الأربعاء، 27 أبريل 2022

نبذة من مقدمة كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار

 

قلت في مقدمة هذا الكتاب: بيَّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين ما قد يقع في كثير من المناظرات من آفات، فأقتبسُ من بعض مقاصد كلامه رحمه الله فأقول: ينبغي أن يكون الغرض من المناظرة المباحثةَ لإظهار الحق، فإن الحق مطلوب، والتعاونَ على النظر في العلم وتواردِ الخواطر بغية الوصول للحق مفيد، وهو من الدين، ولكن ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق تركَ ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانُه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا، فأي فائدة لمثل هذا في المناظرة ؟!!، كما ينبغي أن يكون المناظِر في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى من يناظره رفيقَ دربه ومعينا له للوصول إلى الضالة المنشودة، لا خصما، بل يشكره إذا عرَّفه وجه الخطأ وأظهر له الصواب، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبَّهه صاحبه على أنها في طريق آخر، فإنه يشكره ولا يذمه، بل يكرمه ويفرح به.

وما أجمل قوله "ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق ترك ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا". فرحمه الله رحمة واسعة.

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: "وأما اتباع العقل الصِرف فلا يقْوَى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقوَّاهم على اتباعه، وإن أردتَ أن تجرب هذا في الاعتقادات فأوردْ على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذباً بعين ما صدق به مهما كان سيئ الظن بالأشعري، إذ كان قَبُحَ في نفسه ذلك منذ الصِبا، وكذلك تقررُ أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبْع العوام! بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم!، فإنهم لم يفارقوا العوامَّ في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم ـ في نظرهم ـ لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد اعتقادهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المُتَلَقَّف بالتقليد أصلاً، وينبزون بالشبهة كلَّ ما يخالفه وبالدليل كلَّ ما يوافقه، وإنما الحق ضده!، وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظرَ إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقدم الإلف والتخلق بأخلاقٍ منذ الصبا".

وقال ابن تيمية رحمه الله: "فمن صار إلى قولٍ مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصبَ لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزِمَ حكمَ التقليد فلم يرجِّحْ ولم يزيِّفْ ولم يصوِّبْ ولم يخطِّئْ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه، فقُبل ما تبين أنه حق، ورُدَّ ما تبين أنه باطل، وتُوقف فيما لم يتبين فيه أحد الأمرين". [دقائق التفسير: 2/ 24. الفتاوى الكبرى: 1/ 175].

وقال رحمه الله: "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء". [دقائق التفسير: 2/ 13. الفتاوى الكبرى: 1/ 160]. فرحمه الله رحمة واسعة.

ولا بد في هذه المقدمة من الإشارة لحال بعض الناس، ترى أحدهم مقلدا في العقيدة، بعيدا عن الخوض في الأدلة، ومع ذلك يقحم نفسه في مضمار ليس هو من أهله، فيرجِّح ويزيِّف ويصوِّب ويخَطِّئ، وقد يصل الحال ببعضهم إلى نصرة القول المرجوح وكتمان الحق البيِّن وغمْط الناس واتهام الآخَرين بما هم منه بريؤون، ظنا منه بأنه يرجو أجر ذلك وثوابه في مجابهة هؤلاء المبتدعة بزعمه!!، لأن الذي يقلده في ظنه هو صاحبُ الحق المطلق، ولا يدري أن الأمر في غاية الخطورة، فإن التقليد ليس من العلم، وغير العالم لا شأن له فيما ليس له به علم. {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.

وصدق الله العظيم وهو القائل في محكم كتابه المبين "بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه".

فمن رمى أخاه المسلم بالكفر أو الابتداع ولا حجة له به سوى أن قلد مَن سبقه فحجته داحضة عند ربه.

  

الجمعة، 22 أبريل 2022

aحديث "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"

 

 هذا الحديث رواه ابن حنبل [10629، 9474] وأبو داود [2350] والدارقطني [2182] والحاكم [729، 740، 1552] والبيهقي في السنن [8098 تركي] وفي الخلافيات [1119] من طريق جماعة أحدهم روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه".

[حماد بن سلمة بصري ثقة فيه لين. محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين، وهذه بعض أقوال النقاد فيه: وثقه يحيى بن معين في عدد من الروايات عنه، وقال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار: من جِلة أهل المدينة ومتقنيهم. لكنْ ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: كان يخطئ. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يُستضعف. وقال ابن أبي خيثمة في كتاب التاريخ: سمعت يحيى بن معين يقول: لم يزل الناس يتقون حديث محمد بن عمرو، كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقال ابن حنبل: ربما رفع أحاديث يوقفها غيره، وهذا من قِبَله. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث يُكتب حديثه وهو شيخ]. فهذا الطريق لين.

