الثلاثاء، 25 أبريل 2023

التحذير من زلة العالم

روى الدارمي في السنن عن زياد بن حدير أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!». قلت: لا. قال: «يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين». 

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الحارث بن عمير عن معاذ بن جبل أنه قال: «إياك وزلة العالم». قال: فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟. قال: «إن للحق نورا يُعرف به». 

وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق وأبو داود في كتاب الزهد والحاكم في المستدرك واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم، روَوا التحذيرَ من زلة العالم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وتميم الداري وأبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهم.  

علق ابن عبد البر رحمه الله على هذا بقوله: شبَّه العلماءُ زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وإذا ثبتَ وصحَّ أن العالم يخطئ ويزلُّ لم يجز لأحد أن يفتي بقول لا يعرف وجهه.  

قلت: هذا في جانب، وكثيرٌ من أهل الدعاوى الفارغة لا يقبلون بحال من الأحوال أن يقال عن أحد من أهل العلم إنه أخطأ في بعض المسائل ولو كان القول مدعَّما بالدليل الواضح!، ويضعون العالم في مرتبة تشبه مرتبة العصمة!، ويظنون أنهم يدافعون بذلك عن الدين وعن مقام العلماء!.  

في الواقع هم لا يدافعون بذلك عن الدين، ولا عن مقام أهل العلم، لو كانوا يعقلون. 


الجمعة، 21 أبريل 2023

حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه"


هذا الحديث فيه ثلاثة أجزاء، الجزء الأول هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، والجزء الثاني هو أنه قال لما خرج إلى أصحابه "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، والجزء الثالث تتمة القول، وهو "فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

كنت قد كتبت بحثا عن الجزء الثاني منه وهو حديث "المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، وهو غير ثابت، والجزء الثالث صحيح يأتي في آخر هذا البحث بإذن الله، وهأنذا أكتب هذا البحث عن الجزء الأول منه.

 

* ـ رُوي الجزء الأول من هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي كبشة الأنماري، ومن مرسل عبد الله بن حبيب وسالم بن أبي الجعد:

* ـ فأما حديث جابر بن عبد الله فرواه مسلم [3388] وعبد بن حميد [1061، وفي طبعة أخرى 1059] وأبو داود [2151] والترمذي [1158] والنسائي في الكبرى [9072] وأبو عوانة في المستخرج على صحيح مسلم [4464] والطحاوي في مشكل الآثار [5550] وابن حبان [5572] والطبراني في الكبير [132 من الجزء 24] وفي الأوسط [2385] وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم [3242] والبيهقي [13889]، من ثلاثة طرق عن هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه.

ورواه مسلم [3389] وابن حنبل [14537] وأبو عوانة في المستخرج [4465] وأبو نعيم في المستخرج [3243] وكذا في معرفة الصحابة [4544] والبيهقي في شعب الإيمان [5052]، من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به.

[أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس مكي وثقه عدد من الأئمة وليَّنه آخرون، وأقوالهم مذكورة في كتب الجرح والتعديل، وأقتصرُ هنا على ما أراه مهما مما سوى التوثيق: قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي واحتج عليه رجل بحديث عن أبي الزبير فغضب وقال: «أبو الزبير يحتاج إلى دعامة». وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه فقال: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وسأل أبا زرعة عنه فقال: روى عنه الناس. قال: يُحتج بحديثه؟!. قال: إنما يُحتج بحديث الثقات. وقال فيه الإمام النسائي: "كان شعبة يسيء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ، فإذا قال سمعت جابرا فهو صحيح، وكان يدلس". أي كان يدلس الإسناد.

[آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم: ص 169. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 8/ 76. السنن الكبرى للنسائي: 2/ 443، عند الحديث 2112. وفي طبعة أخرى عند الحديث 2101].

فأبو الزبير في أحسن الأحوال صدوق ثقة فيه لين وربما دلس الإسناد، ولم يصرح في تلك الطرق بما يدل على سماعه هذا الحديثَ من جابر، فالسند منقطع، فهو ضعيف.

ـ ربما يقف بعض الباحثين على أن ابن حنبل روى هذا الحديث في مسنده [14744] وفيه تصريح أبي الزبير بقوله "أخبرني جابر" فيرى صحة إسناد الحديث!.

