المهاجرات".

روتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا يخصها ووهمتْ فيه، وذلك أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة". [صحيح مسلم: 3709، وانظر روايات الحديث عنده في 3698 ـ 3709].

وقد أنكر عليها روايتَها هذه من الصحابة عائشة وعمر رضي الله عنهما، فيبدو أنها لم تكن من أهل الضبط.

ـ فهذا الإسناد لا يُعتمد عليه.

* ـ وأما حديث جابر فرواه أبو داود [4328] والفاكهيُّ في أخبار مكة [1457] وأبو يعلى في مسنده [2164، 2178، 2200] من طريق الوليد بن عبد الله بن جُميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعا به نحوه.

هذا الإسناد لين، لكن الأهم هو أنه معلول، فقد تقدم أنه رواه أبو داود وابن أبي عاصم في كتاب الآحاد والمثاني وأبو يعلى في معجمه والطبراني في الكبير من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس، كما تقدم، وليس عن جابر بن عبد الله، فرجع هذا الطريق إلى أنه طريق من طرق الحديث عن فاطمة بنت قيس.

وسئل الدارقطني في العلل [3290] عن هذا الحديث من طريق أبي سلمة عن جابر فقال: "يرويه الوليد بن عبد الله بن جُميع عن أبي سلمة عن جابر، وخالفه الزهري، رواه عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس، وقول الزهري أشبه بالصواب".

* ـ وأما حديث أبي هريرة وعائشة فرواه الطبراني في المعجم الكبير [برقم 960 من الجزء 24] عن الحسين بن إسحاق عن عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني عن الشعبي عن محرر بن أبي هريرة عن أبيه، وعن الشعبي عن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة.

[الحسين بن إسحاق التستري صدوق. عثمان بن أبي شيبة ثقة له أوهام. محمد بن فضيل صدوق. سليمان بن أبي سليمان الشيباني ثقة. عامر بن شراحيل الشعبي ثقة. محرر بن أبي هريرة ذكره ابن حبان في الثقات. عبد الله بن أبي بكر لم أجد رجلا بهذا الاسم في شيوخ الشعبي ولا في الرواة عن عائشة]. فهذا الطريق ضعيف.

ـ ورواه ابن منده في كتاب الإيمان [1057] عن محمد بن الحسين بن الحسن عن أحمد بن الأزهر بن منيع عن أسباط بن محمد عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني عن الشعبي عن محرر بن أبي هريرة عن أبيه، وعن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة.

[محمد بن الحسين بن الحسن القطان الراوي عن أحمد بن الأزهر بيَّض له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والذهبي في تاريخ الإسلام. أحمد بن الأزهر بن منيع صدوق. أسباط بن محمد ثقة له أوهام]. فهذا الطريق ضعيف.

ـ ورواه الحميدي [368] وابن أبي شيبة [38791] وابن راهويه [2362 ـ 2364] وابن حنبل [27101، 27349] والطبراني في الكبير [برقم 961 من الجزء 24] من طرق عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه، وعن القاسم بن محمد عن عائشة.

[مجالد بن سعيد ضعفه العلماء تضعيفا شديدا، وقال ابن حنبل: ليس بشيء. وقال عبد الرحمن بن مهدي: حديث مجالد عند الأحداث يحيى بن سعيد وأبي أسامة ليس بشيء. وقال يحيى بن سعيد لمن أراد أن يكتب السيرة عن وهب بن جرير عن أبيه عن مجالد: "تكتب كذبا كثيرا، لو شئتُ أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فَعَل"]. فهذا الطريق شديد الضعف.

ـ ولحديث أبي هريرة طريق آخر رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير عن محمد بن أبي بكر عن سعد بن زياد أبي عاصم عن مولاه نافع عن أبي هريرة، ذكره البوصيري في كتابه إتحاف الخيرة المهرة [5596] وابن كثير في كتاب النهاية في الفتن والملاحم.

[محمد بن أبي بكر المقدمي بصري صدوق ثقة مات سنة 234. أبو عاصم سعد بن زياد روى عن نافع مولى حمنة بنت شجاع وغيرِه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه وليس بالمتين. وذكره الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء وفي ميزان الاعتدال ونقل فيهما قول أبي حاتم ليس بالمتين. نافع مولى حمنة ذكره ابن حبان في الثقات]. فهذا الطريق ضعيف.

