الاثنين، 22 يونيو 2015

تداول السلطة -- هل لهذا المبدأ تأصيل شرعي؟

لم يأت نص في كتاب الله جل وعلا ولا في سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه يبين طريقة اختيار خليفة للمسلمين ولا تحديد سنوات حكمه
والمطلوب هو التوافق لكن بالشورى
وجرى العمل في التاريخ الإسلامي أن الخليفة يستمر في الحكم إلى أن يتوفاه الله  
ولكن هذا ليس أمرا ملزما
بل المبدأ الأساسي في الخلافة عند أهل السنة أنها تكون بالبيعة على طريقة الشورى
والبيعة تعاقد بين طرفين
ولا يوجد مانع شرعي من اعتماد أن تكون البيعة مدى الحياة أو موقتة بسنوات معدودة
الأمر منوط بالشورى
والله أعلم

الخميس، 11 يونيو 2015

حديث "أليس قد مكث هذا بعده سنة وأدرك رمضانَ فصامه؟! فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض"

حديث "أليس قد مكث هذا بعده سنة وأدرك رمضانَ فصامه؟! فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض"

رُوي هذا الحديث من رواية طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وعبيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص مع ناس من الصحابة:
ـ فأما حديث طلحة فرواه ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طرق عن يزيد ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". قالوا: بلى. قال رسول الله: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
[يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ثقة مات سنة 139. محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ثقة فيه لين مات سنة 120. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة ولد سنة 22 أو بعدها ومات سنة 94 أو بعدها]. أبو سلمة لم يسمع من طلحة، فالسند منقطع، فهو ضعيف.
ـ ورواه ابن حنبل والبيهقي في الزهد عن يزيد بن هارون، وأبو يعلى ـ كما ذكر البوصيري ـ والشاشي من طريق إسماعيل بن جعفر، كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن طلحة به نحوه.
ـ وله طريق آخر عن طلحة رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله. [سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ضعيف. أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بيض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. سليمان بن عيسى بن موسى لم أجد له ترجمة. موسى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة ثقة مات سنة 104]. فهذا إسناد تالف.
ـ وله طريق آخر عن طلحة رواه مسدد ـ كما قال البوصيري ـ عن عبد الله بن داود، والبزارُ وأبو يعلى من طريقين آخرين عن عبد الله بن داود، عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم مولى لنا عن عبد الله بن شداد عن طلحة بن عبيد الله به نحوه. [عبد الله بن داود بن عامر الخُريبي ثقة مات سنة 213. طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزيل الكوفة صدوق فيه لين، ولد سنة 61 ومات سنة 148. مولاهم إبراهيم مجهول. عبد الله بن شداد مدني تابعي ثقة ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات سنة 82]. فهذا الطريق شديد الضعف.
فإن قيل: رواه ابن حنبل وابن أبي شيبة في المسند ـ كما قال البوصيري ـ عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد، أن نفرا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. فذكر القصة بنحوها، وفيه: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا فخرج فيه أحدهم فاستُشهد، ثم بعث بعثا فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيرا يليه، ورأيت الذي استُشهد أولهم آخرهم، فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "وما أنكرت من ذلك؟!، ليس أحد أفضلَ عند الله من مؤمن يُعمر في الإسلام، لتسبيحه وتكبيره وتهليله".
[إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله مدني صدوق ثقة، ولد سنة 36 ومات سنة 110].
فالجواب أننا نجد هنا أن طلحة بن يحيى وهو صدوق فيه لين روى هذا الحديث مرة عن ابن عمه الثقة إبراهيم بن محمد، ورواه مرة أخرى عن إبراهيم مولى لهم، فالرواية التي سمى فيها شيخَه بإبراهيم بن محمد وقع فيها الشك، فهي معلولة، فيبقى السند هنا شديد الضعف.
