الثلاثاء، 22 فبراير 2022

نبذة تتعلق بتوثيق أحداث السيرة النبوية‎‎

 ـ قال ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ: "ما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع ـ: فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه". [[1]] 

أقول: 

هل كانوا في الجاهلية يعظمون حراء؟!، ما هذا؟!، اللهم غفرا 

استند ابن تيمية في دعواه أن أهل الجاهلية كانوا يعظمون حراء إلى حكاية ضعيفة الإسناد باطلة المتن، فقد قال ابن هشام في السيرة النبوية: قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال: سمعت عُبيد بن عُمير بن قتادة الليثي يقول: "كان رسول الله e يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تَحَنَّثُ به قريش في الجاهلية". قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب: وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازلِ. قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان قال: قال عُبيد بن عُمير: [فكان رسول الله e يجاور ذلك الشهر من كل سنة، وكان يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد الله تعالى فيه ما أراد من كرامته خرج إلى حراء ومعه أهله، فجاءه جبريل بأمر الله، قال رسول الله e: "فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ، ...، فقال {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني وهببتُ من نومي، فكأنما كُتبتْ في قلبي كتابا، فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجَعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفتُ راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة"].  

وههنا لا بد من تعليق على السند والمتن: 

أما السند فإن وهب بن كيسان ثقة، وعبيد بن عمير تابعي ثقة من القُصَّاص، ولم يبين ممن سمع هذا الحديث، بل أرسله إرسالًا، فالسند مرسل، والمرسل نوع من أنواع الضعيف عند المحدثين.  

ومن المعلوم أن القصاص يروون ما هبَّ ودبَّ، والقاصّ الثقة يُحتج بما أسند لا بما أرسل من الروايات، شأنه في ذلك شأن سائر الثقات، ويتميز عنهم بأمر واحد، هو وجوب مزيد الحذر من مراسيله، وهذه الرواية منها.  

هذا وقد روى ابن إسحاق ـ ومن طريقه ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة عن بعض أهل العلم نحو تلك الرواية، وهذا إسناد لا حجة فيه لأن فيه مبهمًا، ولعل هذا المبهم قد سمع هذه الرواية من عُبيد بن عُمير، وبذلك يكون الإسناد قد رجع إلى السند الأول.  

وأما المتن ففيه مناكير:  

ـ منها قول عبيد بن عمير عن النبي e إنه "كان يجاور في حراء من كل سنة شهرًا"، إذ من المستبعد أن يجاور شهرا من السنة ثم ينتظر أحد عشر شهرا للخلوة مرة أخرى، ولذا فإن الرواية الصحيحة هي ما رواه البخاري من قول عائشة رضي الله عنها، إذ قالت: "ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء".  

ـ ومنها قوله "خرج إلى حراء ومعه أهله" مع نسبته إلى النبي e أنه قال "حتى بعثتْ خديجة رسلها في طلبي وانصرفتُ راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة"، فمَن أهله الذين خرجوا معه إلى حراء وليس عنده إلا خديجة وأولاده الذين وُلدوا قبل البعثة؟!، أفأخذهم معه إلى الغار؟!، وكيف تكون خديجة معه وتبعث رسلها في طلبه؟!، ثم كيف ينصرف راجعا إلى أهله حتى يأتي خديجة وهي معه في الغار؟!، هذا تناقض.  

ـ ومنها قوله إن خديجة أرسلت رسلها في طلبه e وليس في الرواية أنه أبطأ عنها أكثر من المعتاد!.  

ـ ومنها نسبته إلى النبي e أنه قال "فجاءني وأنا نائم، وهببتُ من نومي"، فهل كان النبي e وقت نزول الوحي نائمًا؟!، ولو كان هذا في النوم لقال إنها رؤيا منامية ولما ألقى لها بالًا، وهل يُعقل أن يؤتي الله سبحانه وتعالى النبوة لمن اصطفاه لها في رؤىا منامية؟!.  

أم يريد المبطلون أن يشِيعوا التُرَّهات المفتراة ليبطلوا بها الحق؟!، وما أضلَّ الخُلوفَ اللاحقة إذا علقت الفرية بوهْم أحد القصاصين فحكاها دون إسناد فتعلقوا بها وقالوا إن الحديث المرسل حجة!.  