* ـ خلاصة البحث في الإسناد أنه ضعيف، وأما المتن فمنكر، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 20/ 1/ 1444، الموافق 18/ 8/ 2022، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

  

الاثنين، 15 أغسطس 2022

المصالح إنما اعتُبرت مصالحَ من حيث وضعها الشارع

قال الشاطبي رحمه الله في كتاب الموافقات: "لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع، لأن المصالح إنما اعتُبرت مصالحَ من حيث وضعها الشارع كذلك". ثم قال: "الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتُبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات". فتيقظ.  

 

الاثنين، 8 أغسطس 2022

* ـ هل اليهودية والنصرانية والإسلام أديان ثلاثة أو هي دين واحد؟:

هذا تساؤل يدور في هذه الأيام عند كثير من الناس، وكلٌّ يدلي بدلوه، وأرى لزاما عليَّ أن أبيِّن ما أراه الصواب، معتمدا على ما في كتاب الله عز وجل وما في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الملخص هو أن هنالك ثلاثة أجوبة اليوم على هذا التساؤل:

* ـ القول الأول هو أن اليهودية والنصرانية والإسلام دين واحد وأن مَن آمن مِن أهل هذه الأديان بنبي واحد من أولئك الأنبياء وبكتاب واحد من تلك الكتب السماوية المنزَّلة على الأنبياء فإيمانه ينجيه في الآخرة وهو مقبول عند الله تعالى!، وهذا القول ظاهر البطلان، لأنه يجعل الإيمان بالنبي السابق مع الكفر بالنبي اللاحق مقبولا!، ويجعل مَن آمن بالأنبياء السابقين والكتبِ المنزَّلة عليهم مع عدم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم المنزَّل عليه مقبولا عند الله!، ولو كان الأمر كذلك لكان إرسالُ النبي اللاحق وطلبُ الإيمان به نوعا من العبث، وجلَّ ربنا وتعالى عن ذلك.

كتبُ أهل الكتاب فيها نصوص كثيرة تدل على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وما يزال بعضها باقيا بأيديهم إلى اليوم على الرغم من التحريف الذي وقع فيها والذي يعترف به كثير من علماء أهل الكتاب، وما زالوا يقرؤون أحد النصوص عندهم وهو بلفظ "محمد"، يقرؤونه هكذا "محمد"، وهنالك دراسات كثيرة قام بها باحثون تذكر ما بقي من تلك النصوص في كتب أهل الكتاب حتى اليوم.

لو لم يكن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب المُوحَى به إليه واجبا لكان في كلام الله عز وجل تناقض، وحاشاه من ذلك.

هذا وقد قال الله عز وجل في القرآن العظيم {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَـمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}.

وقال الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين}. وإذا كان إيمانهم بما آمنوا به دون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن إيمانا مقبولا عند الله فلمَ جاء النهي عن اتخاذهم أولياء؟!، ولمَ جاء التهديد بأن مَن يتولاهم فإنه منهم؟!.

ولا تنسَ أن الله عز وجل قد جعل أهل الكتاب والمشركين داخلين في مسمى "الذين كفروا"، إذ يقول عز وجل في القرآن العظيم {لم يكن الذين كفروا مِن أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة}، وكلمة "مِن" في قوله تعالى {مِن أهل الكتاب والمشركين} بيانية، أي إن أهل الكتاب والمشركين هم من الذين كفروا.

وروى مسلم في صحيحه وابن حنبل من طريقين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسِلت به إلا كان من أصحاب النار".

يقول بعض الناس إن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم على ملة واحدة، هي ملة إبراهيم عليه السلام، وهي عقيدة التوحيد، ويتجاهلون أنه لا يتم إيمان من أدرك سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به وبما أُنزل إليه وهو القرآن، ولو جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام اليوم ورأى أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته والكتابِ الذي أنزِل عليه لتبرَّأ منهم، فقد قال ربنا عز وجل {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين، إن أوْلى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، والله ولي المؤمنين}.