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن حنبل وابن أبي شيبة في المسند والبزار من طريق محمد بن بشر وزياد بن عبد الله، كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
ورواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به مرسلا.
محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين، وروايته عن أبي سلمة هنا ضعيفة لاضطرابه فيها، فقد تقدم أنه روى هذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة موافقا لما رواه الراوي الثقة محمد بن إبراهيم التيمي، ثم رواه مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومرة عن أبي سلمة مرسلا.
ـ وأما حديث عبيد بن خالد فرواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي وأبو داود في السنن من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن رُبَيِّعة السلمي عن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقـُتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلوا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟!. قالوا: دعونا الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله وصيامه بعد صيامه؟!، لَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
[عمرو بن مرة كوفي ثقة مات سنة 118. عمرو بن ميمون الأودي كوفي ثقة مات سنة 74. عبد الله بن رُبيِّعة السلمي ذكره ابن حبان في الثقات في طبقة الصحابة وقال له صحبة، ثم أعاده في طبقة التابعين، ثم ذكر في طبقة التابعين عبد الله بن ربيعة الراوي عن عبيد بن خالد ولم يقل فيه السلمي، وهذا يعني أنه جازم بأن الراوي عن عبيد بن خالد ليست له صحبة. عبيد بن خالد قال البخاري له صحبة]. عبد الله بن رُبَيعة لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، فهذا السند لين.
ـ وأما حديث سعد وناس من الصحابة فرواه ابن حنبل وابن خزيمة من طريق عبد الله بن وهب عن مخرمة عن أبيه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت سعدا وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عُمر الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الأول على الآخر، فقال: " ألم يكن يصلي؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله فكان لا بأس به. فقال: " ما يدريكم ماذا بلغت به صلاته؟!". ثم قال عند ذلك: "إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمْرٍ عذبٍ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فماذا ترون يبقِي ذلك من درنه؟!". وذكره مالك في الموطأ أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به.
[عبد الله بن وهب مصري ثقة ولد سنة 125 ومات سنة 197. مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج مدني صدوق، لم يسمع من أبيه وروايته عنه من كتاب، ففيها لين، ومات سنة 159. أبوه مدني نزيل مصر مات سنة 122. عامر بن سعد بن أبي وقاص مدني ثقة مات سنة 104].
مخرمة بن بكير وثقه ابن سعد وعلي بن المديني وأحمد بن صالح المصري، وقال النسائي ليس به بأس، وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به، وسمع ابن حنبل حمادَ بنَ خالد الخياط وهو ثقة يقول: أخرج مخرمة بن بكير كتبا وقال هذه كتب أبي لم أسمع من أبي شيئا. وقال ابن حنبل: ثقة إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يُحتج بروايته من غير روايته عن أبيه، لأنه لم يسمع من أبيه ما يروي عنه. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وحديثه عن أبيه كتاب، ولم يسمعه منه.
والتوقف فيما روى مخرمة عن أبيه ليس للشك في صدق مخرمة، وإنما خشية أن يكون قد دخل شخص ما فزاد في كتب أبيه ما ليس منها، فهذا السند لين.
ـ خلاصة الأمر أن أسانيد هذا الحديث هي ما بين لين وضعيف وتالف وشديد الضعف، والحديث لا يرتقي بمجموع هذه الطرق لأنه شاذ.
ووجه شذوذه مخالفته للآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الصحيحة الثابتة في تفضيل من استُشهد في سبيل الله تعالى.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين. 

