الجمعة، 14 يناير 2022

هل هنالك فرق في لغة العرب بين السنة وبين العام؟

أصل معناهما في لغة العرب واحد، ويغلب في الاستعمال أن تكون لفظة "السَنَة" تعني الجدْب والقحط والشدة، وأن تكون لفظة "العام" تعني الرخاء، وربما يظن بعض المتسرعين أن ما غلب في الاستعمال هو الصواب بإطلاق، وهذه دعوى لا دليل عليها، ومن تسرع وقال بذلك فقد جانبه الصواب.  

وهذه أدلتي:  

قال أبو هلال العسكري المتوفى قرابة سنة 395 في كتابه الفروق اللغوية عن الفرق بين العام والسنة: "يجوز أن يقال العامُ يفيد كونه وقتا لشيء والسنة لا تفيد ذلك، ولهذا يقال عام الفيل ولا يقال سنة الفيل، ويقال في التاريخ سنة مئة، وسنة خمسين، ولا يقال عام مئة، وعام خمسين، إذ ليس وقتا لشيء مما ذكِر من هذا العدد، ومع هذا فإن العامَ هو السنة والسنة هي العامُ وإن اقتضى كل واحد منهما ما لا يقتضيه الآخر مما ذكرناه".  

وقال الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 في كتابه المفردات في غريب القرآن: "أكثر ما تُستعمل السَّنَةُ في الحول الذي فيه الجدب". وقال: "العامُ كالسنة، لكنْ كثيرا ما تُستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب، ولهذا يُعبر عن الجدب بالسنة، والعامُ بما فيه الرخاء والخصب، قال {عامٌ فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون}".  

وقال المطرِّزي المتوفى سنة 610 في كتابه المُغْرب: "السنة والحول بمعنى واحد، وقد غلبتْ على القحط غلبةَ الدابة على الفرس".  

أي: هذا كما غلب في لسان العرب استعمال لفظة "الدابة" بمعنى الفرس وإن لم تكن تعني ذلك بإطلاق.  

أقول: تأملْ قول الله عز وجل {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يُوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتعون}، وقولَه تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}، وقولَه تعالى {قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟!}.  

إذا متَّع الله عز وجل أناسا فترة من الزمن فهذا يعني أنهم في رخاء وسَعة، لا في كرب وشدة، ومع هذا فقد قال ربنا جل شأنه {متَّعناهم سنين}.  

يمتنُّ الله تبارك وتعالى على العباد بأن جعل لهم الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لما في ذلك من منافع لهم، وقال في ذلك {لتعلموا عدد السنين والحساب}.  

لم يكن سيدنا موسى عليه السلام في تلك السنين التي تربى فيها في قصر فرعون يعاني من الشدة، بل كان ينعَم في عيش رغد، ولو كان المراد هنا هو الشدةَ لما جاء التعبير القرآني بلفظة {سنين} وفرعون يقولها في مقام الامتنان.  

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».  

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلها مئة سنة، واقرؤوا إن شئتم {وظلٍ ممدود}.  

روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «أنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم أمِر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين".  

روى مسلم عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرس

الثلاثاء، 11 يناير 2022

نبذ من كتابي تكفير من لا يستحق التكفير

نبذ من كتابي تكفير من لا يستحق التكفير 

ـ قال القرافي: قال مالك: [إن ناديتَه فأجابك "لبيك اللهم لبيك" جاهلا لا شيء عليه]. [الذخيرة للقرافي 12/ 21].  


ـ قال العتبي في المستخرجة: سئل مالك عن رجل نادى رجلا باسمه فقال "لبيك اللهم لبيك" أعليه شيء؟، قال مالك: "إن كان جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه".  


