الاثنين، 28 يناير 2019

هل قلتُ قولا يلزم منه أن الأشاعرة والماتريدية مرجئة؟!



لتوضيح هذه المسألة أقول:
* ـ ذكرتُ في كتابي "بدعِ الاعتقاد في التجسيم والإرجاء" عددًا من النقول عما قاله العلماء القدامى من السلف فمَن بعدهم في بيان مَن هم المرجئة، وهذه بعضها:
منها أن معقلَ بنَ عبيد الله العبسي قال: دخلتُ على عطاء بن أبي رباح فأخبرته أن قومًا قِبَلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: "أوَليس الله عز وجل يقول {وما أمِروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}؟!، فالصلاة والزكاة من الدين". وعطاء بن أبي رباح رحمه الله هو من سادات التابعين.
ومنها ما رواه ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: "المرجئة يقولون: من قال أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا عبده ورسوله فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتـَل كذا وكذا!، مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة!". وسفيان الثوري إمام من شيوخ مشايخ الإمام أحمد، ومن كبار أتباع التابعين.
ومنها أن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: "المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة". وعبد الله بن المبارك وصفه الذهبي بأنه شيخ الإسلام، وأنه عالِم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، وهو من شيوخ مشايخ الإمام أحمد، ومن أتباع التابعين.
ومنها أن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: فإذا كان المرجئة يقولون إن الإسلام هو القول؟!. فقال الإمام أحمد رحمه الله: "هم يصيِّرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان". قال عبد الملك: فمِن ههنا حجتنا عليهم؟. قال: نعم.
ومنها ما نقله ابن البنا الحنبلي المتوفى سنة 471 عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: "المرجئة هم الذين يقولون من قالَ لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعلَ سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا".
ومنها أن ابن خزيمة المتوفى سنة 311 رحمه الله قال في كتاب التوحيد: "المرجئة توهمت أن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان".
ومنها أن ابن الجوزي المتوفى سنة 597 رحمه الله قال في كتاب تلبيس إبليس: "قالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا". وقال: "في ذلك الزمان حدثت فتنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة".
ومنها أن ابن تيمية المتوفى سنة 728 رحمه الله قال في مجموع الفتاوى: [قالت المرجئة على اختلاف فرقهم "لا تذهِب الكبائرُ وترْكُ الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر"].
ومنها أنه قال كذلك: "المرجئة يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمالُ الصالحة ليست من الدين والإيمانِ ويكَذبون بالوعيد والعقاب بالكلية".
ومنها أنه قال كذلك: "المرجئة غلطوا في ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العملِ الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكلِ عليه والشوق إلى لقائه، والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة، والثالث: قولهم كل من كفـَّره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى".
ومنها أن الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 رحمه الله قال في فتح الباري: "المرجئة هم طائفة من المبتدعة تقول لا يضر مع الإيمان معصية".
* ـ قلت في كتابي المذكور "بدعِ الاعتقاد في التجسيم والإرجاء" تعليقا على ما قاله هؤلاء العلماء: "إذا عُلم هذا فإني لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، أو إن مرتكب الذنوب والخطايا كاملُ الإيمان أو إن إيمانه هذا ينجيه من عذاب الله، ولا أعلم أن أحدا منهم يكذب بالوعيد والعقاب الذي أعده الله للفساق، أو يقول إن حسناتِنا مقبولةٌ وسيئاتِنا مغفورة، ولا أعلم أن أحدا منهم يقول من قالَ لا إله إلا الله محمد رسول الله وفعلَ سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا".
* ـ قال أحد الإخوة عني: [يُفهم من قول الإدلبي "لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه" أنهم يقولون إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون عمل الجوارح وأن عدمه ليس لازما لعدم الإيمان الذي في القلب].
أقول:
يبدو أن الأخ الباحث نقل كلامي بالمعنى، وهو صحيح المعنى ـ في الجملة ـ وإن لم أكن قلته، إلا أنه قد أغرب جدا بما حمَّله من معنى تخيَّله هو في الذهن مما لا يحتمِله الكلام وادعى أنه يُفهم هذا منه!.
كلامه فيه مسألتان لا بد من التعليق عليهما:
إحداهما أنه فهم من القول الذي نقله بالمعنى أن الأشاعرة والماتريدية يقولون إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون عمل الجوارح.