الاثنين، 1 يونيو 2015

العلم أو القوة؟



بعض الناس يتعزز بالعلم، ولا يهمه بعد ذلك ما يقول الناس، وبعضهم يتعزز بالقوة، ولا يهمه بعد ذلك ما يقول الناس، والحق له علاقة وشيجة بالعلم وليس بالقوة.

هل اشتملت كتابات بعض المناوئين للأشاعرة على اتهام بلا برهان؟ -النبذة: 1


ـ قال الباحث الأول في كتابه عن عقائد الأشاعرة: "الأشاعرة هي أكبر فرق المرجئة الغلاة".
ـ قلت في كتابي عقائد الأشاعرة في حوار هادئ مع شبهات المناوئين:
[اتهام الأشاعرة بأنهم من المرجئة بل من المرجئة الغلاة: قول عظيم، وبهتان جسيم.
[ما الذي يقوله المرجئة؟ وما الذي يميزهم عما سواهم من الفرق؟ قال ابن أبي العز: "المرجئة يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة"].
ـ وقلت في كتابي عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار:
[ثم إنني وقفت على ما يبين مراد الباحث الأول من كلمة المرجئة الغلاة في أحد كتبه أو مقالاته الأخرى، فقد قال: "غلاة المرجئة، وهم الجهمية ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به وعدم اعتباره في الخلاف، بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الثنتين والسبعين الضالة، وعَدُّوهم أكفرَ من اليهود والنصارى والمجوس، لمسائلَ ذهبوا إليها، منها هذه المسألة، فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب، فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان، أي وإن لم يعمل".
[وقال في موضع آخر في معرض حديثه عن المرجئة الغلاة والمرجئة غيرِ الغلاة: "القائلون إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفـَّرهم السلف، وأما من قال إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه وإنَّ ترْكَ المعاصي مطلوب والعقوبةَ عليها ثابتة فهم مرجئة الفقهاء، وهم بريؤون من الأول"].
أقول: فالمرجئة الغلاة عند الباحث الأول:
هم القائلون بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، وهم الذين كفـَّرهم السلف، وهم غير مرجئة الفقهاء الذين يقولون إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه وإنَّ ترْكَ المعاصي مطلوب والعقوبةَ عليها ثابتة.
وهم الذين يقولون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب وأن كل من عرف الله بقلبه فهو مؤمن تام الإيمان، وهم الذين أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الثنتين والسبعين الضالة وعَدُّوهم أكفرَ من اليهود والنصارى والمجوس.
وظاهر كلام الباحث الأول أن الأشاعرة ـ في قول السلف ـ كفار، وأنهم ـ في قول أئمة الإسلام الكبار ـ أكفرُ من اليهود والنصارى والمجوس.
لكنه جزاه الله خيرا لم يوافق قول السلف وقول أئمة الإسلام الكبار فقال في أواخر كتابه: "تبين مما تقدم أن الأشاعرة فرقة من الثنتين وسبعين فرقة، وأن حكم هذه الفرق الثنتين وسبعين هو الضلالة والبدعة والوعيد بالنار وعدم النجاة،  والحاصل أن قولنا إن الأشاعرة فرقة ضالة يعني أنها منحرفة عن طريق الحق ومنهج السنة، ولا يعني مطلقاً خروجها عن الملة وأهل القبلة".
المطلوب من المناوئين للأشاعرة اليوم أن يذكروا نصوص علماء الأشاعرة ـ من كتبهم ـ التي يقولون فيها هذا الكلام المنسوب إليهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وأن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب وأن كل من عرف الله بقلبه فهو مؤمن تام الإيمان، ويكفينا نصوص ثلاثة من علمائهم.
فإن أتوا بذلك علمنا أن الباحث الأول كان أمينا ودقيقا في النقل عنهم، وإلا فهو يذكر النقول دون تحرٍ ولا تثبت.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "الذي يدل عليه القرآن أن كل من تكلم بلا علم فأخطأ فهو كاذب، وكذلك الذي يدل عليه الشرع أن كل من أخبر بخبر ليس له أن يخبر به وهو غير مطابق فإنه يسمى كاذبا وإن كان لم يتعمد الكذب".
ألا هل بلغت؟!، اللهم فاشهد.

إنسان يقر بوجود الله ولكنه لا يؤمن به

قال لي أحد الإخوة: هناك إنسان أعرفه يقر بوجود الله ولكنه لا يؤمن به، لأنه يظن أن الله قاسٍ على عباده، إذ يسمح بوقوع الابتلاءات والألم عليهم من وفاة المواليد والأمراض وغير ذلك، كيف يمكن توضيح الأمر كي تتم إزالة اللبس؟.
فقلت في الجواب:
الخالق سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء، وهو الملك والمالك لكل شيء، يفعل ما يشاء في ملكه، ولا يُسأل عما يفعل.
وله حكمة دقيقة في كل شيء، سواء علمها الإنسان أو لم يعلمها.
الإنسان في كثير من الأحيان ـ وهو لم يُؤت من العلم إلا قليلا ـ يريد أن يعرف كل شيء ويطلع على الحِكَم الإلهية في الخلق وتصريف الأكوان والعوالم وتدبيرها، ولكنه مهما حاول فهو صغير جدا جدا في هذه العوالم الفسيحة الممتدة، فكيف يحيط علمه بالخالق وعلمِه وحكمتِه؟!!.
النملة لا تستطيع أن تدرك الحكمة من تصرف الطبيب الجراح الذي يقوم بأدق العمليات الجراحية، وليس من حقها أن تعترض عليه.
النسبة بين علم النملة مقارنا بعلم الإنسان وحكمته وبين علم الإنسان وحكمته مقارنا بعلم الخالق وحكمته هي واحد إلى اللانهاية، وإذا كانت النملة لا تدرك الحكمة في أفعال الإنسان فالإنسان لا يدرك الحكمة في أفعال الخالق العظيم من باب أولى.

نصيحتي لكل إنسان أن يعرف قدره، وأن يكون متواضعا بين يدي خالقه، وأن يسَلـِّم بعظمته وحكمته.