ـ قال الإمام القاضي عياض: "أما مَن تكلم مِن سقط القول وسُخْف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غيرَ قاصد للكفر والاستخفاف ولا عامد للإلحاد: فإن تكرر هذا منه وعُرف به دلَّ على تلاعبه بدينه واستخفافه بحرمة ربه وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وأما من صدرت عنه من ذلك الهَنَة الواحدة والفلتة الشاردة ـ ما لم يكن تنقصا وإزراءً ـ فيُعاقب عليها ويُؤدب بقدر مقتضاها وشُنْعة معناها وصورة حال قائلها وشرح سببها ومقارنها". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2/ 299 - 300].  


ـ قال الفقيه الشافعي إسماعيل بن أبي بكر ابن المقرئ المتوفى سنة 837 في كتابه الإرشاد: "الردة كفر مسلمٍ مكلفٍ، بنيةٍ، أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد". [انظر: فتح الجواد بشرح الإرشاد: 2/ 298].  


ـ قال السيوطي في مبحث النية بعد أن ذكر مدخل النية في الكنايات في العقود: "وتدخل أيضا فيها في غير الكنايات في مسائل شتى، كقصد لفظ الصريح لمعناه". [الأشباه والنظائر: ص 44]. فقد أفصح رحمه الله تعالى رحمة واسعة عن أن النية لا يقتصر دخولها على مسائل الكنايات من الألفاظ، بل إنها تدخل كذلك في مسائل تتعلق باللفظ الصريح، ومن تلك المسائل اشتراطُ أن يقصِد لافظُ الصريح به المعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ واعتـُبر أنه صريح فيه، وهذا يعني أنه لو لم يوجد قصْد لفظ الصريح لمعناه لمَا وقع حكمه.  


ـ قال ابن حجر الهيتمي في مسألة السجود للشمس نقلا عن كتاب المواقف وشرحه: "لو عُلم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أُجري عليه حكم الكافر في الظاهر". [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 348 المطبوع في آخر كتاب الزواجر].  


وقال ابن حجر الهيتمي في تعليل ما أفتى به على رجل بأنه يُخشى عليه من الكفر: "فعملْنا بما دل عليه لفظه صريحا بواسطة القرينة المذكورة، وقلنا له: أنت حيث أطلقتَ هذا اللفظ ولم تؤول كنت كافرا، لتضمُّن لفظك تسميةَ الإسلام كفرا وإن لم تقصِد ذلك، لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن، لا الظاهر". [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 19 بحاشية كتاب الزواجر].  


ـ قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عيسى المشهور نقلا عن الفقيه الشافعي الشيخ محمد بن أبي بكر الأشخر في تصوير المسألة على شخص ما: "حَكـَمَ عليه حاكمٌ، فتبرَّمَ، فقال استهزاءً ليس هذا الشرع بشيء قط: كفرَ، كما لو قال لفتوى أيُّ شيء هذا الشرع؟!، أو قيل له احضُرْ مجلس العلم فقال ما هذا بشيء، أو قال قصعة من ثريد خير من العلم، فحينئذ تجري عليه أحكام المرتدين من الاستتابة وغيرها، نعم، إن قال لم أردِ الشرع بل أردت الحكم عليَّ ظننتُه غير مستند إلى جهة تقتضيه: عُزر تعزيرا بليغا زاجرا لمثله عن إطلاق مثل هذا القول، ومن تأمل أحوال أهل الزمان لم يشكَّ في استخفافهم بالشرع وحَمَلَته وبالفقه وخَدَمَته". [بغية المسترشدين للشيخ عبد الرحمن المشهور: ص 248].  


أقول:  


إن ترتيب حكم الكفر على من تلفظ بشيء من الأقوال الكفرية من دون أن يقترن بها اعتقادٌ ولا انشراحُ صدر ولا قصدٌ: فيه غفلة عن إيماءات الكتاب العزيز ودلائل السنة النبوية:  


ـ فمن الآيات القرآنية الكريمة قوله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن مَن شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم}، فقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} يدل على نفي الحرج في النطق بكلمة الكفر عمن أكره عليها وقلبه مطمئن بالإيمان، وعلى كفر من نطق بها وقلبه غير مطمئن بالإيمان، وفي قوله تعالى {ولكن من شرح بالكفر صدرا} إيماء إلى أن علة كفر الكافر هنا هي انشراح صدره بالكفر، والكفر هو ما سوى اطمئنان القلب بالإيمان وبمحبته وتعظيمه، سواء أكان شكـًّا في الإيمان أو استهزاءً بخصاله أو اطمئنانًا بنقيضه، ولا حاجة إذن للقول بتخصيص {من شرح بالكفر صدرا} بالمكرَه، إذ لا دليل عليه، ولا داعي للقول به إذا فـُهم معنى الكفر كما ذكرته.  


ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به، ولكنْ ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفورا رحيما}، فقوله تعالى {وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به} ينفي الحرجَ عمن أخطأ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، وفي ضمن ذلك إثباته لمن صدر منه ذلك لا على وجه الخطأ، وفي قوله تعالى {ولكنْ ما تعمدت قلوبكم} إيماء إلى أن علة الإثم في حالة وقوعه هي تعمد القلب لذلك.  


ـ ومن الآيات الكريمة قوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم}، وقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، فقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} نصٌّ في عدم المؤاخذة باللغو في اليمين، وظاهرٌ في إثبات المؤاخذة بما ليس لغوا في اليمين، وفي قولِه تعالى {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وقولِه {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} إيماء إلى أن علة المؤاخذة في اليمين هي عقد القلب عليها واكتسابه لها.  


ـ فهذه الإيماءات القرآنية تشير إلى أن مناط المؤاخذة في الحكم التكليفي هو القصد القلبي، فالآخذ بها يعلم أن العلة فيما استـُثـْني هي عدم وجود القصد، كحالة الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر، والخطأِ في دعاء المتبنـَّى لغير أبيه، والحَلِفِ بالله في لغو اليمين، ومن الممكن أن تـُقاس على هذه الحالات نظائرها، ومن غـَفـَل عن هذه الإيماءات ـ وخاصة في قضية التكفير ـ جعل قوله تعالى {ولكنْ من شرح بالكفر صدرا} خاصا بحالة الإكراه وقَصَرَ المستثنيات على مَحَالـِّـها، وعمَّم حكم التكفير على ما عداها، حتى ولو كان قائلها لا يقصِد أي معنى من معاني الكفر!، وهذا من الجمود على الألفاظ وعدم الغوص على المعاني.  


ـ ومن الأحاديث النبوية الشريفة قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". [صحيح البخاري: 1/ 9. صحيح مسلم: 13/ 53].  


وقد نقل النووي عن الإمام الشافعي رحمهما الله أن هذا الحديث يدخل في سبعين بابا من الفقه، ثم قال: "فيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا تصح إلا بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، وتدخل النية في الطلاق والعتاق والقذف، وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يُقبل منه في الظاهر". [شرح صحيح مسلم: 13/ 53، 54].  


لا شك في أن النية تدخل في أبواب الإيمان، والعلم، والجهاد، والذكاة، والغصب، والنكاح، والأيمان، والنذر، ويجب أن تدخل كذلك في باب الردة.  


وتأمل قوله "وإن نوى بصريحٍ غيْرَ مقتضاه دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى"، فرحمه الله رحمة واسعة.  


ـ ومن الأحاديث النبوية حديث أنس بن مالك أن النبي e قال: "ثم يخرج من النار مَن قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة". [صحيح البخاري: 13/ 393]. وحديث أبي سعيد الخدري عن النبي e أنه قال: "فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه". [صحيح البخاري: 13/ 421. صحيح مسلم: 3/ 31].  


وقولُه عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث "في قلبه" دليل على أن أدنى وأقلَّ مراتبِ المؤمن الذي لا يُخلد في جهنم هو أن يكون في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن الكافر مَن ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفيها إشارة إلى أن أصل الإيمان أو الكفر هو في القلب وأن ثمرات كلٍّ منهما تظهر على الجوارح، فلا يصح أن يُطلق على رجل من أهل الإيمان وصْف الكفر إذا تلفظ بلفظ كفري دون أن يقصد المعنى الكفري.  