وهذا غير صحيح البتة، لأن نص الحديث هناك ليس فيه هذا الجزء المنكر، وإنما الذي فيه هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في نفسه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد من نفسه».

ـ هل أعلَّ حديثَ جابر أحد العلماء السابقين؟:

قال الإمام الترمذي بعد تخريجه الحديثَ: "حديثُ جابر حديث حسن صحيح غريب". وكأنه يعني بذلك صحة السند ظاهرا وغرابة المتن.

وذكر الإمام الذهبي هذا الحديث مع حديثين آخرين في كتابه ميزان الاعتدال [4/ 39] وقال: "في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع من جابر وهي من غير طريق الليث عنه ففي القلب منها شيء". وذكر ذلك في سير أعلام النبلاء [5/ 385] وقال: "هذه غرائب، وهي في صحيح مسلم".

وإنما قال الذهبي "من غير طريق الليث عنه" لأن الليث بن سعد كان قد سأل أبا الزبير أن يعْلم له على ما سمع من جابر فأعلم له على تلك الروايات التي حملها عنه، واقتصر الليث عليها.

ـ هل أعلَّ الإمام النَسائي هذا الحديث؟:

روى الإمام النَسائي هذا الحديث في السنن الكبرى [9072] من طريق هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه [9073] عن قتيبة بن سعيد عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير مرفوعا مرسلا، وعلَّق على الرواية الثانية بقوله: "هذا كأنه أولى بالصواب من الذي قبله".

قد يقال إنه يشير بهذا إلى إعلال الحديث بالإرسال، لكنْ تقدَّم قريبا في تخريج حديث جابر أن عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة روياه عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به، فروايتهما المتصلة هي أقوى من رواية قتيبة بن سعيد عن حرب بالإرسال، فلا يتم الإعلال بالرواية المرسلة التي خولف راويها برواية راويين يرويانها بالوصل.

* ـ وأما حديث ابن مسعود فرواه الدارمي [2261] والبيهقي في شعب الإيمان [5053] عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلّام عن عبد الله بن مسعود أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فأتى سودةَ وهي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته. [قبيصة بن عقبة كوفي صدوق ثقة إلا في روايته عن سفيان الثوري، فهو كثير الغلط عنه لأنه سمع منه وهو صغير. أبو إسحاق السَبيعي قال فيه ابن حجر: ثقة مكثر اختلط بآخره]. فهذا إسناد ضعيف.

وهذا الحديث مما تبين فيه وجه الخطأ، فهو معلول بالوقف وبالمخالفة في اللفظ، إذ رواه قبيصة مرفوعا بهذا اللفظ ورواه اثنان من الثقات عن سفيان موقوفا وبلفظ مغاير، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة [17486] عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا على عبد الله بن مسعود أنه قال: "من رأى منكم امرأة فأعجبته فليواقع أهله، فإن معهن مثل الذي معهن". فازداد هذا الحديث بذلك وهنا على وهن.

وروى يحيى بن سعيد القطان وأبو نعيم الفضل بن دكين عن سفيان هذا الحديث بمثل رواية وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عنه، كما ذكره البيهقي في شعب الإيمان [5053]، وأشار البيهقي كذلك إلى أن إسرائيل بن يونس روى الحديث عن جده أبي إسحاق بمثل رواية قبيصة، لكن إسرائيل لم يتوقف عن السماع من جده بعد اختلاطه، فيُخشى أن تكون مما سمعها منه بعد الاختلاط.

* ـ وأما حديث أنس فرواه الطبراني في مسند الشاميين [2573] من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس مرفوعا به نحوه. [سعيد بن بشير الأزدي البصري الشامي ضعيف مات سنة 169]. فالسند ضعيف.

* ـ وأما حديث أبي كبشة فرواه ابن حنبل [18028] والطبراني في المعجم الكبير [848 من الجزء 22] وفي المعجم الأوسط [3251] وفي مسند الشاميين [2047]، من ثلاثة طرق عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحَرازي عن أبي كبشة الأنماري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله، قد كان شيء؟!. قال: "أجلْ، مرتْ بي"، فلانة، "فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال". ورواه عبدُ الملك بن حبيب في كتاب أدب النساء [86] عن معاوية بن صالح به.