فالقائلون بهذا القول مخالفون لما في كتاب الله تعالى مخالفة ظاهرة، خارجون عن إجماع الأمة كلها وعن دين الإسلام، وقد قال الله عز وجل {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

* ـ القول الثاني الذي أراه صحيحا راجحا هو أن تلك الرسالات هي أديان سماوية ثلاثة، وهي مُوحًى بها من الله جل جلاله للنبيين المرسَلين موسى وعيسى ومحمدٍ عليهم صلوات ربي وتسليماته، وأن كل واحد منها يشمل الاعتقاد والأخلاق والتشريعات العملية في العبادات والمعاملات، وأنه لا اختلاف بينها في أصول الاعتقاد والأخلاق، لكن تختلف في كثير من التشريعات العملية في العبادات والمعاملات.

هنالك عدد من الاستدلالات والقرائن تشير إلى رجحان هذا القول:

منها أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث للعالمين كافة، ولقيَ كثيرا من اليهود والنصارى وكتبَ رسائلَ للملوك وبعضُهم نصارى، وكان يدعوهم للإيمان بالدين الذي أُوحي به إليه من الله تعالى ولم يجئ عنه إطلاقا أنه قال لهم إن ديننا واحد، ولا أنه قال لهم إن الدين واحد فتعالوْا نتباحث في حقيقة الدين مثلا.

ومنها أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم {يا أهل الكتاب لا تغْلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}، فإذا كان الدين واحدا فلمَ جاء الخطاب لهم بلفظ {لا تغْلوا في دينكم}؟!، ولو كان الدين بيننا وبينهم واحدا لجاء الخطاب بلفظ "لا تغْلوا في الدين".

ومنها ما روتْ أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في قصة الهجرة إلى الحبشة، حيث ذكرت أن النجاشيَّ سأل الصحابة الذين كانوا عنده فقال: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟!". وكان النجاشي إذ ذاك نصرانيا، فلم يقل واحد منهم لا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ولا غيره إن ديننا واحد. [هذه القصة رواها ابن إسحاق في السيرة وابن حنبل في مسنده بسند صحيح].

ومنها ما رواه ابن حنبل في المسند عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أمَا إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم». ورواه كذلك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما ينتظرها أحد من أهل الأديان غيركم». [والسند صحيح].

لا شك في أن أول من ينصرف إليهم ذهن الصحابة المخاطَبين بهذا القول هم أهل الكتاب، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليهم بقوله «من أهل الأديان»، وهذا يعني أن ديننا ودينهم أديان وليست دينا واحدا.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، وهذا يعني أن مسمَّى الدين ليس هو الإيمانَ والإحسانَ فقط، وإنما يشمل الإسلام كذلك، ومن المعلوم قطعا أن شرائع الإسلام تختلف، فلا يمكن أن تكون اليهودية والنصرانية والإسلام دينا واحدا، وربنا جل وعلا يقول {لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.

ـ هل كل الأنبياء دينهم هو الإسلام؟:

الإسلام هو الاستسلام، تقول للرجل أسلمْ، ومعناها استسلمْ، أي الزم الخضوعَ والانقياد والإذعان، والمراد هنا الخضوع والانقياد والإذعان لله رب العالمين، وبهذا المعنى فدعوة كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الإسلام والاستسلام التام لله سبحانه وتعالى. هذا من حيث المعنى.

أما من حيث التسمية فالإسلام هو الدين الذي أرسل الله عز وجل به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأتباعه هم المسلمون ودينهم هو دين الإسلام، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى {هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملةَ أبيكم إبراهيم، هو سمَّاكم المسلمين}.

إذا كان كل أتباع الديانات السماوية يصح أن نسميهم مسلمين فلمَ جاء قوله تعالى خطابا لنا معشرَ الأمة المحمدية {هو سمَّاكم المسلمين}؟!.

* ـ هناك قول ثالث أراه صحيحا مرجوحا لا يختلف في حقيقته عن القول الثاني في شيء سوى في مسألة واحدة يختلفان فيها اختلافا لفظيا، خلاصته هي أن تلك الرسالات السماوية إنما هي دين واحد بالنظر إلى أنها مُوحًى بها من الله جل جلاله وأنه لا اختلاف بين تلك الرسالات في أصول الاعتقاد، وأنه لا يتم إيمان أحد من أتباع تلك الرسالات إلا بأن يؤمن بكل الأنبياء والمرسلين الذين أدركهم وبالكتب الإلهية المنزَّلة عليهم.

وهذا يعني أن أي واحد من أتباع الرسالة اليهودية أو النصرانية إذا أدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به نبيا ورسولا أو لم يؤمن بالقرآن الكريم كتابا مُوحًى به من الله جل جلاله ومنزَّلا عليه فليس بمؤمن أصلا.