حديث إثبات الفضيلة الخاصة للنصف من شعبان


هذا الحديث له طرق كثيرة متشعبة وألفاظ مختلفة، والكلام عليها يطول جداً، وبعد جمع ما أمكنني جمعه من الروايات ودراسة أسانيدها فإنني أقسم البحث فيها إلى ثلاثة مطالب: الروايات التالفة، والروايات الجيدة، والروايات الضعيفة المعلولة، مع التنبيه إلى استبعاد الكلام حول اختلاف الألفاظ، لأن المقصود في المقام الأول هنا هو هل ثبت للنصف من شعبان فضيلة خاصة أوْ لا؟.
فأقول بإيجاز شديد مستعيناً بالله تعالى، وبالله التوفيق:

المطلب الأول في الروايات التالفة:
أرى ضرورة إيراد الروايات التالفة، أي الشديدة الضعف أو الظاهرة الخطأ أوَّلاً، لأنها لا يُعتبر بها، فيتم استبعادها قبل النظر والترجيح، لئلا يقع بها التشويش والتشتيت.
ـ  هذا الحديث رواه عبد الرزاق الصنعاني عن أبي بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة عن إبراهيم بن محمد عن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن علي t، مرفوعاً إلى رسول الله e. [سنن ابن ماجه. شعب الإيمان]. وهذا إسناد تالف، فيه ابن أبي سبرة وهو منكر الحديث متهم بالوضع.
ـ  ورواه جماعة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد الملك بن عبد الملك أن مصعب بن أبي ذئب حدثه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه أو عمه عن جده، وهو أبو بكر الصديق t، مرفوعاً. [التوحيد لابن خزيمة. مسند البزار. شعب الإيمان]. وهذا إسناد تالف، فيه عبد الملك وهو منكر الحديث جداً يروي ما لا يُتابع عليه كما قال ابن حبان.
ـ  ورواه اثنان عن مرحوم بن عبد العزيز البصري عن داود بن عبد الرحمن عن هشام بن حسان البصري عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مرفوعاً. [مساوئ الأخلاق للخرائطي. شعب الإيمان].
وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه داود بن عبد الرحمن، والظاهر أنه داود بن عبد الرحمن بن راشد الواسطي، وهذا قد ضعفه الأزدي [كما في لسان الميزان]. ويبدو أنه مجهول، إذ لم أقف على رواية أحد عنه سوى مرحوم، ورواية المجاهيل التي تجيء على وَفق رواية الضعفاء هي شديدة الضعف.
ولا بد من التنبيه على أن المزي لم يذكر هذا الراوي في تلاميذ هشام بن حسان، وذكره في شيوخ مرحوم بن عبد العزيز، وسماه "داود بن عبد الرحمن العطار"، ويبدو أنه قد ذهب وهْمه إلى هذا لشهرته، ولعله وهِم في ذلك، لأن العطار هذا مكي، وإذا روى الرواية بصريٌّ عن مكي عن بصري ففي هذا غرابة، والأقرب أن الرواية قد رواها بصري عن واسطي عن بصري، لأن واسط قريبة من البصرة، فهذه قرينة على أن داود بن عبد الرحمن الوارد في هذا السند هو الواسطي الضعيف وليس المكي الثقة.
ـ  ورواه حاتم بن إسماعيل عن النضر بن كثير عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عروة عن عائشة عن النبي e. [أخلاق النبي لأبي الشيخ. فضائل الأوقات للبيهقي]. وهذا إسناد تالف، فيه النضر بن كثير، وهو ضعيف وقيل فيه يروي الموضوعات.
ـ  وروي من طريق وهب بن بقية الواسطي الثقة عن سعيد بن عبد الكريم الواسطي عن أبي النعمان السعدي عن أبي رجاء العطاردي عمران بن ملحان عن عائشة عن النبي e. [فضائل الأوقات للبيهقي]. وهذا إسناد تالف، فيه سعيد بن عبد الكريم، وهو متروك كما قاله الأزدي، وفيه أبو النعمان السعدي، والظاهر أنه مجهول، إذ لم أجد له ترجمة ولم يذكره المزي في الرواة عن أبي رجاء.
ـ  ورواه سلام بن سليمان المدائني عن سلام بن سَلـْم الطويل المدائني عن وهيب المكي عن أبي رهم عن عائشة، مرفوعاً. [شعب الإيمان]. وهذا إسناد تالف، فيه سلام بن سليمان وهو ضعيف، وسلام الطويل وهو متروك.
ـ  ورواه عمرو بن هاشم البيروتي عن سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، مرفوعاً. [الدعاء للطبراني. النزول للدارقطني. شعب الإيمان]. وهذا إسناد تالف، فيه ابن أبي كريمة، وعامة أحاديثه مناكير وروى عن هشام بواطيل.
ـ  ورواه حسن بن موسى عن عبد الله بن لهيعة عن حُيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً. [مسند الإمام أحمد].
وهذا إسناد تالف، فيه عبد الله بن لهيعة، وهو من غير رواية أحد العبادلة عنه، وابن لهيعة كان إذا لـُقـِّن تلقن وكان يدلس عن الضعفاء والمتروكين، وقد اضطرب في رواية هذا الحديث خاصة، فرواه على أوجه مختلفة، والظاهر أن هذه الرواية وسائر رواياته لهذا الحديث من تخليطه.
ـ  ورواه أبو الأسود النضر بن عبد الجبار عن ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى، مرفوعاً. [سنن ابن ماجه. النزول للدارقطني. شعب الإيمان]. وهذا إسناد تالف، والظاهر أنه من تخليط ابن لهيعة.