والثانية أنه فهم من القول الذي نقله بالمعنى أن الأشاعرة والماتريدية يقولون إن عدم العمل ليس لازما لعدم الإيمان الذي في القلب.
* ـ التعليق على المسألة الأولى:
تأمل:
لو قال إنسان عن جماعة من الناس "هؤلاء لا يقولون إن الإيمان يكون تاما بدون عمل القلب من محبة الله وخشيته والتوكل عليه" فمعنى هذا أنهم يقولون إن الإيمان لا يكون تاما بدون عمل القلب، وهذا صحيح.
لكن لو قال إنسان آخر عن تلك الجماعة من الناس "أنا أفهم من قولهم هذا أنهم يقولون إن الإيمان يكون تاما بدون عمل الجوارح" لأدرك العقلاءُ بالبديهة أن هذا من سوء فهمه، فهاتان قضيتان منفصلتان، ولا يلزم هذا من ذاك.
بيان هذا عند أهل العلم أن كلمة "عمل القلب" لا يصح أن يُؤخذ منها مفهوم المخالفة عند جماهير علماء الأصول، ويسمون هذا ونحوه مفهوم اللقب.
وهذا ما وقع فيه الأخ الباحث، فإنه نظر إلى هذا القول "هؤلاء لا يقولون إن الإيمان يكون تاما بدون عمل القلب"، فأخذ كلمة لا يقولون وكلمة عمل القلب واعتمد المعنى المخالف لها، أي إنه اعتمد بدلا منها كلمة يقولون وكلمة عمل الجوارح، فجاءت النتيجة حسب فهمه "هؤلاء يقولون إن الإيمان يكون تاما بدون عمل الجوارح"!، وهذا استنتاج غير صحيح. وكأن الكاتب بعيد عن علم أصول الفقه.
ثم إنه لو افترضنا أن قائلا قال هذا الذي تخيله الباحث في الذهن فإنه قد جاء جوابا لتساؤل أو سؤالٍ افتراضي عما إذا كان علماء الأشاعرة والماتريدية يقولون بشيء من هذه الأقوال، كما إنه قد خرج مخرج التفهيم لمن لا يدري حقيقة قول علماء هذين المذهبين.
وفي مثل هاتين الحالتين لا يصح الأخذ بمفهوم المخالفة من ذلك النص أصلا، وقد صرح بنحو هذا جماعة من علماء أصول الفقه، ولخصه الشيخ عبد القادر بدران رحمه الله في كتابه المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل فقال: "دلالة تخصيص شيء بحكم يدل على نفيه عما عداه هو مفهوم المخالفة، سُمي به لمخالفته للمنطوق به، ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور، وشرْطه أنْ لا يكون خرج لجواب سؤال عنه أو حادثة تتعلق به، ومثله أيضا ما يقتضي التخصيص بالذكر ككون الكلام خرج مخرج التفهيم".
* ـ هل قال علماء الأشاعرة والماتريدية إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون عمل الجوارح؟:
هذا القول يحتمِل أحد معنيين:
المعنى الأول: أن الإيمان يكون تاما التمام المطلق بدون عمل الجوارح بحيث يكون إيمان الفساق مساويا لإيمان النبيين والملائكة!، فيتساوى الإيمان الضعيف الذي لا يثمر والإيمان الذي يثمر قليلا والذي يثمر ثمرا يانعا كثيرا!!، وهذا قول المرجئة الأشرار.
وهذا لا يقول به الأشاعرة ولا الماتريدية، كيف وهم جمهور علماء الأمة وأئمتِها في التفسير والحديث والفقه والأصول والزهد والورع وكثرة التعبد والتهجد؟!، ولو كانوا يقولون بهذا القول البدعي لما أتعبوا أنفسهم بالورع عن الشبهات وكثرة العبادة والطاعات.