أهل هذا القول مقرُّون بأن الإيمان بأنبياء الله تعالى ورسله كلِّهم وبالكتب السماوية كلِّها هو من العقائد التي جاءت بها كل الرسالات السماوية، وأن كل مَن آمن بنبي من أنبياء الله تعالى وبما أُرسل به فإن إيمانه لا يصح إلا بأن يؤمنَ بكل الأنبياء السابقين ويعقدَ العزم على الإيمان بكل الأنبياء اللاحقين وبكل ما يبلغونه عن الله، ومنه الإيمانُ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وأنه خاتِم النبيين والمرسلين وبالقرآن الكريم كتابا منزَّلا من الله عز وجل، وهذا لكل من أدرك بعثة هذا النبي الكريم عليه صلوات الله وسلامه.

وذلك للأدلة القطعية الكثيرة في هذا، منها ما تقدم من قبل، ومنها قوله تعالى {ورحمتي وسعتْ كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}، ومنها قوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة، قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحِي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

وههنا نقطة قد يكون فيها شيء من الغموض لا بد من إيضاحها، تلك هي أن أتباع الديانات السابقة ممن آمنوا بسيدنا موسى أو بسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام قد أُخِذ عليهم الميثاق بوجوب الإيمان بنبي مذكور في كتابَيْهم باسمه ونعته، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله فقد اختل إيمانهم بالدين الذي يظنون أنهم مؤمنون به أصلا.

إذا كان الأمر كذلك فلا خلاف في مسألة الإيمان المنجي من عذاب الآخرة والمقبولِ من رب العالمين، وينحصر الخلاف بعد ذلك في أننا هل نسمي الرسالات السماوية أديانا أو نقول إنها دين واحد بالمعنى الذي سبق بيانُه، وعلى هذا فمن قال إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم في العقائد واحدة ودينهم واحد بهذا المعنى فهذا صحيح لا يختلف فيه اثنان إلا من حيث التسمية.

ـ بقيت ههنا نقطة لا بد من التحدث عنها، هي أن أهل هذا القول يستدلون على قولهم بإحدى الروايات المروية عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن البخاري ومسلما رحمهما الله رويا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد عَلَّات، ليس بيني وبينه نبي». هذا حديث ثابت بهذا اللفظ، وفي بعض طرق هذا الحديث عندهما زيادة "ودينهم واحد". [قوله "أولاد عَلَّات" أي إخوة لأب واحد وأمهاتهم شتى، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة].

لو صحتْ زيادة هذه اللفظة "ودينهم واحد" لكان في هذه الرواية حجة لصحة هذا القول، لكنها ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الإمام مسلم رحمه الله إلى أن هذه الزيادة معلولة.

وهذا ما جعلني أرجح ما جاء في القول الثاني وهو أن الرسالات السماوية هي أديان متعددة وليست دينا واحدا.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 7/ 1/ 1444، الموافق 5/ 8/ 2022، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 


الجمعة، 24 يونيو 2022

هل البيت بيت الزوجة والرجل يسكن عندها؟

قال بعض الناس: "المعلوم أن الرجل مالك بيته ولكن الرجل يسكن عند زوجته، {لتسكنوا اليها}، نعم، إنها بيوت زوجاتكم!".  

أقول:  

لقد كرَّم الإسلام المرأة وطيَّب خاطرها، ومن ذلك أن الله عز شأنه نسب البيوت للزوجات في بعض الآيات تطييبا لخاطرهن، فقال تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، وقال تعالى لأمهات المؤمنين {وقرْن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}، وقال تعالى لهن {واذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}.  

لكن هل يصح أن يقال للرجل الذي اشترى البيت ليكون مسكنا له ولأسرته: إن الرجل يسكن عند زوجته!، وإن البيوت هي بيوت زوجاتكم؟!.  

هذا لا يصح، وهو تلاعب بلغة العرب، وهو تحريف لمعاني كلام الله عز وجل وتوطئة لمن يريدون أن يبدلوا كلام الله.  

الرجل يسكن إلى زوجته، أي تشعر نفسه بالسكينة مع الزوجة الصالحة، فهو يسكن إليها، وليست هي مالكةَ البيت وهو ساكن عندها!. و شتان بين أن تسكن إليها وبين أن تسكن عندها.  