ـ  ورواه عبد الغفار بن داود عن ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبادة بن نسي عن كثير بن مرة عن عوف بن مالك، مرفوعاً. [مسند البزار]. وهذا إسناد تالف، والظاهر أنه من تخليط ابن لهيعة كذلك.
ـ  ورواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري، مرفوعاً. [سنن ابن ماجه]. وهذا إسناد تالف، والظاهر أنه من تخليط ابن لهيعة كذلك.
ـ  ورواه ابن أبي الدنيا عن هارون بن عمر عن الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن إسحاق بن عبد الله عن مكحول عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن جماعة من الصحابة، مرفوعاً. [فضائل رمضان لابن أبي الدنيا]. وهذا الإسناد تالف لا يُعتمد عليه، ففيه هارون بن عمر المخزومي الدمشقي، وقد ترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وفيه ابن لهيعة وحاله ما ذكرت، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك متهم بالكذب، ومع التخليط الذي فيه من إدخال اسم خالد بن معدان وجماعة من الصحابة وزيادة الرفع فهو أقرب إلى الواقع من روايات ابن لهيعة المتقدمة.
ـ  ورواه فرات بن سليمان عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن مكحول عن كثير بن مرة عن يزيد بن جارية، مرفوعاً. [معجم الصحابة لابن قانع]. وهذا إسناد تالف، فيه إسحاق وهو متروك متهم بالكذب، وقد زاد في هذه الرواية اسم يزيد بن جارية وجعلها مرفوعة.
ـ  ورواه عباد بن أحمد بن عبد الرحمن العرزمي عن عمه محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن مطرف بن طريف عن الشعبي عن عروة عن عائشة، عن النبي e. [معجم شيوخ الإسماعيلي].
وهذا إسناد تالف، فيه عباد بن أحمد وعمه محمد، وهما متروكان، وفيه عبد الرحمن بن محمد، وهو ضعيف. ومحمد بن عبيد الله العرزمي والد عبد الرحمن هو من الرواة عن مكحول وهو متروك، فلا يُستبعد أن يكون أصله مما سمعه عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي من أبيه عن مكحول ثم عبثت به يد أحد أولئك الضعفاء.
ـ  وروي من طريق أبي الحسن الحسيني عن محمد العرزمي عن محمد بن علي مرفوعاً، لكن بلفظ "من صلى ليلة النصف من رمضان وليلة النصف من شعبان مئة ركعة...". الحديث. [فضائل رمضان لابن أبي الدنيا].
وهذا إسناد تالف، فيه أبو الحسن الحسيني لم أعرفه، وفيه محمد العرزمي، وسواء أكان محمد بن عبد الرحمن أو محمد بن عبيد الله فهو متروك، والظاهر أنه الثاني.
ـ  ورواه الأحوص بن حكيم عن المهاجر بن حبيب، أو المهاصر بن حبيب، عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي e. [السنن الصغرى وشعب الإيمان للبيهقي. معجم الصحابة لابن قانع]. وهذا إسناد تالف، فيه الأحوص بن حكيم، وهو ضعيف واه.
ـ  ورواه العلاء بن الحارث الدمشقي عن عائشة عن النبي e. [شعب الإيمان]. العلاء ولد بعد وفاة عائشة بثمان سنين وتوفي سنة 136، وكان ثقة ثم تغير عقله، وهو من الرواة عن مكحول، وربما كانت هذه الرواية مما سمعه من مكحول ثم وقع فيها التغيير بسبب الاختلاط.
ـ  ورواه الوضين بن عطاء الدمشقي مرسلاً معضَلاً عن النبي e. [مسند إسحاق بن راهويه]. الوضين من أتباع التابعين ولد سنة 79 وتوفي سنة 149، وهو صدوق فيه لين، وهو من الرواة عن مكحول، وربما كانت هذه الرواية مما سمعه من مكحول ثم وقع فيها التغيير بسبب سوء الحفظ.
ـ  ورواه عبد الرزاق عن المثنى بن الصبَّاح عن قيس بن سعد عن مكحول عن كثير بن مرة الحضرمي عن رسول الله e، مرفوعاً مرسلاً. [مصنف عبد الرزاق]. وهذا إسناد تالف، فيه المثنى بن الصبَّاح وهو ضعيف متروك، وهذه الرواية من أوهامه، إذ جعلها مرفوعة وهي في الأصل موقوفة على التابعي.
ـ  ورواه سليمان بن أحمد الواسطي عن عتبة بن حماد عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل، مرفوعاً. [مسند الشاميين للطبرني]. وهذا إسناد تالف، فيه سليمان بن أحمد الواسطي، وهو ضعيف متروك.
ـ  ورواه جماعة عن الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة، مرفوعاً. [مسند الإمام أحمد. مسند عبد بن حميد. مسند إسحاق بن راهويه. مصنف ابن أبي شيبة. سنن الترمذي. سنن ابن ماجه. شعب الإيمان].
والحجاج بن أرطاة صدوق مدلس وفيه لين، ولم يسمع من يحيى بن أبي كثير، وهو من الرواة عن مكحول وإن كان قد اختـُلف في سماعه منه، والظاهر أن هذا من أخطائه وأنه مما سمعه من مكحول أو مما بلغه عنه، لا سيما وقد رواه في بعض الأحيان عن مكحول وإن كان قد وقع له فيه خطأ آخر، ويكون الحديث بهذا قد رجع إلى حديث مكحول.
ـ  ورُوي هذا الحديث كذلك عن عمرو بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي يحيى عن أبيه عن بضعة وثلاثين صحابياً موقوفاً عليهم. [أخبار مكة للفاكهي]. وهذا إسناد تالف، فيه عمرو بن ثابت وهو ضعيف، ومحمد بن مروان، ويبدو أنه السدي الصغير المتوفى بعد سنة 180، وهو متروك كذاب.