ـ ومنها أن يقول "كان رسول الله e يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تَحَنَّثُ به قريش في الجاهلية"!. والمعروف أن النبي e كان ينفِر نفورًا شديدًا من كل ما كان عليه المشركون، وأنه ما كان يفعل مما هم عليه إلا ما تواتر أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام، كتعظيم الكعبة المشرفة ومناسك الحج التي لم يدخلها التحريف، وأنه بعد ذلك حُبِّب إليه الخلوة، فهو يريد أن يكون خاليًا بعيدًا عن الناس، فكيف يخلو في مكان يرتاده المشركون؟!، ثم إنه كان يكره ما يفعله مشركو قريش من أمور التعبد، فكيف يختار الخلوة بالمكان الذي كانوا يعظمونه ويرتادونه؟!.  

ـ ومن الغريب أن محمد بن إسحاق ـ رحمه الله وغفر له ـ قد انطلت عليه هذه الفرية فراح يأتي بشاهد يشهد لها، وذلك إذْ ذكر في أثنائها جزءًا من القصيدة المنسوبة لعم النبي e أبي طالب، وهو قوله 

وراقٍ ليرقى في حِراءٍ ونازلِ 

فكأنه ظن أن أبا طالب يشير في قصيدته إلى صاعدِين في جبل حراء ونازلِين منه!، ولكن المتأمل في أبيات القصيدة وسياقها لا يجد فيها أدنى مناسبة لهذا المعنى، والظاهر منها هو الإشارة إلى صعود النبي e في جبل حراء ونزوله هو منه.  

ـ ومن الغريب أن يتابع جماعة من أهل العلم محمدَ بن إسحاق على ذكر هذه الرواية دون نقد ولا تمحيص، لا للسند ولا للمتن، منهم ابن سيد الناس في عيون الأثر، وأبو الربيع الكلاعي في الاكتفا، والسهيلي في الروض الأنف، وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، والذهبي في تاريخ الإسلام، وابن كثير في البداية والنهاية، والصالحي في سبل الهدى والرشاد، وغيرهم.  

ـ ومن الغريب أن يقول ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ولنا وللمسلمين أجمعين ـ: "إن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره: وراق ليرقى في حراء ونازل". [اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية].  

ـ ومن الغريب أن تُنسج الخيالات حول حراء فيدونها بعض المصنفين، فمن ذلك ما ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ عن عبد المطلب جد النبي e، قال: "عبد المطلب هو أول من تحنث بحراء، وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر". ونقل عنه ذلك ابن برهان الدين الحلبي في السيرة الحلبية وأضاف "ثم تبعه على ذلك مَن كان يتأله، كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة"!.  

ـ إن فرية تعظيم المشركين لحراء هي مطية للمفترين الذين يريدون أن يقولوا إن محمدًا e كان على سَنن المشركين، وحاشاه من ذلك، وإن حكاية هذه الفرية مع السكوت عليها هي طامَّة من الطامات في سيرة النبي e تؤدي إلى زعزعة العقيدة في نفوس الضعفاء الذين لا يعقلون؟!.  [هذه نبذة من كتاب: عقائد الأشاعرة في حوار هادئ]. 

 



[[1]] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية: 2 / 825، الطبعة الثالثة. ولم يعلق محقق الكتاب بشيء.  

السبت، 12 فبراير 2022

نبذة من كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار

هذه المباحثات العلمية هي نوع من المناظرة، وقد بيَّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين ما قد يقع في كثير من المناظرات من آفات، فأقتبسُ من بعض مقاصد كلامه رحمه الله فأقول:

قال رحمه الله: «ينبغي أن يكون الغرضُ من المناظرة المباحثةَ لإظهار الحق، فإن الحق مطلوب، والتعاونَ على النظر في العلم وتواردِ الخواطر بغية الوصول للحق مفيد، وهو من الدين، ولكن ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق تركَ ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانُه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا، فأي فائدة لمثل هذا في المناظرة؟!، كما ينبغي أن يكون المناظِر في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى من يناظره رفيقَ دربه ومعينا له للوصول إلى الضالة المنشودة، لا خصما، بل يشكره إذا عرَّفه وجه الخطأ وأظهر له الصواب، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبَّهه صاحبه على أنها في طريق آخر، فإنه يشكره ولا يذمه، بل يكرمه ويفرح به».

وما أجمل قوله «ينبغي أن يكون المناظِر مجتهدا لا مقلدا، بحيث إذا ظهر له الحق ترك ما كان يعتقده وانتقل إلى ما ظهر له رجحانه، فأما المقلد الذي ليس له رتبة الاجتهاد فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه، وكلما لاح له ما يوافق مذهب غيره يقول لعل عند أصحاب مذهبنا جوابا عن هذا». فرحمه الله رحمة واسعة.