المعنى الثاني: أن الإيمان ـ في الحد الأدنى منه الذي يخرج المرءُ به من حالة عدم الإيمان إلى الإيمان ـ يجب أن يكون تاما التمام الجزئي المناسب لهذا القدر، لأنه لو لم يكن بهذا التمام فإنه لا ينقل المرءَ من حالة عدم الإيمان إلى الإيمان، كأن يكون إيمانا بوجود الله جل وعلا دون الإيمان بكمال علمه بالكليات والجزئيات مثلا، أو دون الإيمان بقدرته وعدله وحكمته وعظمته المطلقة، أو أن يكون إيمانا بأنبياء الله ورسله دون الإيمان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وخاتم النبيين، أو دون الإيمان بالبعث بعد الموت وبالجنة جزاء للمؤمنين وبالنار جزاء للكافرين والعاصين، والإيمان في هذا الحد الأدنى ليس فيه القوة الإيمانية التي تحمل صاحبَه على الخضوع العملي بالاستسلام لله رب العالمين بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
فإن وجدنا أحد علماء الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون عمل الجوارح فمراده هذا المعنى الثاني، وليس الأول.
* ـ التعليق على المسألة الثانية:
فهم الباحثُ من القول الذي نقله بالمعنى أن الأشاعرة والماتريدية يقولون إن عدم العمل ليس لازما لعدم الإيمان الذي في القلب.
أقول:
الأشاعرة والماتريدية يقولون إن عدم العمل بما أمر الله به هو من لوازم ضعف الإيمان، وليس من لوازم عدم الإيمان، وهذا صحيح.
الإيمان بدون عمل الجوارح إيمان ضعيف، لأنه لو كان قويا لأنتج ثمارا، والعمل الصالح هو من الإسلام ومن ثمرات الإيمان، لكن انعدام عمل الجوارح لا يعني انعدام الإيمان، وبالتالي فلا تلازم بين انعدام عمل الجوارح وعدم الإيمان الذي في القلب، بل التلازم هو بين انعدام عمل الجوارح وعدم قوة الإيمان في القلب.
الذي يراه الباحث من التلازم بين انعدام العمل وانعدام صحة الإيمان خطأ مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ـ فقد روى الشيخانِ البخاري ومسلم في صحيحيهما في حديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذين يأذن لهم الله تعالى بأن يشفعوا: "يقولون: ربَّنا إخوانُنا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا!. فيقـول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه. فيُخْرِجون من عَرَفوا، ثم يعودون، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فيقول الجبار تبارك وتعالى: بقيت شفاعتي. فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيُلقون في نهر بأفواه الجنة يُقال له ماء الحياة، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيُدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه".
وفي رواية في صحيح مسلم زيادة عند ذكر أهل المرتبة الرابعة: "فيقول الله عز وجل: شفَعَت الملائكة، وشَفَع النبيون، وشَفَع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط".
ـ وروى الشيخانِ البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟. قال: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخِر". قال: ما الإسلام؟. قال: "الإسلام: أن تعبدَ الله ولا تشركَ به شيئا، وتقيمَ الصلاة، وتؤديَ الزكاة المفروضة، وتصومَ رمضان". قال: ما الإحسان؟. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
ـ وروى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَضَ لي جبريل فقال بشِّر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة".
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا".
ـ فقد أخبرَنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين يخرجون من النار في آخر الأمر بشفاعة أرحم الراحمين هم قومٌ لم يعملوا خيرا قط، وهم عتقاء الرحمن، يدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، لكنهم ـ دون شك ـ على الاعتقاد الصحيح، ولولا ذلك لمَا أدركتْهم الشفاعةُ في مآل أمرهم ولكانوا مخلدين في النار مع الكافرين، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة من الإسلام لا من الإيمان، وأثبتَ دخول الجنة لمن مات على عقيدة التوحيد لا يشرك بالله شيئا، أي في مآل أمره بعد أن تدركه الشفاعة.
فكلامَ مَن نصدق؟!، كلامَ الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه أو كلامَ بعض الناس؟!، أما عندنا ـ معشر أهل السنة ـ فكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق وهو الميزان، وكل كلام يخالف كلامه فلا شك في أنه يُضرب به عُرض الحائط.
فمن أخرج العمل الظاهر عن مسمى الإيمان وأدخله في مسمى الإسلام هو صاحب العقيدة السُنية السَنية.
ـ شبهة وجواب:
قد يقول قائل: أليس قد قال عدد من كبار أئمة أهل السنة "الإيمان قول وعمل"؟!.
أقول: بلى، واشتد نكيرهم على من أخرج العمل من الإيمان جدا، لكن كان ذلك عندهم بمعنى إخراج العمل من الدين، وهذه بدعة المرجئة، وكثيرا ما كانوا يستعملون كلمة الإيمان أو الإسلام بما يشملهما كليهما، فالذي أخرج العمل من مسمى الإيمان والإسلام فهذا هو الذي أنكروا عليه غاية الإنكار، بل هذا القول بدعة شنعاء، وهي إما كفر وإما قريب من الكفر.
