الخميس، 30 أغسطس 2018

بدعة الإرجاء والمرجئة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد كثر الكلام عن الإرجاء والمرجئة في هذه الأوقات الصعبة في بلاد الشام، حيث يريد كثير من الناس أن يستبيحوا حرمات المسلمين بالقتل والجلد بدعوى أن هؤلاء ليسوا على السنة! وأنهم مرجئة!.
من بدع الاعتقاد التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصر السلف منذ وقت مبكر بدعة المرجئة، وهم فرقة من المسلمين الذين ابتدعوا في العقيدة، وهي من شر الفرق، وبدأ ظهورها في زمن التابعين، فأنكر عليها السلف والخلف أشد الإنكار.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث". [مجموع الفتاوى: 7/ 395]. أي بعد قيام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وجمعٍ كبير من سادات التابعين رحمهم الله على الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 82.
تدل النصوص المنقولة في ذم المرجئة على أنهم تمسكوا بنصوص الوعد وعطلوا نصوص الوعيد، وفسروا الإيمان المنجي من عذاب الله ـ تبعا لذلك ـ بأنه إيمان القلب وإن لم يكن معه عمل!، كأنهم يرون فعل المأمورات واجتناب المحظورات نافلة من النوافل!.
وهذه بعض النصوص التي تتبين فيها حقيقة بدعتهم ووجهُ إنكار الأئمة عليهم:
ـ روى ابن بطة في الإبانة الكبرى واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة من طريقين عن أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: حدثنا خالد بن حيان قال حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا، فحججتُ، فدخلتُ على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، فأخبرته أن قومًا قِبَلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: "أوَليس الله عز وجل يقول {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}؟!، فالصلاة والزكاة من الدين". فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة!. فقال: "أوَليس قد قال الله فيما أنزل {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}؟!". قال: ثم قدمتُ المدينة فجلست إلى نافع، فذكرت له قولهم، قلت إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك. فنتر يده من يدي وقال: "من فعل هذا فهو كافر". [الإبانة الكبرى لابن بطة: 2/ 808. شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 5/ 1024]. هذا وقد نقل ابن تيمية هذا النص عن ابن حنبل مع الإقرار.
[خالد بن حيان الرقي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 191. معقل بن عبيد الله العبسي حراني صدوق ثقة فيه لين مات سنة 166]. فالسند لا بأس به. وعطاء بن أبي رباح من سادات التابعين بمكة، مات سنة 114، ونافع هو مولى عبد الله بن عمر تابعي ثقة مات سنة 119 تقريبا].
قف مليا عند قوله "قالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين"، فإنهم لم يقولوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان وهما من الإسلام بل من أهم أركان الإسلام، فهما من الدين.
ـ قد يقول قائل: إن نافعا كفرهم في هذا النص المنقول فهل هم كفار؟!. أقول: من كان عنده الحد الأدنى من الإيمان ولم يعمل حسنة قط فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه من دائرة الإيمان، ولكن الحد الأدنى من الإيمان يقتضي أن يكون في القلب تعظيم لله وخضوع لأمره وإن لم يتحقق العمل في الواقع، والذين كفـَّرهم نافع رحمه الله يظهر من طريقة جوابهم أنهم مستكبرون على الله تعالى معاندون له، وأنه ليس في قلوبهم تعظيم له ولا خضوع، فلهذا كفرهم.
ـ روى إسحاق بن راهويه في مسنده عن العلاء بن عبد الجبار عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أنه قال: يقولون إيمان فلان كإيمان فلان!، أترون إيمان فهدان مثل إيمان جبريل؟!. وكان فهدان رجلا متهما بالشراب. [مسند إسحاق بن راهويه: 3/ 669]. [العلاء بن عبد الجبار صدوق. نافع بن عمر الجمحي ثقة ثبت]. وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة مكي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 117.