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: «أما اتباع العقل الصِرف فلا يقـْوَى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقوَّاهم على اتباعه، وإن أردتَ أن تجرب هذا في الاعتقادات فأوردْ على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبا بعين ما صدَّق به مهما كان سيئ الظن بالأشعري، إذْ كان قَبُحَ في نفسه ذلك منذ الصِبا، وكذلك تقررُ أمرا معقولا عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبْع العوام! بل طبْع أكثر مَن رأيته من المتوسمين باسم العلم!، فإنهم لم يفارقوا العوامَّ في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم ـ في نظرهم ـ لا يطلبون الحق، بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقا بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد اعتقادهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المُتَلَقَّف بالتقليد: أصلا، وينبزون بالشبهة كلَّ ما يخالفه وبالدليل كلَّ ما يوافقه، وإنما الحق ضده!، وهو أن لا يعتقد شيئا أصلا وينظرَ إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقا ونقيضه باطلا، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقدم الإلف والتخلق بأخلاقٍ منذ الصبا».

وقال ابن تيمية رحمه الله: «من صار إلى قولٍ مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرتْ، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصبَ لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزِمَ حكمَ التقليد فلم يرجِّحْ ولم يزيِّفْ ولم يصوِّبْ ولم يخطِّئْ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه، فقـُبل ما تبين أنه حق، ورُدَّ ما تبين أنه باطل، وتُوُقف فيما لم يتبين فيه أحد الأمرين». وقال رحمه الله «فإن التقليد لا يورث الجزم».

وقال رحمه الله: «مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء». فرحمه الله رحمة واسعة.

  

الجمعة، 11 فبراير 2022

هل الإسلام هو رسالة حضارية وإصلاح اجتماعي فقط؟

 

الإسلام هو العمل الصالح المبني على الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر.

وجد كثيرون أن في الإسلام رسالة حضارية عظيمة وإصلاحا اجتماعيا وعلاجا للروح والنفس والمال والأسرة والأخلاق ولكل مَنْحًى من مناحي الحياة، فظنوا أن هذا هو الإسلام المقبول عند الله ولو كان بناؤه على غير أساس من الإيمان.

ليس الإسلام في حقيقته هو تلك الجوانبَ المدهشة حقا إذا كانت بلا إيمان، لكنه رسالة دينية إيمانية تشمل ذلك كله.

فمن نظر إلى رسالته الحضارية العظيمة وإلى ما فيه من إصلاح اجتماعي وعلاج للروح والنفس والمال والأسرة والأخلاق ولكل مَنْحًى من مناحي الحياة ووقف عند ذلك فهذا يعني أنه لم يفهم حقيقة هذه الرسالة السماوية الإيمانية الخالدة.

المسلم يعي تماما أهمية تلك الجوانب العظيمة حقا وأهمية ما فيها من خير لبني الإنسان، وينطلق لتحقيق ذلك النفع لبني الإنسان من عقيدته الإيمانية السمحة التي تدفعه إلى كل ذلك من الخير.

وهذا هو الفرق الكبير بين المسلم الذي يقدم ما يستطيع من الخير للناس رغبة فيما عند الله من الأجر وبين غير المسلم الذي يقدم ما يستطيعه كذلك رغبة فيما عند الناس من ثناء أو عطف أو تبجيل.

بعض مَن قرؤوا القرآن ممن فُتنوا بمظاهر الإسلام دون الوصول إلى لب حقيقته قرأ في كتاب الله تعالى قوله عز وجل {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}، وقرأ في التفسير أي: جعلكم عُمَّار الأرض تعْمُرونها لمعادكم ومعاشكم، ففهم منها أن الله تعالى خلق الإنسان لعمارة الأرض وطلب منه استفراغ الوُسع في عمارتها وأن هذا هو عنوان رسالة الإسلام!.

وعندما سئل بعد دراسته الإسلامية الطويلة لمَ خلق الله الإنسان؟ قال: لعمارة الأرض!. وترك ـ مع الأسف الشديد ـ قول الله عز وجل {وذكرْ فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمونِ. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.

وعندما تمسك بقول الله تعالى {واستعمركم فيها} ترك قوله تعالى {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وهذا هو المذكور في أول الآية، وهو الأساس لما بعده.

فما أبعد أولئك الغافلين عن فهم كلام رب العالمين.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 30/ 11/ 1441، الموافق 21/ 7/ 2020، والحمد لله رب العالمين.