* ـ ثم إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم {ولا على أنفسِكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم}، وقال {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}، وقال {واللهُ جعل لكم من بيوتكم سكنا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".  

* ـ لا إشكال في أن يُنسب البيت للزوجة من باب البر بها وأن تقول لها أنت صاحبة البيت أو راعية البيت.  

أما أن يقال إن البيت بيتها والرجل ساكن عندها فهذا تحريف لمعاني القرآن والسنة.  

الذي يقول للناس "بيوتكم ليست لكم وهي بيوت زوجاتكم" كلامه غير صحيح، وربما يتخذ العالَمانيون مثل هذا الكلام وسيلة لتحطيم اللغة وتحريف معاني القرآن.  

* ـ ينبغي أن ننتبه لخطر الأساليب الملتوية.  

هنالك أناس لا يعجبهم أن نتواصى بالبر والعطف والإحسان للنساء!، ويرون أن هذا من الفكر الرجعي المرتبط بالأديان وهي عندهم قِيَم وأحكام بالية يجب أن نتجاوزها.  

هذا الحبل طرفه الآن هنا ونعرف وِجهته، فأين منتهاه؟!، ومتى سيصل؟!. الله أعلم.  

نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا وأحبابنا ولسائر عباد الله أجمعين.  

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي.  

  

الأربعاء، 27 أبريل 2022

نبذة من مقدمة كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار

 

قلت في مقدمة هذا الكتاب: بيَّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين ما قد يقع في كثير من المناظرات من آفات، فأقتبسُ من بعض مقاصد كلامه رحمه الله فأقول: ينبغي أن يكون الغرض من المناظرة المباحثةَ لإظهار الحق، فإن الحق مطلوب، والتعاونَ على النظر في العلم وتواردِ الخواطر بغية الوصول للحق مفيد، وهو من الدين، ولكن ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق تركَ ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانُه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا، فأي فائدة لمثل هذا في المناظرة ؟!!، كما ينبغي أن يكون المناظِر في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى من يناظره رفيقَ دربه ومعينا له للوصول إلى الضالة المنشودة، لا خصما، بل يشكره إذا عرَّفه وجه الخطأ وأظهر له الصواب، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبَّهه صاحبه على أنها في طريق آخر، فإنه يشكره ولا يذمه، بل يكرمه ويفرح به.

وما أجمل قوله "ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق ترك ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا". فرحمه الله رحمة واسعة.

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: "وأما اتباع العقل الصِرف فلا يقْوَى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقوَّاهم على اتباعه، وإن أردتَ أن تجرب هذا في الاعتقادات فأوردْ على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذباً بعين ما صدق به مهما كان سيئ الظن بالأشعري، إذ كان قَبُحَ في نفسه ذلك منذ الصِبا، وكذلك تقررُ أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبْع العوام! بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم!، فإنهم لم يفارقوا العوامَّ في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم ـ في نظرهم ـ لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد اعتقادهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المُتَلَقَّف بالتقليد أصلاً، وينبزون بالشبهة كلَّ ما يخالفه وبالدليل كلَّ ما يوافقه، وإنما الحق ضده!، وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظرَ إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقدم الإلف والتخلق بأخلاقٍ منذ الصبا".

وقال ابن تيمية رحمه الله: "فمن صار إلى قولٍ مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصبَ لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزِمَ حكمَ التقليد فلم يرجِّحْ ولم يزيِّفْ ولم يصوِّبْ ولم يخطِّئْ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه، فقُبل ما تبين أنه حق، ورُدَّ ما تبين أنه باطل، وتُوقف فيما لم يتبين فيه أحد الأمرين". [دقائق التفسير: 2/ 24. الفتاوى الكبرى: 1/ 175].

وقال رحمه الله: "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء". [دقائق التفسير: 2/ 13. الفتاوى الكبرى: 1/ 160]. فرحمه الله رحمة واسعة.

ولا بد في هذه المقدمة من الإشارة لحال بعض الناس، ترى أحدهم مقلدا في العقيدة، بعيدا عن الخوض في الأدلة، ومع ذلك يقحم نفسه في مضمار ليس هو من أهله، فيرجِّح ويزيِّف ويصوِّب ويخَطِّئ، وقد يصل الحال ببعضهم إلى نصرة القول المرجوح وكتمان الحق البيِّن وغمْط الناس واتهام الآخَرين بما هم منه بريؤون، ظنا منه بأنه يرجو أجر ذلك وثوابه في مجابهة هؤلاء المبتدعة بزعمه!!، لأن الذي يقلده في ظنه هو صاحبُ الحق المطلق، ولا يدري أن الأمر في غاية الخطورة، فإن التقليد ليس من العلم، وغير العالم لا شأن له فيما ليس له به علم. {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.