ـ مما يدل على استهانة المرجئة بأمر المعاصي أن التابعي الثقة أبا وائلٍ شقيقَ بن سلمة المتوفى سنة 83 رد عليهم بحديث "سباب المؤمن فسق وقتاله كفر"، ولو لم يعلم استهانتهم بذلك لما رد عليهم بهذا الحديث، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي والبخاري في صحيحه وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم عن شعبة عن زبيد اليامي أنه أتى أبا وائلٍ شقيقَ بن سلمة لما ظهرت المرجئة يشكو له الحال، فروى له أبو وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المؤمن فسق وقتاله كفر". [مسند الطيالسي: 1/ 200. صحيح البخاري: 1/ 19. المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم: 1/ 151].
قال ابن حجر في فتح الباري: وعُرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال كيف تكون مقالتهم حقا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟!. [فتح الباري لابن حجر: 1/ 112].
ـ روى الطبري في تهذيب الآثار من طريق سلام بن أبي مطيع أنه قال: سمعت أيوب السختياني وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول "إنما هو الكفر والإيمان" وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: "أرأيتَ قول الله تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أمؤمنون أم كفار؟!". فسكت الرجل، فقال له أيوب: "اذهب فاقرأ القرآن، فقلَّ آية في القرآن فيها ذكر النفاق إلا أخافها على نفسي". [مسند ابن عباس من تهذيب الآثار للطبري: 2/ 677]. [سلام بن أبي مطيع بصري ثقة فيه لين].
يدل هذا النص على أهم مداخل الشبهة إلى فكر المرجئة، وهو توهمهم أن الاعتقاد هو أحد قسمين على معنى التمام والكمال!، فالمرء عندهم إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، وحيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس كافرا تام الكفر فهو ـ عندهم ـ مؤمن تام الإيمان!. وهم بهذا على النقيض من قول الخوارج الذين يرون أن المرء إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، لكن حيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس مؤمنا تام الإيمان فهو ـ عندهم ـ كافر تام الكفر!.
وقد أشار أيوب بن أبي تميمة السختياني رحمه الله في جوابه هذا إلى قولِ الله تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}، وقولِه تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}، وسأل أيوبُ ذلك القائلَ عن هؤلاء أمؤمنون هم أم كفار؟!، فلم يجد الرجل أمامه سوى السكوت، حيث إن في تلك الآيات القرآنية الكريمة النصَّ الواضحَ البيِّن على أن الذين اعترفوا بذنوبهم وقد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا هم ممن يُرجى أن يتوب الله عليهم، ولو كانوا كافرين لما دخلوا تحت المشيئة.
ـ قال الخلال في كتاب السنة: قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: فإذا كان المرجئة يقولون إن الإسلام هو القول؟!. فقال: "هم يصيِّرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان". قلت: فمن ههنا حجتنا عليهم؟. قال: نعم. [السنة للخلال: 3/ 605]. [عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي ثقة مات سنة 274]. ورواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة من طريق الخلال به.
يظهر من هذا النص أن اعتراض الإمام أحمد رحمه الله على المرجئة هو لأنهم يصيِّرون أمر الدين كله واحدا ويجعلون المصدق بالدين مسلما ومؤمنا وعلى إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان.
ـ قال إسحاق بن راهويه في مسنده: قال شيبان لابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو؟!. فقال ابن المبارك: لا أخرجه من الإيمان. فقال: على كِبَر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال له ابن المبارك: إن المرجئة لا تقبلني، أنا أقول الإيمان يزيد والمرجئة لا تقول ذلك، والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تُقبلت مني حسنة؟!.
ورواه الخطابي في كتاب الغنية عن الكلام وأهله من طريق إسحاق بن راهويه أنه قال: قدِم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العبَّاد، الظن أنه يذهب مذهب الخوارج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟. فقال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن، على كِبَر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال: لا تقبلـُني المرجئة، المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمتُ أني قـُبلتْ مني حسنة لشهدتُ أني في الجنة. [مسند إسحاق بن راهويه: 3/ 669. الغنية عن الكلام وأهله للخطابي: ص 47].