"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".  


ـ أما من قال قولا كفريا أو عمل عملا كفريا قاصدا معناه الكفري فهو كافر لا شك في كفره حتى وإن لم يقصد بقوله أو عمله الخروجَ من الإسلام، وبين قصْد المعنى الكفري وقصْد الخروج من الإسلام فرْق كبير.  


ـ سئل الإمام الفقيه أصبغ بن الفرج عن الرجل يكون له على الرجل دَين، فيلزمه حتى يغضب، فيقول له الغريم "صل على محمد"، فيقول صاحب الدين وهو مغضب "لا صلى الله على من صلى عليه"، هل ترى على هذا القتلَ وتراه كمن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وشتم الملائكة الذين يصلون عليه؟، فقال: "لا، إذا كان على ما وصفتَ على وجه الغضب، لأنه لم يكن مضمرا على الشتم، وإنما لفَظَ بهذا على وجه الغضب، ولا يكون عليه القتل".  


ولا يخفى أن قول الرجل "لا صلى الله على من صلى عليه" جملة دعائية، فكأنه يقول لا بارك الله فيمن يصلي عليه، وسواء أقصد الناسَ الذين يصلون على رسول الله e أو الملائكةَ الذين يصلون عليه فهذا اللفظ يقتضي الاستخفاف بقدْره عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، لكن لما رأى الفقيه المسؤول أن القرائن تدل على عدم قصْد هذا المعنى لم يحكم بردته وقتله، وجاء تعليله لهذا الحكم بقوله "لأنه لم يكن مضمِرا على الشتم، وإنما لَفَظَ بهذا على وجه الغضب".  


وليس المراد أن الغضب عذر مانع من الحكم بالكفر بإطلاق، إذ الذي يمنع من هذا الحكم هو وجود القرائن الدالة على أن المتلفظ لم يقصد ذلك المعنى البتة، وقد يكون الغضب من جملة تلك القرائن، وحقيقة قصد المكلف لا اطلاع لنا عليها، وإنما حسابه عند ربه.  


ـ ارجع إلى نصوص العلماء الذين نقلتُ أقوالهم، منهم الإمام مالك، وعبد الرحمن بن القاسم العتقي تلميذ الإمام مالك، والقاضي عياض، والقرافي، والبرزلي، وابن فرحون، وابن الشاط، وابن رشد الجد، والقرطبي المفسر، والشيخ محمد عليش، من فقهاء المالكية، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين، وأبو حامد الغزالي، وابن المقرئ، والسيوطي، وابن حجر الهيتمي، والأشخر، من فقهاء الشافعية، والسرخسي، والشيخ علي بن خليل الطرابلسي، وابن نجيم، والشيخ علي القاري، من فقهاء الحنفية، فستجد أن كلامهم يدور على أن الأقوال والأفعال التي يكفر بها المرء ليست هي الكفر، بل هي من علامات الكفر، وأنها كفر حقيقي إذا انضم إليها عقد القلب على المعنى الكفري، وأن من اقترف شيئا من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا، وستجد أن من لم يجزم بذلك منهم حكى الخلافَ في المسألة، مشيرا إلى أنها ليست إجماعية.  


ـ مناط الكفر هو عقـْد القلب عليه، والأصل في المتلفظ بكلمة كفرية أن يُحكم عليه بالكفر، ويُستثنى من هذا الأصل الحالاتُ التي ليس فيها عقد القلب على الكفر.  


ـ إذا تعارف الناس على استعمال تركيب لغوي في غير معناه الأصلي الذي وُضع له:  


النبي e نهى عن الحلف بالآباء ثم قال هو للرجل "أفلح وأبيه إن صدق"، فهل نقول إن النبي e قد حلف بغير الله تعالى؟!، وهل نقول إنه حلف بوالد ذلك الرجل؟!، هذا محال، قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: فيُجاب بأجوبة: الأول: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القَسَم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحَلِف، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي إنه الجواب المَرْضي. [فتح الباري: 11/534].  