ورواه ابن حنبل [10630] عن روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة به نحوه.

[روح بن عبادة بصري صدوق ثقة فيه لين ومات سنة 205. عمار بن أبي عمار مكي ثقة فيه لين]. فهذا الطريق فيه لين، وهو معلول بعلة الوقف على الصحابي، كما قال أبو حاتم الرازي.

قال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عن حديث رواه روح بن عبادة عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"؟، وقلت لأبي: وروى روح أيضا عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله؟!. فقال أبي: "هذان الحديثان ليسا بصحيحين، أما حديث عمار فعن أبي هريرة موقوف، والحديث الآخر ليس بصحيح".

ـ واعلمْ أن هذا الحديث بطريقيه مخالف لقول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}.


من العجيب أن يقول أحد الباحثين: [جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث صحيح وفيه بيان يُسر الإسلام "إذا سمع أحدكم النّداءَ والإناءُ على يده فلا يضعْه حتى يقضي حاجته منه"، أي إذا سمع أحدكم النّداء وإناء الطعام سواء كان حليبا أو ماءً أو أي شيء مما يتسحّر به المتسحّر فسمع الأذان فلا يقول الآن حَرُم الطعام، لا يحرُم الطعام بالأذان إلا لمن كان مكتفيا منه، فلا يجوز له أن يزداد شرابا أو فاكهةً وقد قضى وطره من كل ما كان يأكل منه، أما إذا سمع الأذان وهو لمَّا ينتهِ بعدُ من أن يأخذ حاجته من طعامه وشرابه فالرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يبيح له ذلك، فيقول صراحةً وبلسانٍ عربي مبين "إذا سمع أحدكم النّداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". وهذا الحديث موجود في أشهر كتب السنة التي منها سنن أبي داوود، وهو الكتاب الثالث من الكتب الستة المشهورة، وكذلك رواه أبو عبد الله الحاكم في مستدركه، وكذلك أخرجه الإمام إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله في كتابه العظيم المعروف بمسند الإمام أحمد، فهذا الحديث إذن ليس من غرائب الأحاديث، بل هو من الأحاديث المشهورة التي رواها أئمة السنة القدامى وبالسند الصحيح]!!!.  

أقول: هذا كلام بعيد عن التحقيق، ولا يجوز العمل به، وإلى الله المشتكى.  


الخلاصة:

هذا الحديث إسناده لين، ومتنه منكر، فهو ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فاحذر أيها الأخ المسلم من أن تغرك كلمة يقولها مَن ليس براسخ في العلم فيبيح لك أن تأكل أو تشرب شيئا بعد الفجر الصادق، فإن فعلتَ فقد أفسدتَ صومك.

 

الثلاثاء، 12 أبريل 2022

أهمية الشورى وأن لا يحكم الأمير برأيه دون مشورة

قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: [باب قول الله تعالى {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر}، وأن المشاورة قبل العزم والتبيُّن، لقوله {فإذا عزمت فتوكل على الله}، فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدمُ على الله ورسوله، وشاور النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المُقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لَأْمته وعزم قالوا أقمْ، فلم يملْ إليهم بعد العزم، وقال «لا ينبغي لنبي يلبس لَأْمته فيضعها حتى يحكم الله»، وشاور عليًّا وأسامة فيما رمى به أهلُ الإفك عائشة، فسمع منهما، حتى نزل القرآن، فجلد الرامِين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكنْ حكمَ بما أمره الله، وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وَضَحَ الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ مَن فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورةٍ إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من بدل دينه فاقتلوه»، وكان القراء أصحابَ مشورة عمر، كهولا كانوا أو شبانا، وكان وقَّافا عند كتاب الله عز وجل].  


الخميس، 7 أبريل 2022

حديث "أليس قد صام بعده رمضان؟! فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض"

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين

رُوي هذا الحديث من رواية طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وعبيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص مع ناس من الصحابة:

* ـ فأما حديث طلحة رضي الله عنه فرواه ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه ابن حنبل والبيهقي في الزهد وأبو يعلى والطحاوي في مشكل الآثار والشاشي من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".

ورواه ابن حنبل من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة به مرسلا، لكن الرواية المرسلة لا تضر الرواية المروية عن أبي سلمة عن طلحة رضي الله عنه، لأنها جاءت من طريقين عنه عن طلحة.

[محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ثقة فيه لين مات سنة 120. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق فيه لين. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مدني ثقة ولد سنة 22 أو بعدها ومات سنة 94 أو بعدها].

أبو سلمة لم يسمع من طلحة الذي مات سنة 36، ولم يسمع ممن مات من الصحابة بالمدينة سنة 42 أو سنة 45، فالسند منقطع، فهو ضعيف.