عبد الله بن المبارك هو شيخ الإسلام، عالِم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، هكذا وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ومات رحمه الله سنة 181.
قف عند قوله "المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة"، فهذا تلخيص لحقيقة قول المرجئة.
ـ قال ابن البنا الحنبلي الحسن بن أحمد المتوفى سنة 471: "أما المرجئة فقال أحمد: هم الذين يقولون من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعل سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا". [المختار في أصول السنة لابن البنا الحنبلي: ص 100، وفي الطبعة الأخرى: ص 31].
ـ قال ابن خزيمة المتوفى سنة 311 في كتاب التوحيد: "الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حُرمت على من قال لا إله إلا الله". وقال: "المرجئة توهمت أن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان". [التوحيد لابن خزيمة: 2/ 770، 857].
ـ روى ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة عن سفيان الثوري أنه قال: اتقوا هذه الأهواء المضلة. قيل له: بين لنا رحمك الله. فقال: "أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل!، من قال أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا عبده ورسوله فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتـَل كذا وكذا!، مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة!". فهو ينكر عليهم قولهم "مؤمنٌ مستكمل الإيمان"!. [شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين: ص 27].
ـ قال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: [قالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار، قال ابن عَقيل: "ما أشْبهَ أن يكون واضعُ الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فالمرجئة ـ لمَّا لم يمْكنهم جحْدُ الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل ـ أسقطوا فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شر طائفة على الإسلام"]. وقال ابن الجوزي: "وفي ذلك الزمان حدثت فتنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة". [تلبيس إبليس لابن الجوزي: ص 76، 87].
ابن عقيل هو أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة، هكذا وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ومات رحمه الله سنة 513.
ـ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: [فلهذا عَظـُم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: "لفتنتـُهم أخوفُ على هذه الأمة من فتنة الأزارقة". وقال الزهري: "ما ابتـُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء". وقال الأوزاعي: "كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان ليس شيء من الأهواء أخوفَ عندهم على الأمة من الإرجاء". وقال شريك القاضي: "هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله". وقال سفيان الثوري: "تركتِ المرجئة الإسلام أرق من ثوبٍ سابـِري"]. والسابـِريّ ضرْب رقيق من الثياب يُعمل بِسابور، موضعٍ بفارس. [مجموع الفتاوى: 7/ 394 ـ 395].
وقال ابن تيمية: [قالت المرجئة على اختلاف فرقهم "لا تذهِب الكبائرُ وترْكُ الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر"]. [مجموع الفتاوى: 7/ 223].
وقال: "أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط: بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكَذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمالُ الصالحة ليست من الدين والإيمانِ ويكَذبون بالوعيد والعقاب بالكلية". [مجموع الفتاوى: 3/ 374].
وقال: "المرجئة غلطوا في ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العملِ الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكلِ عليه والشوق إلى لقائه، والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة، والثالث: قولهم كل من كفـَّره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى".  [مجموع الفتاوى: 3/ 363 ـ 364].
ـ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري والمازَري في كتابه المعْلم بفوائد صحيح مسلم والقاضي أبو بكر بن العربي في كتابه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس: المرجئة هم طائفة من المبتدعة تقول لا يضر مع الإيمان معصية. [فتح الباري لابن حجر: 1/ 187. المعْلم بفوائد صحيح مسلم للمازري: 1/ 289. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي: 1/ 897].
* ـ الشبهة التي جعلت بعض الناس يدخِلون مَن ليسوا من المرجئة في اسم المرجئة:
ـ المرجئة يقولون بأن المؤمن المرتكب للمعاصي مؤمن تام الإيمان، بمعنى أن فعل الطاعات وترك المعاصي هو نافلة من النوافل، ولذا فقد رد عليهم أئمة أهل العلم وبينوا ضلالهم، وبينوا أن المؤمن المرتكب للمعاصي هو مؤمن ناقص الإيمان، وكان مما تمخضت عنه حركة الابتداع هذه والرد عليها ـ عند بعض المتحمسين للرد ـ أن من قال بأن العمل ليس جزءا من الإيمان فهو مرجئ!!. وهذا خطأ واضح.