المطلب الثاني في الروايات الجيدة:
لقد صحَّ حديث فضل النصف من شعبان عن مكحول الشامي موقوفاً عليه، ومكحول هو من طبقة صغار التابعين، والراوون عنه ـ في الطرق التي لا بأس بها ـ إما وقفوه عليه أو على أحد التابعين ممن هم أقدم طبقة منه، وهذه هي الطرق التي لا بأس بها عنه:
ـ  قال شجاع بن الوليد: أخبرنا زهير بن معاوية قال: أخبرنا الحسن بن الحر قال: حدثني مكحول قال: "إن الله يطـَّلع على أهل الأرض في النصف من شعبان، فيغفر لهم إلا رجلين كافر أو مشاحن". [شعب الإيمان للبيهقي]. وهذا إسناد جيد، فيه شجاع بن الوليد أبو بدر، وهو صدوق ثقة فيه لين، ويتقوى بالروايات التالية الموقوفة.
ـ  وقال اللالكائي: أخبرنا الحسين قال: أخبرنا أحمد قال: حدثنا بشر قال: حدثنا محمد  بن كليب قال: حدثنا معتمر قال: سمعت بُرْدًا يحدث عن مكحول. فذكره بنحوه موقوفاً عليه من قوله. [شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي].
بعد البحث والتنقيب عن أسماء آباء من لم يُنسبوا فقد ترجح لدي أن الحسين هو ابن عمر بن بَرهان الغزال، سمع أبا بكر النجاد وغيره، وهو ثقة توفي سنة 412، أي قبل وفاة اللالكائي بست سنوات فقط، [تاريخ بغداد 8: 640]، وأن أحمد هو ابن سلمان بن الحسن أبو بكر النجاد، سمع بشر بن موسى وغيره، وهو من كبار فقهاء الحنابلة، وهو صدوق فيه لين، توفي سنة 348، [تاريخ بغداد 5: 309ـ 313]، وأن بشْرًا هو ابن موسى بن صالح الأسدي، وهو ثقة توفي سنة 288، [تاريخ بغداد 7: 569 ـ 572]، ومحمد بن كليب ومعتمر بن سليمان وبُرد بن سنان الدمشقي كلهم ثقات، ومعتمر بن سليمان بصري وبرد بن سنان دمشقي سكن البصرة، فإن كان ما رجحته في أسماء من لم يُنسبوا صحيحاً فهو إسناد حسن في المتابعات، وهذا هو الظاهر، وإلا يكنْ كذلك فيتقوى بالروايات الأخرى.
ـ  ورواه عبد الرزاق عن محمد بن راشد المكحولي عن مكحول عن كثير بن مرة الحضرمي الحمصي موقوفاً عليه من قوله. [مصنف عبد الرزاق]. كثير بن مرة عده ابن حجر في التقريب من طبقة كبار التابعين. وهذا إسناد لا بأس به، فيه محمد بن راشد المكحولي، وهو ثقة فيه لين.
ـ  ورواه محمد بن يوسف الفريابي عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة موقوفاً عليه. [النزول للدارقطني].
وفي هذا الإسناد الحسن بن علي بن شبيب المعْمري، وهو ثقة فيه لين، رفع موقوفات وزاد في المتون أشياء ليست منها كما قال ابن عدي، ولكنْ هذه رواية ليست مرفوعة وليس فيها زيادة في المتن على ما رواه غيره، وفي السند محمد بن يوسف الفريابي وهو صدوق ثقة فيه لين، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق فيه لين وتغير عقله في آخر حياته.
ومع هذا فهذه الرواية موافقة للرواية السابقة في الجملة، سوى في إقحام اسم خالد بن معدان بين مكحول وكثير بن مرة، ففيها المزيد في متصل الأسانيد، ويبدو أنه من أوهام عبد الرحمن بن ثابت، وفيما سوى ذلك فهي سليمة من حيث اتفاقها مع الروايات التي تجعل هذا الحديث موقوفاً على التابعي لا مرفوعاً، ولذا فقد أدخلت هذه الرواية من روايات ابن ثوبان في الروايات الجيدة دون رواياته الأخرى.