ـ ولهذا الحديث طريق آخر عن طلحة رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله. [سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ضعيف. أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بيض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. سليمان بن عيسى بن موسى لم أجد له ترجمة. موسى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة ثقة مات سنة 104]. فهذا الطريق تالف.

ـ وله طريق آخر عن طلحة رواه البخاري في التاريخ الكبير والبزار وأبو يعلى والشاشي من ثلاثة طرق عن عبد الله بن داود عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد عن طلحة بن عبيد الله به نحوه. [عبد الله بن داود بن عامر الخُريبي ثقة مات سنة 213. طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة، صدوق فيه لين ولد سنة 61 ومات سنة 148. إبراهيم مولى آل طلحة مجهول. عبد الله بن شداد مدني تابعي ثقة ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات سنة 82]. فهذا الطريق شديد الضعف.

ورواه النسائي في الكبرى عن زكريا بن يحيى خياط السنة عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد عن طلحة، والحديث من هذا الطريق ظاهره أنه جيد، ولكنه معلول بعلتين:

إحداهما الإرسال، فقد رواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاريُّ في التاريخ الكبير والنسائيُّ في الكبرى من طرق عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد مرسلا.

الثانية أن طلحة بن يحيى روى هذا الحديث ـ في رواية أحد الثقات عنه ـ عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا مجهول، ورواه ـ في رواية ثقتين آخرين عنه ـ عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا ثقة، فمن أي الإبراهيمَين سمع طلحة هذا الحديث؟!، لا يمكن هنا ترجيح رواية من صرح بأنه إبراهيم بن محمد بن طلحة وتوهيم من قال هو إبراهيم مولى لهم، لأن مثل هذا ليس محلَّ توهم، وخاصة من ثقة متفق على توثيقه كعبد الله بن داود الخريبي، فهذا اضطراب شديد من طلحة بن يحيى يدل على غفلته وسوء حفظه. وهذا يؤكد ضعف هذه الرواية.

* ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن حنبل وابن أبي شيبة في المسند والبزار من طريق محمد بن بشر وزياد بن عبد الله، كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.

ورواه الطحاوي في مشكل الآثار عن إبراهيم بن مرزوق وهو ثقة فيه لين عن سعيد بن عامر وهو ثقة فيه لين عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به مرسلا. والإرسال ليس مظِنة الخطأ.

محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين وخاصة في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه منها، وروايته عن أبي سلمة هنا ضعيفة، لاضطرابه فيها، فقد تقدم أنه روى هذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، ورواه هنا مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة عن أبي سلمة مرسلا، وهذا يعني أنه لم يضبط الإسناد في هذا الحديث، والصواب من هذه الروايات هو روايته لهذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، لأنها موافقة لما رواه الراوي الثقة محمد بن إبراهيم التيمي، فظهر بهذا أن روايته إياه عن أبي هريرة ضعيفة.

* ـ وأما حديث عبيد بن خالد فرواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي وأبو داود في السنن وابن أبي خيثمة في تاريخه وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن رُبَيِّعة السلمي عن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقـُتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلـَّوْا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟!. قالوا: دعونا الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله وصيامه بعد صيامه؟!، لَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".

[عمرو بن مرة كوفي ثقة مات سنة 118. عمرو بن ميمون الأودي كوفي ثقة مات سنة 74. عبد الله بن رُبيِّعة السلمي ذكره ابن حبان في الثقات في طبقة الصحابة وقال له صحبة، ثم أعاده في طبقة التابعين، ثم ذكر في طبقة التابعين عبد الله بن رُبَيِّعة الراوي عن عبيد بن خالد ولم يقل فيه السلمي، وهذا يعني أنه جازم بأن الراوي عن عبيد بن خالد ليست له صحبة]. عبد الله بن رُبَيِّعة لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، فهذا السند ضعيف.

* ـ وأما حديث سعد وناس من الصحابة فرواه ابن حنبل وابن خزيمة من طريق عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت سعدا وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عُمِّر الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضْل الأول على الآخر، فقال: " ألم يكن يصلي؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله وكان لا بأس به. فقال: "ما يدريكم ماذا بلغت به صلاته؟!". ثم قال عند ذلك: "إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمْرٍ عذبٍ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فماذا ترون يبقِي ذلك من درنه؟!". وذكره مالك في الموطأ أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به.