[معاوية بن صالح وثقه عدد من الأئمة، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. أزهر الحَرازي كان ناصبيا يسب عليا رضي الله عنه، وثقه العجلي ومحمد بن وضاح، وذكره ابن حبان وابن خلفون في الثقات، وهؤلاء من المتساهلين في التوثيق، وقال أبو الفتح الأزدي: يتكلمون فيه. وذكره ابن الجارود في كتاب الضعفاء]. فهذا إسناد ضعيف.

* ـ وأما مرسل عبد الله بن حبيب فرواه ابن أبي شيبة [17484] عن وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي حَصين عن عبد الله بن حبيب مرفوعا مرسلا به نحوه. وعنده "فرجع إلى أم سلمة وعندها نسوة يَدُفْنَ طيبا". [أبو حَصين عثمان بن عاصم كوفي ثقة ربما دلس الإسناد مات سنة 128. عبد الله بن حبيب كوفي تابعي ثقة مات سنة 72 تقريبا]. داف الطيبَ يدُوفه دَوفا: خلطه.

ورواه ابن أبي شيبة [17485] عن عبد الرحيم بن سليمان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حبيب به مرفوعا مرسلا كذلك. والظاهر أن عبد الرحيم بن سليمان وهم في تسمية شيخ سفيان هنا، فجعله عن أبي إسحاق بدلا من أن يكون عن أبي حَصين، وعبد الرحيم بن سليمان ثقة فيه لين ووكيع ثقة متقن. والحديث على كلا الحالين مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ وأما مرسل سالم بن أبي الجعد فرواه ابن أبي شيبة [17487] عنه مرفوعا به نحوه. [سالم بن أبي الجعد تابعي ثقة]. وهذا حديث مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ درجة الحديث:

أسانيده ضعيفة، ولا يرتقي باجتماع هذه الطرق لمرتبة الحسن لما فيه من الغرابة التي هي الشذوذ، فقد اختل فيه الشرط الثالث من شروط الحديث الحسن التي نص عليها الإمام الترمذي رحمه الله، فهو ضعيف.

* ـ أصل هذا الحديث:

روى مسلم [3390] وأبو نعيم في المستخرج [3244] من طريق معقل بن عبيد الله الجزري، وابنُ حنبل [14672، 14744] من طريق عبد الله بن لهيعة، وابنُ حبان [5573] من طريق ابن جريج، ثلاثتهم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في قلبه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد ما في نفسه".

الظاهر أن هذه الرواية هي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن راويا ما ركَّب عليها الرواية الضعيفة التي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته، وأن تلك الرواية تسربت بعد ذلك إلى الرواة الضعفاء فتناقلوها وروَوها عن عدد من الصحابة، وأن أبا الزبير سمعها من واحد منهم يرويها عن جابر فرواها عنه، وهو معروف بتدليس الإسناد، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 13/ 4/ 1437، الموافق 23/ 1/ 2016، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

 

  

الثلاثاء، 4 أبريل 2023

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"

بسم الله الرحمن الرحيم


حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"


إحدى روايات هذا الحديث هي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم". فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟. 

* ـ هذا الحديث له عدة روايات من حيث الإسناد، فأستعرضها فيما يلي:

الرواية الأولى:

هذا الحديث رواه عبد الله بن المبارك في الجهاد [105]، ورواه ابن أبي شيبة [19783، 33681] عن عيسى بن يونس، وابنُ أبي شيبة كذلك [33682] عن وكيع عن سفيان الثوري، ثلاثتهم عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس اليماني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله بعثني بالسيف...". الحديث. 

[الأوزاعي ثقة إمام مات سنة 157. سعيد بن جبلة ضعيف، قال محمد بن خفيف الشيرازي الدمشقي المتوفى سنة 371: ليس هو عندهم بذاك. طاوس بن كيسان تابعي ثقة]. فهذا الإسناد ضعيف جدا، لأنه اجتمع فيه أكثر من سبب للتضعيف. 