وأما من أخرج العمل من الإيمان وقال إنه من الإسلام ومن الدين فهذا وما قاله أئمة السلف يرجع إلى معنى واحد.
ولو قلنا بظاهر بعض ما قالوه في هذا الباب لكفـَّرْنا من لم يعمل بركن من أركان الإسلام أو اقترف كبيرة ومات قبل التوبة، وهذا قول الخوارج، أو لأخرجناه من الإيمان وجعلناه في منزلة بين المنزلتين وإن لم نكفره، وهذا قول المعتزلة، وكلا القولين بخلاف قول أهل السنة.
ـ كلمتا الإيمان والإسلام إذا جُمعتا في نص واحد فلكل واحدة منهما معناها المختص بها، وإذا جاءت إحداهما دون الأخرى فكثيرا ما تُستخدم بما يشمل معنى كلتيهما، وهذا أمر مهم جدا لفهم معاني الألفاظ في الاستعمال.
من قرأ الأحاديث التي رواها الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما في كتاب الإيمان وجد أحاديث كثيرة تتعلق بموضوع الإيمان وأحاديث تتعلق بموضوع الإسلام:
من ذلك ما روياه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".
ورويا عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قالوا: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟. قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
ورويا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟. قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
ورويا عن طلحة بن عبيد الله أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يُسمع دوي صوته ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟. قال: "لا، إلا أن تطوع". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام رمضان". قال: هل علي غيره؟. قال: "لا، إلا أن تطوع". وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟. قال: "لا، إلا أن تطوع".
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وروى مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: " قل: آمنت بالله فاستقمْ".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء".
كل ذلك في صحيحيهما في كتاب الإيمان، فهل كانت هذه الأحاديث مما يتعلق بموضوع الإيمان أو بموضوع الإسلام؟!.
لا شك في أنها تتعلق بموضوع الإسلام، وإنما روياها في كتاب الإيمان على معنى أن كلمة الإيمان تشمل الإيمان والإسلام.
ـ إذا قال كبار أئمة أهل السنة "إن الإيمان قول وعمل" واتهموا من أخرج العمل من الإيمان ببدعة الإرجاء فمعناه هنا إن الدين الذي يشمل الإيمان والإسلام هو قول وعمل، والنصوص التي نقلتها عن كبار أئمة أهل السنة في بداية هذا البحث تؤكد بشكل واضح هذا المعنى.
فمن لم يتنبه لهذا واتهم من قالوا بأن العمل من الدين ومن الإسلام لا من الإيمان بتهمة الإرجاء فقد أحدث في الأمة شرخا إن لم يتمكن علماؤها من رتقه فما أظن أنها تقوم لها قائمة.
اللهم تداركنا بلطفك وردنا إليك ردا جميلا يا رب العالمين.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 20/ 5/ 1440، الموافق 26/ 1/ 2019، والحمد لله رب العالمين.



الاثنين، 7 يناير 2019

سيدنا عيسى عليه السلام نبي الله وابن الإنسان


هذه قراءة فاحصة فيما وصلنا من الأناجيل وغيرها من أسفار النصارى الموجودة بأيديهم اليوم، تؤكد الطبيعة البشرية للمسيح عليه السلام، وتنفي عنه صفة الألوهية التي خلعها عليه الذين حرفوا كلام الله.
إنها لا تضيف جديدا إلى ما يقرره القرآن الكريم، ولكنها تكشف كيف امتد التحريف والتشويه إلى العديد من النصوص الواردة في الأسفار المسيحية ذاتها.
جاء في أسفار العهد الجديد وصف سيدنا عيسى عليه السلام بأنه "ابن الإنسان"، وبأنه "ابن الله"!، ولكن الأول هو الذي كان يطلقه على نفسه، وهو الأكثر استعمالا، إذ وردت هذه الكلمة ثلاثين مرة في إنجيل متى، وأربع عشرة مرة في إنجيل مرقس، وخمسا وعشرين مرة في إنجيل لوقا، وإحدى عشرة مرة في إنجيل يوحنا.