[مخرمة بن بُكير بن عبد الله بن الأشج مدني مات سنة 159، وثقه ابن سعد وعلي بن المديني وأحمد بن صالح المصري، وقال ابن حنبل: ثقة إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يُحتج بروايته من غير روايته عن أبيه لأنه لم يسمع من أبيه ما يروي عنه. وذكره في مشاهير علماء الأمصار وقال: مِن متقني أهل المدينة، في سماعه عن أبيه بعض النظر. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري عنه: ضعيف، ضعيف الحديث، ليس حديثه بشيء. وقال في رواية ابن محرز عنه: لا يُكتب حديثه. وذكره العُقيلي في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف، حديثه ليس بشيء. وذكره ابن شاهين في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف]. فهذا الإسناد ضعيف.

ثم إنه معلول، فقد روى ابن حنبل وعبد بن حميد وابن ماجه والبزار ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة وأبو العباس السراج في حديثه والطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في شعب الإيمان من طريق صالح بن عبد الله بن أبي فروة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيت لو كان بفِناء أحدكم نهر يجري يغتسل منه كل يوم خمس مرات ما كان يبقى من درنه؟!". قالوا: لا شيء. قال: "إن الصلوات تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن".

وهذا من إعلال أحد الحديثين المتشابهين إذا وقع في سنده تفرد في مقابلة الحديث الآخر منهما إذا رواه أكثر من واحد. [يُستحسن لمعرفة وجه الإعلال مراجعة المطلب الأول من النوع السابع من منهج الإمام البخاري في إعلال المرويات الحديثية].

* ـ خلاصة الأمر أن أسانيد هذا الحديث كلها ضعيفة، والحديث لا يرتقي بمجموع هذه الطرق لأنه شاذ منكر.

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، وروايات هذا الحديث تفضل من لم يجاهد وعاش زيادة سنة وصلى وصام رمضان!، تفضله على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا من صاحبه الذي عاش بعده!.

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار العدد على معيار الجَوْدة من البذل والتضحية والإخلاص!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل تلك المعايير المنحرفة!، وإلى الله المشتكى.

* ـ لا شك في أن روايات هذا الحديث ضعيفة الأسانيد منكرة المتن، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 5/ 9/ 1439، الموافق 20/ 5/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

 

 

مِن حركات الردة الحديثة:

مِن حركات الارتداد عن دين الإسلام: أن يخرج اليومَ رجلٌ فيقولَ إن الأمة كلها قد أجمعت على الضلال من زمن أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم فمَن بعدهم، ظنا من هذا القائل أنه أعلمُ بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، فما أعظم هذه الجراءة!. قال الله عز وجل في كتابه الكريم {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.  

من ذلك قول بعضهم اليوم إن الأمة الإسلامية من زمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى زمننا هذا قد ضلوا في معرفة وقت صوم الفريضة الذي هو شهر رمضان، إذ يرى هذا القائل أنه لا يصح أن يأتي شهر رمضان في كل فصول السنة، في الشتاء وفي الربيع وفي الصيف وفي الخريف، ويريد أن يكون رمضان متزامنا مع وقت محدد من السنة الشمسية بإضافة شهر لكل ثلاث سنوات قمرية، وبهذا تمشي السنة القمرية مع السنة الشمسية في وقت واحد!، وهذا ما يمشي عليه اليهود في تقويمهم القمري بحيث يمشي مع التقويم الشمسي.  

من الغريب أن يربط هذا القائل هذه المسألة بمسألة النسيء، ولا علاقة لواحدة منهما بالأخرى.  

قال الله تعالى {إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}، والذي يفسر آيات القرآن بهواه معْرضا عن الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه في ضلال.  

روى الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب شهر مضر الذى بين جُمادى وشعبان".  النسيء التأخير، وكان العرب في الجاهلية يحرمون القتال في الأشهر الحُرُم، وهذا مما كانوا يتوارثونه من شريعة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانوا أصحاب حروب وغارات، فربما شق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغِيرون فيها، فإذا أرادوا استحلال القتال والإغارة في شهر المحرم أنسؤوه، أي أخروه، وربما قدَّموا شهرا آخر مكانه، وربما انتقلوا من شهر إلى آخر، حتى اختلط الأمر عليهم، فصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم الصواب الذي كانت عليه الشهور، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت في تلك السنة حكْمَ الله سبحانه في الشهور يوم خلق الله السماوات والأرض.  

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه أن السنة اثنا عشر شهرا، ويريد ذلك القائل أن نجعل السنة اثني عشر شهرا مرتين ونزيدها في السنة الثالثة شهرا فتصبح تلك السنة ثلاثة عشر شهرا!!، بخلاف حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وما أجمعت عليه الأمة، فما أجرأه على أحكام الله.  

لكن الأمة بفضل الله تعالى ستبقى على النهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وسائر الأمة من بعدهم إن شاء الله، فنسأل الله التوفيق والثبات على الحق.