وقال النبي e لعائشة رضي الله عنها "تربتْ يمينُك"، فهل نقول إنه دعا على عائشة بالفقر؟!. قال النووي: [الأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها "افتقرتِ"، ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون تربت يداك، وقاتله الله ما أشجعه، ولا أُمَّ له، ولا أب لك، وثكلتـْه أمُّه، وويلَ أمِّه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء أو الزجر عنه أو الذم عليه أو استعظامه أو الحث عليه أو الإعجاب به، والله أعلم]. [شرح صحيح مسلم: 3/ 221]. وانظر [فتح الباري: 1/ 229].  


وقال النبي e لمعاذ بن جبل t "ثكلتك أمك يا معاذ". [مسند أحمد: 5/ 231]، فهل دعا عليه بالموت وأن تصبح أمه ثكلى؟!، والجواب بكل تأكيد: لا، وإنما هي كلمة تجري على ألسنة العرب وليس المراد حقيقةَ معناها الأصلي.  


ـ الإيمان بالله تعالى ليس مجردَ معرفة نظرية بأن الله تعالى هو الرب الخالق السميع البصير، ولو كانت المعرفة المجردة إيمانا لَكَان إبليس مؤمنا ولَكَان كثير من اللادينيين مؤمنين!، وهيهات، لكن الإيمان هو المعرفة مع الإذعان القلبي لله رب العالمين، ومن أذعن واستسلم لله تعالى بقلبه فلا بد أن يكون معظما لله، والذي ينطق بكلمة الردة الصريحة المُحْكمة التي لا تحتمل تأويلا من دون عذر ليس معظما لله، ومن لم يكن قلبه معظما لله تعالى فليس بمؤمن، وهو كافر ظاهرا وباطنا "لحصول التهاون منه".  


ـ قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "الحق أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع، وليس مخالفةُ القواطع مأخذا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة". [إحكام الأحكام: 2/ 210].  


وقال عضد الدين الإيجي عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 756: "لا يُكفر أحد من أهل القبلة إلا بما فيه نفيُ الصانع القادر المختار العليم، أو بما فيه شرك، أو إنكارُ النبوة، أو إنكار ما عُلم مجيء محمد e به ضرورةً، أو إنكار أمر مجْمَع عليه قطعا، أو استحلالُ المحرمات، وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر". [العقائد العضدية: 2/ 291 - 293 المطبوع مع شرح الدواني وحاشية الكلنبوي وغيره].  


وقال النسفي: "الاستهزاء بالشريعة كفر". وقال التفتازاني في شرحه: "وكذا لو أطلق كلمة الكفر استخفافا لا اعتقادا". [العقائد النسفية وشرحها: 1/ 204، 205. وفي الطبعة العثمانية: ص 190 - 191]. أي إن من قال قولا يتضمن الاستهزاء والاستخفاف فهو كافر، ولا شك في هذا إذا كان القائل يعني ما يقول.  


هذه بعض كلمات العلماء في التكفير، وغيرها كثير، وكلها ترجع إلى ما يناقض "شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله" مناقضة بينة، فمن أنكر أحد هذين الأصلين أو أتى بما يناقض واحدا منهما عامدا متعمدا فقد كفر.  


والإيمان بهذين الأصلين يستلزم الإيمان بالقرآن الكريم، وهو الوحي الذي نزله الله تبارك وتعالى على نبيه محمد e، وفي القرآن الكريم أصول العقائد السمعية، فمن بلغه القرآن وأنكر بعض ما فيه دلالةٌ عليه ولا شبهة له: فقد كفر.  


ورحم الله ابن دقيق العيد إذ يقول "ليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة". فتأمله ينفعك بإذن الله.  