وصدق الله العظيم وهو القائل في محكم كتابه المبين "بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه".

فمن رمى أخاه المسلم بالكفر أو الابتداع ولا حجة له به سوى أن قلد مَن سبقه فحجته داحضة عند ربه.

  

الجمعة، 22 أبريل 2022

aحديث "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"

 

 هذا الحديث رواه ابن حنبل [10629، 9474] وأبو داود [2350] والدارقطني [2182] والحاكم [729، 740، 1552] والبيهقي في السنن [8098 تركي] وفي الخلافيات [1119] من طريق جماعة أحدهم روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه".

[حماد بن سلمة بصري ثقة فيه لين. محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين، وهذه بعض أقوال النقاد فيه: وثقه يحيى بن معين في عدد من الروايات عنه، وقال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار: من جِلة أهل المدينة ومتقنيهم. لكنْ ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: كان يخطئ. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يُستضعف. وقال ابن أبي خيثمة في كتاب التاريخ: سمعت يحيى بن معين يقول: لم يزل الناس يتقون حديث محمد بن عمرو، كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقال ابن حنبل: ربما رفع أحاديث يوقفها غيره، وهذا من قِبَله. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث يُكتب حديثه وهو شيخ]. فهذا الطريق لين.

ورواه ابن حنبل [10630] عن روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة به نحوه.

[روح بن عبادة بصري صدوق ثقة فيه لين ومات سنة 205. عمار بن أبي عمار مكي ثقة فيه لين]. فهذا الطريق فيه لين، وهو معلول بعلة الوقف على الصحابي، كما قال أبو حاتم الرازي.

قال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عن حديث رواه روح بن عبادة عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"؟، وقلت لأبي: وروى روح أيضا عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله؟!. فقال أبي: "هذان الحديثان ليسا بصحيحين، أما حديث عمار فعن أبي هريرة موقوف، والحديث الآخر ليس بصحيح".

ـ واعلمْ أن هذا الحديث بطريقيه مخالف لقول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}.


من العجيب أن يقول أحد الباحثين: [جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث صحيح وفيه بيان يُسر الإسلام "إذا سمع أحدكم النّداءَ والإناءُ على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"، أي إذا سمع أحدكم النّداء وإناء الطعام سواء كان حليبا أو ماءً أو أي شيء مما يتسحّر به المتسحّر فسمع الأذان فلا يقول الآن حَرُم الطعام، لا يحرُم الطعام بالأذان إلا لمن كان مكتفيا منه، فلا يجوز له أن يزداد شرابا أو فاكهةً وقد قضى وطره من كل ما كان يأكل منه، أما إذا سمع الأذان وهو لمَّا ينتهِ بعدُ من أن يأخذ حاجته من طعامه وشرابه فالرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يبيح له ذلك، فيقول صراحةً وبلسانٍ عربي مبين "إذا سمع أحدكم النّداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". وهذا الحديث موجود في أشهر كتب السنة التي منها سنن أبي داوود، وهو الكتاب الثالث من الكتب الستة المشهورة، وكذلك رواه أبو عبد الله الحاكم في مستدركه، وكذلك أخرجه الإمام إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه العظيم المعروف بمسند الإمام أحمد، فهذا الحديث إذن ليس من غرائب الأحاديث، بل هو من الأحاديث المشهورة التي رواها أئمة السنة القدامى وبالسند الصحيح]!!!.  

أقول: هذا كلام بعيد عن التحقيق، ولا يجوز العمل به، وإلى الله المشتكى.  


الخلاصة:

هذا الحديث إسناده لين، ومتنه منكر، فهو ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فاحذر أيها الأخ المسلم من أن تغرك كلمة يقولها مَن ليس براسخ في العلم فيبيح لك أن تأكل أو تشرب شيئا بعد الفجر الصادق، فإن فعلتَ فقد أفسدتَ صومك.