وربما يستندون لبعض الأقوال المروية عن بعض العلماء، ومن ذلك ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن عيينة والفضيل بن عياض من أن المرجئة يقولون إن الإيمان قول بلا عمل، وقد روى ابن أبي يعلى كذلك في طبقات الحنابلة ـ بسند فيه مجاهيل ـ عن أحمد ابن حنبل أنه قال: من زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ. [مسند ابن عباس من تهذيب الآثار للطبري: 2/ 659، 660].
وقال ابن تيمية: "السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان". [مجموع الفتاوى: 7/ 555].
أقول: الذي أخرجَ العمل من دائرة الدين هو مرجئ، هذا مقطوع به، وآيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية طافحة بوجوب امتثال الأوامر واجتناب المناهي مع التحذير من عقوبة العصيان، والذي قال بأن العمل هو ركن أساسي في الدين وهو من الإسلام ومن ثمرات الإيمان وإن لم يكن جزءا منه: فهذا ليس بمرجئ، والخلاف هنا في التسمية، إما أن نقول إن العمل جزء من الإسلام أو من الإيمان، ولكن القول بأن العمل جزء من الإسلام لا من الإيمان هو ما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عندما جاء ليعلم الناس دينهم.
أما من تمسك بقول ابن تيمية "السلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان" على ظاهره فهذا خطأ كبير، فإن السلف لم يشتدَّ نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وإنما اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الدين، فتيقظوا يا من تحرِصون على اتباع السلف الصالح.
* ـ إذا عُلم هذا فإني لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، أو إن مرتكب الذنوب والخطايا كاملُ الإيمان أو إن إيمانه هذا ينجيه من عذاب الله، ولا أعلم أن أحدا منهم يكذب بالوعيد والعقاب الذي أعده الله للفساق، أو يقول إن حسناتِنا مقبولةٌ وسيئاتِنا مغفورة، ولا أعلم أن أحدا منهم يقول من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعل سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا، فمن قال عن الأشاعرة أو الماتريدية إنهم مرجئة ـ بالمعنى البدعي ـ فقد قال قولا باطلا واحتمل بهتانا وإثما مبينا.
فالحذرَ الحذرَ ـ أيها المؤمنون ـ من اتهام مَن هم بريؤون من بدعة الإرجاء بأنهم مرجئة، فمن اتهم أخاه بالابتداع وليس هو كذلك فإن وزر الاتهام راجع إليه.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وسائرَ المسلمين من البدع والأهواء المضلة المخالفة للهدْي النبوي الكريم، وأن يمن علينا بصدق الاتباع للكتاب والسنة، وأن يتوفانا على الإيمان الكامل بلا محنة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 10/ 1435، سوى بعض التعديلات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 29 أغسطس 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله 4


ـ روى الإمام البخاري في صحيحه من طريق أبي الزناد عبد الله بن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار".
وروى من طريق الأعمش أنه سمع ذكوان أبا صالح السمان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سُما فقتل نفسه فسُمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".
الحديث باللفظ الأول لا إشكال فيه، وأما باللفظ الثاني فقد رواه الترمذي كذلك في السنن وأعل جزءا منه بقوله: [هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من قتل نفسه بسُم عُذب في نار جهنم"، ولم يذكر فيه "خالدا مخلدا فيها أبدا"، وهكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح، لأن الروايات إنما تجيء بأن أهل التوحيد يُعذبون في النار ثم يُخرجون منها، ولم يُذكر أنهم يخلدون فيها].
ـ لا شك في أن الرواية الأولى هي الأصح في رواية هذا الحديث، وأن الرواية الثانية التي فيها "خالدا مخلدا فيها أبدا" فيها نظر، وأن هذا الجزء من الحديث قد أعله الإمام الترمذي رحمه الله.