لا بدَّ من التوقف قليلا عند لفظ "ابن الله"، إذ يبدو أنه يدل على معنى "حبيب الله"، لكن قد يتطور في أذهان اللاحقين فيصبح على معنى الاشتراك في الإلهية، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
من الدليل على أن أصل معناه هو المحبة كونه عاما ـ في الأسفار التي بأيديهم ـ لكل المؤمنين وليس خاصا بعيسى عليه السلام، إذ من أقواله المنسوبة إليه قوله: "إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".
ويقول يوحنا: "أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله".
بل إن عددا من النصوص في هذه الأسفار تشير إلى أن عيسى عليه السلام نبي من أنبياء الله، حسب إشارته هو عن نفسه.
كان عيسى عليه السلام يعَلـِّم في مجمع وطنه الناصرة، فدُهش السامعون وقالوا: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟!. وأخذتهم الحيرة فيه، فقال لهم: "لا يُزْدرى نبي إلا في وطنه وبيته".
فهل قوله هذا إلا دليل واضح على أنه يرى نفسه نبيا؟!، وأنه لم يُعرف قدره في الناصرة إلا لأن النبي لا يُزدرى إلا في وطنه وبيته؟!، وقد اتفق على رواية قوله هذا الإنجيليون الثلاثة متى ومرقس ولوقا.
هو حبيب الله:
سأل سيدنا عيسى عليه السلام تلاميذه عما يقول الناس فيه؟، فقالوا: بعضهم يقول هو يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول هو إيليا، وغيرهم يقول هو إرميا، أو أحد الأنبياء. فسألهم عما يقولون هم؟، فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. فقال له "طوبى لك". ثم أوصى ـ حسب هذه الرواية ـ تلاميذه بأن لا يخبروا أحدا بأنه المسيح.
فهو لم ينكر تشبيهه بأحد أنبياء بني إسرائيل، ولم ينكر أنه نبي من الأنبياء، ومن المعلوم أن المراد بالناس هنا هم المؤمنون، وإلا فالذين لم يؤمنوا به فقولهم فيه لا هذا ولا ذاك، ولم يزد على أن امتدح مَن وصفه بأنه المسيح وأنه ابن الله!، ولما كان لا يريد آنذاك أن يُفْصح لجموع المؤمنين بعلو مقامه طلب من تلاميذه أن لا يخبروا أحدا بذلك، وهو كونه المسيح لا غير، أما الوصف بكونه ابن الله فلا يبدو أنه أخذ أي اهتمام، لأن معناه حبيب الله، وهذا مما لا شك فيه عند المؤمنين، ويبدو أن كلمة "ابن الله" ما كانت تعني في لغتهم أكثر من أنه حبيب الله، وإلا تكنْ كذلك لمَا رضي بأن يُقال عنه إنه أحد الأنبياء.
بل وقع التصريح بأن جموع المؤمنين عقيدتهم فيه أنه نبي، إذ أدرك أحبار اليهود والفريسيون أنه يعرِّض بهم في كلامه، فحاولوا أن يمسكوه، ولكنهم خافوا الجموع "لأنهم كانوا يعدونه نبيا".
وجاء عندهم نص يقول بأنه مر بأعمى فجبل طينا من تفاله، وطلى به عيني الأعمى، وأمره بالاغتسال، فارتد بصيرا، وكان اليوم يوم سبت، فقال بعض الفريسيين: ليس هذا الرجل من الله، لأنه لا يرعى السبت. وقال آخرون: كيف يستطيع خاطئ أن يأتي بمثل هذه الآيات؟!. فقالوا للأعمى: وأنت ماذا تقول فيه وقد فتح عينيك؟!. فقال: "إنه نبي". فتأمل.
وكانت عقيدة المؤمنين به هي أنه نبي، حتى ما بعد رفعه، إذ اتفق أن اثنين من تلاميذه كانا يسيران في اليوم الثالث بعد رفعه، وكانا يتحدثان ـ حسب الرواية ـ عن الأمور والأحداث التي سبقت ذلك، وإنهما ليتحدثان ويتجادلان إذا عيسى نفسه قد دنا منهما، وأخذ يسير معهما، وقد حُجبت أعينهما عن معرفته، فسألهما عن هذا الحديث الذي يخوضان فيه وهما سائران؟، فوقفا مكتئبين، وأجابه أحدهما: أأنت وحدك تقيم في أورشليم ولا تعلم ما حدث فيها هذه الأيام؟!. فقال لهما: ماذا؟!. قالا له: ما حدث ليسوع الناصري، وكان نبيا، مقتدرا على العمل والقول عند الله والشعب كله، كيف أسلمه الأحبار وأولياء أمرنا ليُحكم عليه بالموت.