الخميس، 10 فبراير 2022

العقلية العلمية والعقلية الآبائية

 

العقلية العلمية تعني أن العقل يسعى إلى العلم والمعرفة ويتخطى الحواجز والعراقيل، وهذا يعنى الحركة الدؤوب والتصحيح والارتقاء المستمر وتشجيع البحث والاستمرار في الإبداع.

العقلية الآبائية تعني أن العقل يميل إلى التمسك بما كان عليه الآباء ويقف عند الذي وصلوا إليه، وهذا يعني الجمودَ والقبول بما هو موجود وإيثار التقليد وتثبيط همم من يفكرون بالبحث، كما يعني قتل روح الإبداع.

قد يقول قائل: هذا صحيح ومفيد في العلوم الدنيوية، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والميكانيك والطب ونحوها، لكن علوم الشريعة التي تُتلقى بالوحي لا يمكن أن يتطرق إليها مثل هذا.

أقول وبالله تعالى أستعين:

كلام الله عز وجل كله حقائق قطعية لا شك فيها.

وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الناطقِ بالوحي المبلغِ عن الله تعالى في أمور الشريعة هو كذلك إذا كان ثابتا عنه، وكذلك أفعاله وإقراراته.

لكن كيف نصل إلى أن ما نُقل عنه هو ثابت عنه أو لا إذا لم نكن في زمنه المبارك ولم نسمع منه صلى الله عليه وسلم؟، لا بد من منهج علمي نستند إليه، وهو المنهج الذي أسهم في استلهامه من نصوص الكتاب والسنة كبارُ الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في كل علوم الشريعة، ثم لا بد من جمع كتب التراث والنظر فيها بتأمل واع وتدقيق.

لا بد من الحذر الشديد مما يحاول العالَمانيون والحِداثيون إدخاله وإقحامه في منهج التفكير، فقد قال الله عز وجل {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. وقال سبحانه {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. فالحذرَ الحذرَ.

استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية لا بد فيه من منهج علمي، وهذا المنهج اجتهادي، والأحكام المستنبطة من الأصول على ذلك المنهج اجتهادية، وقد تكون القواعد الأصولية والأحكام الفرعية المستنبطة مما يحتاج لمراجعة.

مرتْ على الأمة فتراتُ ازدهارٍ علميةٌ نبغ فيها علماءُ كبار في شتى فروع المعارف الإسلامية، لكن سنة الله في خلقه قضت أنه يتلو أزمنةَ الازدهار والتقدم فتراتٌ من الركود.

الحوادث المتجددة عبر العصور والمتسارعةُ في عصرنا الحاضر هي بحاجة لمن يتكلم فيها من فقهاء الشريعة ويستنبط لها الأحكام.

بعض الناس يتصورون أن ما توارثته الأجيال عبر القرون الإسلامية من كتب التفسير والحديث والعقيدة والأصول والفقه والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي هو على التمام والكمال، وأن فيها ما يكفي لتصحيح الصحيح وتضعيف الضعيف، وأن فيها ما يغني عن مزيد من النظر للإضافة والمراجعة.

وبعض الناس يتصورون أن ما توارثته الأجيال من تلك الكتب هو على نقيض التمام والكمال، وأن معظمه أخطاء، وأن الحاجة ماسة لإعادة النظر فيه جملة وتفصيلا لأنه ـ بزعمهم ـ لا يصح فيه إلا القليل.

الذي أراه ـ والله أعلم ـ هو لا هذا ولا ذاك، أعني أن التراث الإسلامي في مجمله ناصع مشرق، وأن فيه الكثير من الفحص والتقعيد والتأصيل والمراجعات، وأن فيه بعض الهَنَات التي ينبغي أن تُستكمل، وأن من ينظرون إليه في مجمله أنه على نقيض التمام والكمال هم إما أناس تنقصهم المعرفة أو ينقصهم العدل والإنصاف أو ينقصهم الإيمان واليقين.

نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن نستفيد من البرامج المعلوماتية التي وضعت أمامنا كتبَ التراث الإسلامي وأتاحت لنا من تسهيل سبل البحث الشيء الكثير مما لم يكن يخطر على بال، وهذا نعمة كبرى من الله عز وجل، والنعمة تقتضي شكر المنعم، والشكر المطلوب منا هو أن نستخدم هذه النعمة في البحث العلمي الذي يرضي اللهَ تعالى وأن نحْمَده على ذلك.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعلنا هادين مهديين، والحمد لله رب العالمين.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 6/ 1442، الموافق 20/ 1/ 2021، والحمد لله رب العالمين.