ـ الإمام البخاري رحمه الله أشار في صحيحه إلى إعلال هذا الجزء، وذلك إذ روى الرواية الأولى التي لا إشكال فيها في باب ما جاء في قاتل النفس من كتاب الجنائز، أما الرواية الثانية المتضمنة للفظ المعلول فرواها في باب مناسب للفظة أخرى في هذا الحديث، وهو باب شرب السُم والدواء به من كتاب الطب.
ـ مَن لا يعرف طريقة البخاري في صحيحه فإنه قد يقول إن البخاري روى أن النبي صلى الله عيه وسلم قال "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا" ويسكت على ذلك!، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه إلى أن البخاري رواه وأشار إلى إعلاله.
فرحمة الله على هذا الإمام الجليل محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، ما أدقَّ ملحظه.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 12/ 1439، والحمد لله رب العالمين.


الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 3 –


ـ روى الإمام البخاري في صحيحه من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وروى كذلك من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه، ثم أمِر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين.
وروى من طريق عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين.
وروى من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق وليس بالآدم، وليس بالجَعْد القَطَط ولا بالسَبِط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة.
ـ لا شك في أن حديث ابن عباس وعائشة صحيحان وأن حديث أنس وقع فيه خلل في جزء منه، لأنه قد خالف بقوله "توفاه الله على رأس ستين سنة" رواياتٍ كثيرةً منها ما تقدم من الروايات عن ابن عباس وعائشة.
ـ لكن الإمام البخاري رحمه الله أشار في صحيحه إلى إعلال هذا الجزء من رواية أنس، وذلك إذ روى روايتي حديث ابن عباس في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من كتاب مناقب الأنصار، وروى حديث عائشة في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب المناقب وكتاب المغازي، أما حديث أنس فرواه في باب مناسب للفظة أخرى في هذا الحديث، وهو باب الجعد من كتاب اللباس.
ـ مَن لا يعرف طريقة البخاري في صحيحه فإنه قد يقول إن البخاري روى أن النبي صلى الله عيه وسلم توفاه الله على رأس ستين سنة ويسكت على ذلك!، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه إلى أن البخاري رواه وأشار إلى إعلاله.
ـ أما الإمام مسلم رحمه الله فإنه يأتي بالروايات متتالية، وإذا رأى في رواية خللا فإنه يؤخرها إلى آخر الباب.
وقد روى في صحيحه من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسَبِط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وهذا لبيان صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم روى من طريق الزبير بن عدي عن أنس بن مالك أنه قال: قبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين.
وروى من طريق عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وروى من طريق عمرو بن دينار ومن طريق أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة وتُوفي وهو ابن ثلاث وستين.
وروى من طريق جرير بن عبد الله البجلي عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبِض وهو ابن ثلاث وستين سنة.
ثم ختم الباب بأن روى من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو ابن خمس وستين!.
ـ مَن لا يعرف طريقة الإمام مسلم في صحيحه فإنه قد يقول إن مسلما روى أن النبي صلى الله عيه وسلم توفاه الله وهو ابن خمس وستين سنة ويسكت على ذلك!، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه إلى أن مسلما رواه وأشار إلى إعلاله.
فرحمة الله على هذين الإمامين محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ ومسلمِ بنِ الحجاجِ النيسابوريِّ، ما أدقَّ ملحظهما.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 12/ 1439، والحمد لله رب العالمين.




الاثنين، 27 أغسطس 2018

حديث "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"



بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم

 ـ هذا الحديث رواه الترمذي والبزار وابن خزيمة وابن حبان والطبراني في الكبير وابن عدي من طرق عن قتادة عن مُوَرِّق العجلي عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود t عن النبي e أنه قال: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان". وسقط من بعض الطرق قوله "عن مورق".
ـ ورواه ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير من طريقين عن حُميد بن هلال عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن ابن مسعود t من قوله.
ورواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص سلَّام بن سُليم، والطبرانيُّ في الكبير من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة، كلاهما عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن ابن مسعود t من قوله كذلك.