إقحام على النصوص:
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لفظ "ابن الله" مُقـْحَما على النصوص، إذ يمكن أن يكون الداعي إلى ذلك هو الحماسَ الديني الشديد عند كتبة الأسفار، أو لدى الناسخين بعد ذلك، أو يكون هذا بتأثير من بولس، الذي ما لبث بضعة أيام بعدما تنصر حتى انطلق ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله، وهذا اللفظ محط قصْد لكاتبه، فتطرقُ احتمالِ الوضع والصنعة إليه أقرب.
أما وصف النبوة فقد جاء عرضا في كلام سيدنا عيسى عليه السلام نفسه، وجاء في ضمن وصايا رصينة من حِكمه، فهو أبعد عن تطرق احتمال الوضع والصنعة.
هذه الحكمة "لا يُزدرى نبي إلا في وطنه وبيته" تتلاءم مع أحواله وأقواله عليه السلام، وكذا قوله "ويكون أعداء الإنسان أهل بيته"، وهذه وأمثالها تؤكد أنه عليه السلام لم يكن إلا بشرا نبيا ورسولا.
فإذا أضيف أن وصف النبوة كان هو عقيدةَ المؤمنين سواء في حياة عيسى الدنيوية أو بعد رفعه وسواء عند الجموع أو الأفراد تبين أن هذا هو الحق في عقيدة النصارى الأولين.
إشارات أخرى لوصفه بالنبوة:
وردت الإشارة إليه بوصف النبوة في خطبة لبطرس، وفي أخرى لاسطفانس، إذ يستشهد كل منهما في الدعوة إلى الإيمان بعيسى عليه السلام بالقول المأثور عن موسى عليه السلام: "سيبعث الله ربنا من بين إخوتكم نبيا مثلي، فاستمعوا له في جميع ما يقول لكم".
ويقول عيسى عليه السلام في إشارة له عن نفسه: "ههنا أعظم من يونان"، [أي أعظم من يونس عليه السلام]، "ههنا أعظم من سليمان" عليه السلام. وليس من وصفٍ جامع بينهم حتى تقع فيه المفاضلة إلا وصف النبوة.
تبقى ملحوظة تستدعي شيئا من المناقشة، ذلك أنه إذا سُلم تفسير "ابن الله" على معنى المحبة والقرب فلا معارضة بينه وبين وصف النبوة، ولا إشكال في ذلك، أما إذا لم يُسلم ذلك التفسير وأريدَ اعتبار عيسى عليه السلام ابنا لله تعالى على معنى الاشتراك والاتحاد وأنه ليس نبيا كالأنبياء ففي كونه ابنَ الله وكونه نبيا تعارض، وإذا كان ذلك كذلك فلابدَّ من الترجيح لرفع الإشكال.
إذا كان عندنا نصوص يُفترض أنها ثابتة وكان فيها نصان ظاهرهما التعارض فلا بد من محاولة الجمع بينهما، وهو هنا ممكن إذا سُلم تفسير "ابن الله" على معنى المحبة والقرب، وهو الذي لا مناص عن القول به.
أما أن يأتي أناس يضربون النصوص بعضها ببعض ليثبِّتوا التعارض ويسدوا باب الترجيح ويقدموا المرجوح على الراجح فهذا فعل أهل الأهواء، وهذا هو الضلال المبين.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي، كتبتُ أصل هذا المبحث قبل أكثر من سبعة وثلاثين عاما، وعدلت فيه اليوم بعض التعديلات الخفيفة، في 1/ 5/ 1440، الموافق 7/ 1/ 2019، والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء، 1 يناير 2019

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 14 -


* ـ روى الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله من طريق الليث بن سعد ويونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَن يكلم فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟!، ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله؟!". ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ورواه النسائي من طريق شعيب بن أبي حمزة ومن طريق إسحاق بن راشد، والطبرانيُّ في الأوسط من طريق عمر بن قيس الماصر وفيه وهَمٌ في اسم الصحابي، ثلاثتهم عن الزهري به، وإسناد الطريق الأول من هذه الطرق الثلاثة صحيح، والثاني جيد، والثالث ضعيف لا بأس به في المتابعات.