وهذه الرواية هي الثابتة عن الإمام الأوزاعي، إذ رواها عنه ثلاثة من الرواة الثقات، عبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس وسفيان الثوري.

الرواية الثانية:

ورواه ابن أبي شيبة [19747] وابن حنبل [5114، 5115] وعبد بن حُميد [846] وابن الأعرابي في المعجم [1137] والطبراني في المعجم الكبير [14109] وفي مسند الشاميين [216] وتمام في الفوائد [770] والبيهقي في شعب الإيمان [1154] من طرق كثيرة عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان دمشقي ولد سنة 75 ومات سنة 165، قال فيه ابن حنبل في رواية: أحاديثه مناكير. وقال في رواية: لم يكن بالقوي في الحديث. وقال ابن معين في عدد من الروايات: ضعيف. وقال في رواية: لا شيء. وقال في رواية: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن شاهين في كتاب الضعفاء: ليس بشيء. وقال في كتاب الثقات: ليس به بأس. وقال ابن عدي: كان رجلا صالحا ويُكتب حديثه على ضعْفه. وضعَّفه ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ في عدة مواضع، ووثقه دُحيم وأبو حاتم وابن حبان، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ وتغير بأَخَرَة. حسان بن عطية دمشقي ثقة توفي بعد سنة 120. أبو المنيب الجرشي دمشقي وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وهما من المتساهلين في التوثيق]. فهذا إسناد ضعيف. 

الرواية الثالثة:

ورواه الطحاوي في مشكل الآثار [231] عن أبي أمية الطرَسوسي عن محمد بن وهب بن عطية، وابنُ حِذْلَم [31] من طريق هشام بن عمار وغيره، كلهم عن الوليد بن مسلم أنه قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره بنحوه. 

[الوليد بن مسلم دمشقي ثقة فيه لين، كثير التدليس والتسوية في الأسانيد، مات سنة 195]. 

فهذا إسناد ضعيف، لأن فيه راويا ممن يدلس تدليس التسوية ولم يتسلسل الإسناد منه إلى الصحابي بما يدل على السماع. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن حسان بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر مرفوعا. 

ويحتمِل ـ إن كانت هذه الرواية ثابتة عن الوليد بن مسلم ـ أن تكون مما سمعه الأوزاعي من عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية فرواها من باب الاستغراب، وأن يكون الوليد بن مسلم سمعها من الأوزاعي على هذا الوجه وأسقط اسم عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان منها، وهذه صورة تدليس التسوية، وقد كان الوليد بن مسلم يفعل ذلك، وبذلك يرجع هذا الطريق إلى الطريق الثاني. 

الرواية الرابعة:

ورواه أبو أمية الطرسوسي في مسنده [56] عن يحيى بن عبد الله البابلتي، وذكره ابن أبي حاتم في العلل [956] عن عمرو بن أبي سلمة، كلاهما عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به. 

[صدقة بن عبد الله السمين دمشقي ضعيف منكر الحديث، مات سنة 166]. فهذا إسناد ضعيف. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا، وهي من تخليط صدقة بن عبد الله.

الرواية الخامسة: 

ورواه سعيد بن منصور في سننه [2370] عن إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[إسماعيل بن عياش حمصي صدوق فيه لين فيما روى عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. أبو عمير الصوري قال فيه أبو حاتم: كان من عباد الله الصالحين. ولم يذكر شيئا عن مدى ضبطه وتيقظه، والسند مرسل، ومراسيل الحسن البصري مشهورة بالضعف]. فهذا السند ضعيف جدا لأن فيه أكثر من سبب للتضعيف.

* ـ قول إمامين من أئمة علم الحديث في هذا الحديث: 

سأل ابن أبي حاتم الرازي أباه عن حديث رواه عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة"، فقال: قال لي دُحيم: "هذا الحديث ليس بشيء، الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم". [علل الحديث لابن أبي حاتم: 956].

دُحيم هو الإمام الفقيه الحافظ محدث الشام عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو الدمشقي، وقوله "الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أن هذا هو الصواب في أسانيد هذا الحديث وأن ما عداه لا يصح، وقد أقره على هذا الإمام أبو حاتم الرازي أحد كبار أئمة علم العلل.