ـ الطريق المرفوع معلول بعلة الوقف على الصحابي، إذ رواه قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا، ورواه ثقتان آخران عن أبي الأحوص عن ابن مسعود موقوفًا عليه، فالثابت هو أنه من قول ابن مسعود t، لا من قول رسول الله e.
ـ قد يقال: رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله الحاكم عن أبي النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه عن أبي علي صالح بن محمد البغدادي الحافظ عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن ابن مسعود t مرفوعا!.
فالجواب أن هذا الحديث قد اختُلف فيه على شعبة عن أبي إسحاق، فجاء من هذا الطريق مرفوعا، وكذا من طريق عمرو بن عاصم عن شعبة كما ذكره الدارقطني، لكن رواه عمرو بن مرزوق عن شعبة به موقوفا كما تقدم، وذكر الدارقطني أن إسرائيل رواه هو وغيره عن أبي إسحاق موقوفا، فثبت بهذا أن الرواية عن أبي إسحاق السَبيعي هي بالوقف، وضبْط إسرائيل لروايات جده أبي إسحاق معروف مشهور، فمن رواه بالرفع فقد وهِم، ولعل الوهَم في الطريق المذكور هو من أبي النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي الفقيه، فكثير من المشتغلين بالفقه يوْهَمون في رفع الموقوفات.
ـ كلام الدارقطني على هذا الحديث في كتاب العلل:
سئل الدارقطني عن حديث أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"، فقال: "يرويه قتادة، واختُلف عنه، فرواه همَّام وسعيد بن بشير وسويد بن إبراهيم عن قتادة عن مورق العجلي عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه سليمان التيمي عن قتادة عن أبي الأحوص، لم يذكر بينهما مورقا، ورفعَه أيضا، ورواه حميد بن هلال عن أبي الأحوص عن عبد الله موقوفا، ورواه أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص، واختلف عنه، فرفعه عمرو بن عاصم عن شعبة عن أبي إسحاق، ووقفه غيره من أصحاب شعبة، وكذلك رواه إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق موقوفا، والموقوف هو الصحيح من حديث أبي إسحاق وحميد بن هلال، ورفعه صحيح من حديث قتادة".
لم يصحح الدارقطني رفع الحديث، إذ لم يقل "رفعه صحيح"، بل قال "رفعه صحيح من حديث قتادة"، وبينهما فرق كبير، ثم إنه رواه ثقتان عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود من قوله ليس فيه أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني ـ حسب منهج الإمام الدارقطني نفسه وسائر أئمة علم العلل ـ أن الراجح في هذا الحديث أنه موقوف، أي من قول ابن مسعود وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكر السُلمي في سؤالاته أن الإمام الدار قطني سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات فقال: "يُنظر ما اجتمع عليه ثقتان فيُحكم بصحته". ونقل الحافظ ابن حجر هذا النص في كتابه النكت وأقره.
ـ الخلاصة:
هذا الحديث ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 11/ 12/ 1439، والحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 8 أغسطس 2018

هل دعا نبينا صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك بطول العمر؟


بسم الله الهادي
لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال والولد وبالبركة في الرزق، لكن هل دعا له مع هذه الدعوات بطول العمر؟، لا بد من تتبع الروايات:
* ـ الروايات التي ليس فيها أنه دعا له بطول العمر:
ـ روى البخاري ومسلم وأبو داود الطيالسي وابن حنبل والترمذي عن شعبة عن قتادة أنه قال: سمعت أنسا يقول: قالت أم سُليم: يا رسول الله، ادع الله له. تعني أنسا. فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته".
ـ ورواه مسلم وأبو داود الطيالسي وابن حنبل وأبو عوانة عن ثابت عن أنس أنه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا لي بكل خير، فكان في آخر ما دعا لي: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه".
ـ ورواه مسلم والبزار وابن حبان من طرق عن عمر بن يونس عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس به.
ـ ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن عبد الوارث بن عبد الصمد عن أبيه عن حرب بن ميمون عن النضر بن أنس عن أبيه أنس بن مالك به. وهذا إسناد لا بأس به.