إشكال وجواب:  


قد يقول قائل: لقد قال الله تعالى {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، فلم يستثن من النطق بكلمة الكفر سوى المكرَه، وقال تعالى {ولئن سألتهم ليقولـُنَّ إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟! لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}، فحكم عليهم بالكفر رغم أنهم قد قالوا كلاما على وجه اللعب لا عن اعتقاد أو شك، أفليس في هذا دليل على أن القول الكفري مكفر بذاته وإن لم يكن معه اعتقاد الكفر؟!.  


فالجواب أن الاستثناء في قوله {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} هو إشارة إلى ما وقع من عمار بن ياسر رضي الله عنهما من النطق بكلمة الكفر في حالة الإكراه، وليس المراد الحصرَ، بدليل ما ورد في السنة النبوية الشريفة من عدم التكفير في غير حالة الإكراه:  


ومن ذلك حالة سبق اللسان، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".  


ومن ذلك أن يقول المسلم قولا أو يفعل فعلا من المكفرات وهو لا يقصد المعنى الكفري، فقد روى الشيخان عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبيرَ والمقدادَ فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا لها أخرجي الكتاب ، قالت ما معي كتاب ، فقلنا لتخرجِنَّ الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا؟!". قال: يا رسول الله لا تعجَلْ علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، وكان مَن معك من المهاجرين مَن لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رِضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صَدَقـَكم". فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".  


قوله "إني كنت امرأ ملصقا في قريش" أي كنت حليفا لهم ولم أكن من أنفسهم. وتأمل قوله "ولا رضا بالكفر بعد الإسلام".  


وأما مسألة الذي قال كلاما كفريا على وجه اللعب والاستهزاء لا عن اعتقادٍ أو شكٍّ فإن هذا القائل قد كفر، لأنه قال كلاما كفريا على وجه الاستهزاء، وصدور مثل هذا عنه دليل على استخفافه بدينه، والاستخفاف بالدين كفر.  


خاتمة البحث:  


ـ يجب الحذر الشديد من التسرع في تكفير المسلمين، لأن من كفر مسلما فقد باء بهذه الكلمة أحدهما، إن كان المقول له كافرا فقد لاقت محلها، وإلا رجعت على القائل إذا لم يكن القائل متأولا.  


أي إذا قال مسلم عن رجلٍ آخرَ مسلمٍ إنه كافر: فإن كان الرجل الآخر كافرا حقيقة فقد لاقت الكلمة محلها وبرئ القائل، وإن كان الرجل الآخر ليس بكافر في الحقيقة فقد صار القائل كافرا، لأنه سمى الإسلام كفرا، إلا إذا كان قائل كلمة التكفير قد قالها اجتهادا له فيه شبهة وأخطأ في اجتهاده، فإنه لا يكفر بذلك، وهذا كما كفـَّر الخوارج سيدنا عليا رضي الله عنه بالاجتهاد الخطأ، فإنه لم يكفرهم بذلك، حيث إنهم كانوا متأولين.  


لكن لا بد من الحذر الشديد، فإنه إذا لم يكن كفرا فهو كبيرة من الكبائر.  


ـ من قال قولا أو فعل فعلا يدل على كفر القائل أو الفاعل فإنه يُحكم عليه بالكفر، فيُستتاب، فإن تاب فبها ونعمت، وإلا فإنه يُعامل معاملة المرتد، وهذا في الحكم قضاءً، وهذا ميدان عمل القاضي.  


ـ أما فيما بين المكلف وبين الله تعالى فإنه إن قصد بذلك القولِ أو الفعلِ المعنى الكفريَّ الذي يدل عليه فقد كفر وخرج من الإسلام وإن لم يقصد به الخروجَ من الإسلام، إذ لا يُشترط لخروجِ المرء من الإسلام أن يقصد الخروجَ منه، بل المُشترَط هو أن يقصد المعنى الكفريَّ، فإذا لم يقصد المعنى الكفري فجمهور العلماء لا يرون تكفيره، فإنما الأعمال بالنيات، وهذا في الحكم ديانة، وهذا ميدان عمل المفتي.