ـ مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن البخاري ذكر فقرتين من هذا الحديث في صحيحه تعليقا بصيغة التمريض ولم يروه بالسند، فقال "باب ما قيل في الرماح، ويُذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جُعل رزقي تحت ظل رمحي وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري". وهو لا يذكر الحديث بصيغة التمريض غالبا إلا إذا كان ضعيف الإسناد عنده. 

* ـ الخلاصة:

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف" طرقه شديدة الضعف، فلا يتقوى بعضها ببعض، ويبقى إسناد الحديث ضعيفا، والله أعلم. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 3 جمادى الثانية 1439، الموافق 19/2/2018، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

حوار وتعليق - طول العمر

روى ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشدَّ اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟. أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض". 

هذا الحديث له عدة أسانيد، وكنتُ قد بينت أنها كلها ضعيفة، وأن هذا الحديث لا يرتقي بمجموع تلك الطرق لأنه شاذ منكر.  

وهذا بعض ما قلته فيه:  

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:  

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.  

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.  

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، بينما تفضل رواياتُ هذا الحديث مَن لم يجاهد وعاش زيادة سنةٍ بصلاتها وصيامها على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا في العبادة!.  

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.  

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار طول العمر على معيار البذل والتضحية والإخلاص والبشارة بالجنة!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.  

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل ذلك المعيار المنحرف!، وإلى الله المشتكى.  

قال أحد الإخوة جزاه الله خيرا: الحديث ليس فيه تفضيل لهما على طلحة رضي الله عنهم أجمعين، الأمر هو أنه لم يُؤذن له بالدخول لأنه بقي حيا بعد هذه الرؤيا فقيل له ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد، فإذا مات أُذن له، ولم تُذكر درجته في هذا الحديث. 

أقول: 

هذا الكلام مبني على أن ذينك الأخوين قد دخلا الجنة حقيقة في الوقت الذي كان فيه طلحةُ رضي الله عنه ما يزال في الدنيا!، وهذا خلل كبير، لأن دخول الجنة يسبقه مراحل، ولا بد من عرْض الأعمال والحساب، ثم يدخل المؤمنون الذين عملوا الصالحات الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وأحبابنا منهم أجمعين. 

أمَّا قبل الحساب فكيف تمَّ لهما دخول الجنة؟!.  

ثم إن الذي عاش بعد أخيه سنة ـ حسب هذه الرواية ـ قد سبق أخاه في دخول الجنة على الرغم من أن أخاه هو أشد اجتهادا منه في العبادة وهو من المجاهدين الذين رُزقوا الشهادة في سبيل الله!. 

الرؤيا التي رآها طلحة رضي الله عنه ـ حسب هذه الرواية ـ تصف حاله وحال ذينك الرجلين في الآخرة عند دخول الجنة، لكنها تجعل السابق في دخول الجنة هو الأخ الأقل اجتهادا في العبادة الذي لم يشارك في الجهاد ولم يُرزق الشهادة!، لأنه عاش بعد أخيه سنة وقد صلى فيها وصام، يليه الأخ الأشد اجتهادا في العبادة والذي جاهد واستُشهد!، يليه طلحة بن عبيد الله المجاهد الذي كانت يده شلاء لأنه وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد!.  

هذه الرواية منكرة نكارة شديدة، والظاهر أنها موضوعة. 

من آثار هذه الرواية أن الإخوة والأقران إذا رأيت واحدا منهم قد عاش بعد أقرانه سنة واحدة وقد صلى فيها وصام هو أفضل من أقرانه الذين سبقوه بالعبادة والفضائل!، وكذلك العلماء والأئمة!. 

وكذلك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم!، إذا أردت أن تعرف الأفضل فهذه الرواية تعطيك ميزانا تقيس به، هو الذي يعيش أكثر من غيره بسنة يصلي فيها ويصوم!، فإذا عاش أكثر من غيره بعشر سنين أو بعشرين فالظاهر منها أنه قد سبق غيره بكثير!، حتى مَن كان أشد اجتهادا في العبادة!، وحتى مَن رُزق الشهادة في سبيل الله!، وحتى إذا كان من المبشرين بالجنة!. وإلى الله المشتكى.