ـ  ورواه زيد بن أبي أنيسة عن جنادة بن أبي خالد عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني موقوفاً عليه. [النزول للدارقطني].
وفي هذا الإسناد الحسن بن علي بن شبيب المعمري، وهو ثقة فيه لين، رفع موقوفات وزاد في المتون أشياء ليست منها كما قال ابن عدي، ولكن هذه رواية ليست مرفوعة وليس فيها زيادة في المتن على ما رواه غيره، وفي السند جنادة بن أبي خالد، وهو صدوق، وسائر الرواة في هذا الإسناد ثقات، فهو إسناد جيد في الجملة.
ولو صح هذا الإسناد لقلنا إن مكحولاً سمع الرواية من كثير بن مرة ومن أبي إدريس الخولاني، لكن ربما وهم جنادة بن أبي خالد أو غيره فجعلها من رواية مكحول عن أبي إدريس بدلاً من مكحول عن كثير بن مرة.
وعلى كل حال فإن هذه الرواية توافق الروايات التي جعلت هذا الحديث موقوفاً على أحد التابعين لا مرفوعاً.
ـ  جاءت رواية عند الدارقطني في كتاب النزول، وفيها: حدثنا أبو سهل ابن زياد قال: أخبرنا العمري قال: سمعت عمار بن أبي شيبة قال: أخبرنا جرير، أراه عن برد وأبي العلاء الشامي، أراه عن مكحول، أراه عن كعب قوله. [النزول للدارقطني].
يبدو أن بعض الأسماء في هذا الإسناد قد حصل فيها تصحيف، وأنه ينبغي أن تكون هكذا "قال: أخبرنا المعمري قال: سمعت شيبان بن أبي شيبة قال: أخبرنا جرير أراه عن  بُرد أبي العلاء الشامي"، بحذف الواو بين برد وأبي العلاء، لأن برداً هو أبو العلاء وهذه كنيته.
فأما أبو سهل فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد المولود سنة 259 والمتوفى سنة 350، وهو بغدادي ثقة. وأما المعمري فهو الحسن بن علي بن شبيب المعمري، المتوفى سنة 295 وقد جاوز الثمانين، وهو ثقة فيه لين، رفع موقوفات وزاد في المتون أشياء ليست منها كما قال ابن عدي، ولكن هذه رواية ليست مرفوعة وليس فيها زيادة في المتن على ما رواه غيره. وشيبان بن أبي شيبة هو شيبان بن فروخ، المولود سنة 140 تقريباً والمتوفى سنة 236، وهو صدوق ثقة. وجرير هو ابن حازم، وهو ثقة فيه لين وروايته عن قتادة ضعيفة وهذه ليست منها. وأما بُرْد فهو ابن سنان أبو العلاء الشامي المتوفى سنة 135، دمشقي سكن البصرة، وهو ثقة فيه لين.
فهذا إسناد جيد في المتابعات، وهو طريق ثان عن برد بن سنان عن مكحول، وإنما أفردت هذا الطريق لما فيه من الإشارة إلى أن هذا مما تـُلـُقـِّيَ عن كعب الأحبار، ويتقوى بالأسانيد السابقة التي تجعل هذا الحديث موقوفاً على أحد التابعين لا مرفوعاً إلى رسول الله e.
ـ  وفي هذه الرواية فائدة مهمة، وهي إشارة إلى أن أصل هذا الحديث يرجع إلى كعب الأحبار، الذي كان يهودياً فأسلم وهاجر في خلافة عمر t، والذي كان يحدث عن أسفار أهل الكتاب، وبالتالي فهي إشارة إلى أن الأحاديث التي تخص النصف من شعبان بالفضائل هي من الإسرائيليات.