 

الثلاثاء، 12 أبريل 2022

أهمية الشورى وأن لا يحكم الأمير برأيه دون مشورة

قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: [باب قول الله تعالى {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر}، وأن المشاورة قبل العزم والتبيُّن، لقوله {فإذا عزمت فتوكل على الله}، فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدمُ على الله ورسوله، وشاور النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المُقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لَأْمته وعزم قالوا أقمْ، فلم يملْ إليهم بعد العزم، وقال «لا ينبغي لنبي يلبس لَأْمته فيضعها حتى يحكم الله»، وشاور عليًّا وأسامة فيما رمى به أهلُ الإفك عائشة، فسمع منهما، حتى نزل القرآن، فجلد الرامِين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكنْ حكمَ بما أمره الله، وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وَضَحَ الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ مَن فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورةٍ إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من بدل دينه فاقتلوه»، وكان القراء أصحابَ مشورة عمر، كهولا كانوا أو شبانا، وكان وقَّافا عند كتاب الله عز وجل].  


الخميس، 7 أبريل 2022

حديث "أليس قد صام بعده رمضان؟! فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض"

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين

رُوي هذا الحديث من رواية طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وعبيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص مع ناس من الصحابة:

* ـ فأما حديث طلحة رضي الله عنه فرواه ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه ابن حنبل والبيهقي في الزهد وأبو يعلى والطحاوي في مشكل الآثار والشاشي من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".

ورواه ابن حنبل من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة به مرسلا، لكن الرواية المرسلة لا تضر الرواية المروية عن أبي سلمة عن طلحة رضي الله عنه، لأنها جاءت من طريقين عنه عن طلحة.

[محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ثقة فيه لين مات سنة 120. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق فيه لين. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مدني ثقة ولد سنة 22 أو بعدها ومات سنة 94 أو بعدها].

أبو سلمة لم يسمع من طلحة الذي مات سنة 36، ولم يسمع ممن مات من الصحابة بالمدينة سنة 42 أو سنة 45، فالسند منقطع، فهو ضعيف.

ـ ولهذا الحديث طريق آخر عن طلحة رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله. [سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ضعيف. أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بيض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. سليمان بن عيسى بن موسى لم أجد له ترجمة. موسى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة ثقة مات سنة 104]. فهذا الطريق تالف.

ـ وله طريق آخر عن طلحة رواه البخاري في التاريخ الكبير والبزار وأبو يعلى والشاشي من ثلاثة طرق عن عبد الله بن داود عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد عن طلحة بن عبيد الله به نحوه. [عبد الله بن داود بن عامر الخُريبي ثقة مات سنة 213. طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة، صدوق فيه لين ولد سنة 61 ومات سنة 148. إبراهيم مولى آل طلحة مجهول. عبد الله بن شداد مدني تابعي ثقة ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات سنة 82]. فهذا الطريق شديد الضعف.

ورواه النسائي في الكبرى عن زكريا بن يحيى خياط السنة عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد عن طلحة، والحديث من هذا الطريق ظاهره أنه جيد، ولكنه معلول بعلتين:

إحداهما الإرسال، فقد رواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاريُّ في التاريخ الكبير والنسائيُّ في الكبرى من طرق عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد مرسلا.

الثانية أن طلحة بن يحيى روى هذا الحديث ـ في رواية أحد الثقات عنه ـ عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا مجهول، ورواه ـ في رواية ثقتين آخرين عنه ـ عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا ثقة، فمن أي الإبراهيمَين سمع طلحة هذا الحديث؟!، لا يمكن هنا ترجيح رواية من صرح بأنه إبراهيم بن محمد بن طلحة وتوهيم من قال هو إبراهيم مولى لهم، لأن مثل هذا ليس محلَّ توهم، وخاصة من ثقة متفق على توثيقه كعبد الله بن داود الخريبي، فهذا اضطراب شديد من طلحة بن يحيى يدل على غفلته وسوء حفظه. وهذا يؤكد ضعف هذه الرواية.

* ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن حنبل وابن أبي شيبة في المسند والبزار من طريق محمد بن بشر وزياد بن عبد الله، كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.

ورواه الطحاوي في مشكل الآثار عن إبراهيم بن مرزوق وهو ثقة فيه لين عن سعيد بن عامر وهو ثقة فيه لين عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به مرسلا. والإرسال ليس مظِنة الخطأ.

محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين وخاصة في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه منها، وروايته عن أبي سلمة هنا ضعيفة، لاضطرابه فيها، فقد تقدم أنه روى هذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، ورواه هنا مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة عن أبي سلمة مرسلا، وهذا يعني أنه لم يضبط الإسناد في هذا الحديث، والصواب من هذه الروايات هو روايته لهذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، لأنها موافقة لما رواه الراوي الثقة محمد بن إبراهيم التيمي، فظهر بهذا أن روايته إياه عن أبي هريرة ضعيفة.

* ـ وأما حديث عبيد بن خالد فرواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي وأبو داود في السنن وابن أبي خيثمة في تاريخه وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن رُبَيِّعة السلمي عن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقـُتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلـَّوْا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟!. قالوا: دعونا الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله وصيامه بعد صيامه؟!، لَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".

[عمرو بن مرة كوفي ثقة مات سنة 118. عمرو بن ميمون الأودي كوفي ثقة مات سنة 74. عبد الله بن رُبيِّعة السلمي ذكره ابن حبان في الثقات في طبقة الصحابة وقال له صحبة، ثم أعاده في طبقة التابعين، ثم ذكر في طبقة التابعين عبد الله بن رُبَيِّعة الراوي عن عبيد بن خالد ولم يقل فيه السلمي، وهذا يعني أنه جازم بأن الراوي عن عبيد بن خالد ليست له صحبة]. عبد الله بن رُبَيِّعة لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، فهذا السند ضعيف.

* ـ وأما حديث سعد وناس من الصحابة فرواه ابن حنبل وابن خزيمة من طريق عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت سعدا وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عُمِّر الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضْل الأول على الآخر، فقال: " ألم يكن يصلي؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله وكان لا بأس به. فقال: "ما يدريكم ماذا بلغت به صلاته؟!". ثم قال عند ذلك: "إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمْرٍ عذبٍ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فماذا ترون يبقِي ذلك من درنه؟!". وذكره مالك في الموطأ أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به.

[مخرمة بن بُكير بن عبد الله بن الأشج مدني مات سنة 159، وثقه ابن سعد وعلي بن المديني وأحمد بن صالح المصري، وقال ابن حنبل: ثقة إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يُحتج بروايته من غير روايته عن أبيه لأنه لم يسمع من أبيه ما يروي عنه. وذكره في مشاهير علماء الأمصار وقال: مِن متقني أهل المدينة، في سماعه عن أبيه بعض النظر. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري عنه: ضعيف، ضعيف الحديث، ليس حديثه بشيء. وقال في رواية ابن محرز عنه: لا يُكتب حديثه. وذكره العُقيلي في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف، حديثه ليس بشيء. وذكره ابن شاهين في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف]. فهذا الإسناد ضعيف.

ثم إنه معلول، فقد روى ابن حنبل وعبد بن حميد وابن ماجه والبزار ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة وأبو العباس السراج في حديثه والطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في شعب الإيمان من طريق صالح بن عبد الله بن أبي فروة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيت لو كان بفِناء أحدكم نهر يجري يغتسل منه كل يوم خمس مرات ما كان يبقى من درنه؟!". قالوا: لا شيء. قال: "إن الصلوات تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن".

وهذا من إعلال أحد الحديثين المتشابهين إذا وقع في سنده تفرد في مقابلة الحديث الآخر منهما إذا رواه أكثر من واحد. [يُستحسن لمعرفة وجه الإعلال مراجعة المطلب الأول من النوع السابع من منهج الإمام البخاري في إعلال المرويات الحديثية].

* ـ خلاصة الأمر أن أسانيد هذا الحديث كلها ضعيفة، والحديث لا يرتقي بمجموع هذه الطرق لأنه شاذ منكر.

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، وروايات هذا الحديث تفضل من لم يجاهد وعاش زيادة سنة وصلى وصام رمضان!، تفضله على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا من صاحبه الذي عاش بعده!.

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار العدد على معيار الجَوْدة من البذل والتضحية والإخلاص!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل تلك المعايير المنحرفة!، وإلى الله المشتكى.

* ـ لا شك في أن روايات هذا الحديث ضعيفة الأسانيد منكرة المتن، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 5/ 9/ 1439، الموافق 20/ 5/ 2018، والحمد لله رب العالمين.