ـ ورواه أبو عوانة عن أبي قلابة الرقاشي عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد عن أبيه عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس به. وهذا إسناد لا بأس به.
* ـ الروايات التي فيها أنه دعا له بطول العمر:
ورواه ابن سعد في الطبقات والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير وأبو يعلى من طريقين عن سنان بن ربيعة عن أنس بن مالك أنه قال: ذهبت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، خويدمك، ادع الله له. فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأطلْ عمره، واغفر ذنبه". [سنان بن ربيعة بصري صدوق فيه لين، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: ليس بالقوي]. فهذا الطريق لين.
ـ ورواه ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري عن أبيه عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس به.
[القاضي محمد بن عبد الله الأنصاري هو حفيد حفيد أنس بن مالك، بصري صدوق ثقة ثم تغير حفظه لما كبر، ولد سنة 118 ومات سنة 215. أبوه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك بصري صدوق فيه لين، وثقه العجلي والترمذي، وقال العقيلي: لا يُتابع على أكثر حديثه. وقال الساجي: روى مناكير].
ورواه البسوي في المعرفة والتاريخ عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حُميد الطويل عن أنس، ولفظه: "اللهم ارزقه المال وبارك له فيه". أظنه قال "وأطلْ عمره".
وشتان بين أن يذكر الراوي في الرواية "وأطلْ عمره"، وبين قوله: أظنه قال "وأطلْ عمره". فهذا الطريق ضعيف.
* ـ خلاصة البحث:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأنس بن مالك وقال "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته".
ولم يثبت عنه أنه قال في دعائه له "وأطلْ عمره".
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 11/ 1439، الموافق 19/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.


* من روائع الإمام البخاري رحمه الله:


روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟!". فقلت: بلى يا رسول الله. قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله". قلت: يا رسول الله إني أجد قوة!. قال: "فصم صيام نبي الله داود، ولا تزد عليه". قلت: وما كان صيام نبي الله داود؟. قال: "نصف الدهر". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرإ القرآن في شهر". قلت: إني أجد قوة!. حتى قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك".
اختلفت الروايات المروية عن عبد الله بن عمرٍو في الزمن الذي أذِن له رسول الله صلى عليه وسلم أن يختم فيه القرآن، وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه منها ثلاث روايات:
رواه من طريق أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو بلفظ "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك"، ورواه من طريق أبي عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ "واقرأ في كل سبع ليال مرة"، ورواه من طريق شعبة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ "اقرإ القرآن في كل شهر"، فما زال حتى قال "في ثلاث".
والبخاري يرجح أنه صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله أن يختم في كل سبع، إذ قال معقبا على إحدى الروايات: "وقال بعضهم في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع".
ـ لذا وحيث إنه يرى صحة اللفظ الوارد في الروايتين الأوليين من تلك الروايات الثلاث التي رواها "فاقرأه في سبع" فإنه رواهما في [بابٌ في كم يقرأ القرآن]، وهو الباب المناسب للفظ الذي يصححه.
وحيث إنه يرى عدم صحة اللفظ الوارد في الرواية الثالثة "فما زال حتى قال في ثلاث" فإنه رواه في [باب صوم يوم وإفطار يوم]، وهو الباب المناسب للفظٍ آخر اشتمل عليه الحديث، وهو المتعلق بصيام يوم وإفطار يوم، ولم يروه في الباب الذي روى فيه الروايتين الأوليين.
ـ أما الذين لا يعرفون طريقة البخاري ومنهجه في صحيحه فإنهم يقولون إن البخاري صحح اللفظين المشتملين على الإذن في قراءة القرآن في كل سبع ليال وفي كل ثلاث كذلك!، لأنه روى في صحيحه الروايتين كلتيهما، وهذا مخالف لطريقة البخاري رحمه الله.
هو إمام كبير من أئمة علم الحديث، ولكن كثيرا من الناس لا يعرفون قدره.