ورواه النسائي كذلك عن محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، وفيه: "إنما هلكتْ بنو إسرائيل حين كانوا إذا أصاب الشريفُ فيهم الحدَّ تركوه ولم يقيموا عليه، وإذا أصاب الوضيع أقاموا عليه". وهذا إسناد صحيح.
* ـ ورواه البخاري عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة أنه قال: وجدتُ في كتاب كان كتبه أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فقالوا: من يكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟. فلم يجترئ أحد أن يكلمه، فكلمه أسامة بن زيد، فقال: "إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه".
ورواه كذلك عبدُ الرزاق عن معْمرِ بنِ راشد، والنسائيُّ من طريق ابنِ عيينة ومن طريق إسماعيل بن أمية، ثلاثتهم عن الزهري به بلفظ "قطعوه".
* ـ الحديث واحد، والقصة واحدة، فلا بد أن يكون اللفظ النبوي واحدا.
اللفظ الأول رواه ستة عن الزهري عن عروة عن عائشة، فهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
اللفظ الثاني رُوي من أربعة طرق عن الزهري:
رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة عن أيوب بن موسى باللفظ الثاني، لكن رواه النسائي عن محمد بن منصور المكي الثقة عن ابن عيينة عن أيوب بن موسى كذلك باللفظ الأول، وهذا الاختلاف في لفظ الرواية هنا هو من ابن عيينة، لأنه كان يروي بالمعنى، واللفظ الأول موافق لرواية الجماعة، فهو الأصل.
ورواه عبدُ الرزاق عن معْمرِ بنِ راشد باللفظ الثاني، وقد انفرد به معْمر عن سائر الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الزهري.
ورواه النسائيُّ من طريق ابنِ عيينة عن الزهري، وابنُ عيينة لم يسمعه منه، وإنما نقله من كتاب أيوب بن موسى عنه، كما تقدم في رواية البخاري السابقة، فرجع هذا الطريق إلى طريق أيوب بن موسى عن الزهري.
ورواه النسائيُّ من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري، وفي السند إليه راو له أوهام وراو سيئ الحفظ، فهو إسناد ضعيف.
فلا شك في أن الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أنه قال "وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، وأن من رواه "وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه" فقد وهِم، وأن هذه اللفظة معلولة.
* ـ الحديث باللفظ الثابت الصحيح رواه البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان من كتاب الحدود، وهذا الباب مناسب لمعنى الحديث.
وأما باللفظة المعلولة غيرِ الثابتة فرواه البخاري في باب ذكر أسامة بن زيد من كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الباب المناسب لجزء آخر في الحديث، وهو مكانة أسامة بن زيد حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلله در هذا الإمام الكبير، ورحمه الله رحمة واسعة.
* ـ وههنا مسألة في غاية الأهمية:
المشهور في عقوبة السارق عند أكثر الذين كانوا قبلنا هو أنه يُقتل أو يُحكم عليه بدفع غرامة مالية تبلغ عدة أضعاف قيمة المسروق.
وجاء الحكم الرباني في هذه الشريعة المحمدية بقطع يد السارق، لا بقتله ولا بغرامة مالية، وفي هذا حِكَم جليلة في الردع عن هذه الجريمة التي تقوض أمن المجتمعات.
أرى أنه لا ينبغي الاستشهاد بالرواية الثانية منسوبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم معزوةً لصحيح البخاري في موضوع حد السرقة عند الذين من قبلنا وخاصة أهل الكتاب، ففيها لفظة غير ثابتة في الحديث، وهذه الرواية وإن كانت مروية في صحيح البخاري فعلا فإن الإمام البخاري رحمه الله قد أوردها في بابٍ غيرِ الباب الملائم لهذه المسألة.
أود أن أشير بهذه المناسبة إلى أنه قد وقع أحيانا في بعض مصنفات الأئمة استشهادٌ بحديث مشتملٍ على عدة نقط في مسألة ما، وهذا يعني أن المصنف يرى صحة الجزء الذي يتعلق بالموضوع الذي هو محل الشاهد على الأقل، لكنه لا يعنى بالضرورة أنه يرى صحة الحديث بكل ألفاظه، وهذا كما وقع للإمام البخاري رحمه الله في عدد من المواضع في صحيحه.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 16/ 4/ 1440، الموافق 23/ 12/ 2018، والحمد لله رب العالمين.