الثلاثاء، 4 أبريل 2023

حوار وتعليق - طول العمر

روى ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشدَّ اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟. أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض". 

هذا الحديث له عدة أسانيد، وكنتُ قد بينت أنها كلها ضعيفة، وأن هذا الحديث لا يرتقي بمجموع تلك الطرق لأنه شاذ منكر.  

وهذا بعض ما قلته فيه:  

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:  

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.  

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.  

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، بينما تفضل رواياتُ هذا الحديث مَن لم يجاهد وعاش زيادة سنةٍ بصلاتها وصيامها على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا في العبادة!.  

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.  

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار طول العمر على معيار البذل والتضحية والإخلاص والبشارة بالجنة!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.  

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل ذلك المعيار المنحرف!، وإلى الله المشتكى.  

قال أحد الإخوة جزاه الله خيرا: الحديث ليس فيه تفضيل لهما على طلحة رضي الله عنهم أجمعين، الأمر هو أنه لم يُؤذن له بالدخول لأنه بقي حيا بعد هذه الرؤيا فقيل له ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد، فإذا مات أُذن له، ولم تُذكر درجته في هذا الحديث. 

أقول: 

هذا الكلام مبني على أن ذينك الأخوين قد دخلا الجنة حقيقة في الوقت الذي كان فيه طلحةُ رضي الله عنه ما يزال في الدنيا!، وهذا خلل كبير، لأن دخول الجنة يسبقه مراحل، ولا بد من عرْض الأعمال والحساب، ثم يدخل المؤمنون الذين عملوا الصالحات الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وأحبابنا منهم أجمعين. 

أمَّا قبل الحساب فكيف تمَّ لهما دخول الجنة؟!.  

ثم إن الذي عاش بعد أخيه سنة ـ حسب هذه الرواية ـ قد سبق أخاه في دخول الجنة على الرغم من أن أخاه هو أشد اجتهادا منه في العبادة وهو من المجاهدين الذين رُزقوا الشهادة في سبيل الله!. 

الرؤيا التي رآها طلحة رضي الله عنه ـ حسب هذه الرواية ـ تصف حاله وحال ذينك الرجلين في الآخرة عند دخول الجنة، لكنها تجعل السابق في دخول الجنة هو الأخ الأقل اجتهادا في العبادة الذي لم يشارك في الجهاد ولم يُرزق الشهادة!، لأنه عاش بعد أخيه سنة وقد صلى فيها وصام، يليه الأخ الأشد اجتهادا في العبادة والذي جاهد واستُشهد!، يليه طلحة بن عبيد الله المجاهد الذي كانت يده شلاء لأنه وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد!.  

هذه الرواية منكرة نكارة شديدة، والظاهر أنها موضوعة. 

من آثار هذه الرواية أن الإخوة والأقران إذا رأيت واحدا منهم قد عاش بعد أقرانه سنة واحدة وقد صلى فيها وصام هو أفضل من أقرانه الذين سبقوه بالعبادة والفضائل!، وكذلك العلماء والأئمة!. 

وكذلك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم!، إذا أردت أن تعرف الأفضل فهذه الرواية تعطيك ميزانا تقيس به، هو الذي يعيش أكثر من غيره بسنة يصلي فيها ويصوم!، فإذا عاش أكثر من غيره بعشر سنين أو بعشرين فالظاهر منها أنه قد سبق غيره بكثير!، حتى مَن كان أشد اجتهادا في العبادة!، وحتى مَن رُزق الشهادة في سبيل الله!، وحتى إذا كان من المبشرين بالجنة!. وإلى الله المشتكى.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.