المطلب الثالث في الروايات الضعيفة المعلولة:
ـ  روى حديثَ فضل النصف من شعبان عتبة بن أبي حكيم عن مكحول مرفوعاً إلى رسول الله e. [النزول للدارقطني].
في هذا الإسناد الحسن بن علي بن شبيب المعمري، وقد بينت حاله فيما تقدم، وفيه بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي، وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وعتبة بن أبي حكيم، وهو صدوق يخطئ وروى مناكير. فالظاهر أن رفع الحديث من مناكيره.
ـ  ورواه اثنان عن الحجاج بن أرطاة عن مكحول عن كثير بن مرة الحضرمي عن رسول الله e، مرفوعاً مرسلاً. [مصنف ابن أبي شيبة. شعب الإيمان للبيهقي].
وهذا إسناد ضعيف، فيه الحجاج بن أرطاة، وهو لين له أوهام، وهذه الرواية من أوهامه، إذ جعلها مرفوعة إلى رسول الله e وهي في الأصل موقوفة على التابعي من قوله.
ـ  وروى الدارقطني الحديث في كتاب النزول من رواية هشام بن الغاز عن مكحول عن عائشة عن النبي e فقال: وأما حديث هشام بن الغاز عن مكحول فذكره عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ولم أسمعه منه، قال: أخبرنا عبد الملك بن الأصبغ البعلبكي قال: أخبرنا الوليد بن مسلم عن هشام بن الغاز عن مكحول. [النزول للدارقطني]. [كان في الأصل تصحيف في بعض الأسماء فصححته بالرجوع إلى كتب الرجال].
وهذا سند لا يُعتمد عليه، ففيه الانقطاع بين الدارقطني وعبد الله بن أبي داود، وفيه الوليد بن مسلم، وهو كثير التدليس والتسوية.
ـ  ورواه عبد الله بن بسر السكسكي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة، عن النبي e مرفوعاً مرسلاً. [مسند الحارث بن أبي أسامة]. في هذا الإسناد عبد الله بن بسر، وهو ضعيف، فالظاهر أنه أخطأ في رفع الحديث.
هذا وقد أكدتْ لنا هذه الرواية أن مكحولاً لم ينفرد برواية الحديث عن كثير بن مرة، وأن خالد بن معدان تابعه عليه، ولكن لم تصلنا رواية خالد بن معدان من طريق جيد عنه، وأكثرها جاءت بالرفع، وهذا الطريق أقلها ضعفاً، وقد تقدمت بعض الطرق التي أدخلت اسم خالد بن معدان بين مكحول وكثير بن مرة.
ـ  ورواه جماعة عن هشام بن خالد الدمشقي عن عتبة بن حماد عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل t، مرفوعاً. [صحيح ابن حبان. السنة لابن أبي عاصم. المعجم الكبير والمعجم الأوسط ومسند الشاميين للطبراني. شعب الإيمان].
ظاهر هذا الإسناد أن عتبة بن حماد روى هذا الحديث عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وأنهما كليهما روياه عن ثابت بن ثوبان عن مكحول عن مالك بن يخامر، وأن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الذي روى مناكير وتغير عقله بآخره قد تُوبع من الأوزاعي، وحيث إن الأوزاعي وثابت بن ثوبان ومكحولاً ثقات فلهذا أدرجه ابن حبان في الصحيح !!.
وههنا مسألة هامة يغفل عنها كثير من طلاب هذا العلم، وهي أن الرواية في الطريقين المجموعين بالعطف قد لا تكون واحدة، وأنها ربما تكون قد جاءت في الأصل على وجهين مختلفين اختلافاً مؤثراً في السند أو المتن، ولذا فإن للأئمة النقاد نظرات فيها، تدعوهم أحياناً إلى التوقف في مثل تلك الروايات أو استنكارها.
وذلك بسبب أن الراوي قد يقع له الحديث من طريقين على وجهين مختلفين سنداً أو متناً، فيذكر طرفاً من أحد طريقي الإسناد، ثم يتبعه بذكر طرف الطريق الثاني متبوعاً ببقية السند مع المتن الوارد في الطريق الثاني، فيتوهم من يقف على روايته للحديث أن الحديث هو بهذا السياق في الطريقين !!، وهذا من أنواع الإدراج في السند.
ومن المفيد التنبُّه إلى زيادة كلمة جاءت في طريقين آخرين عن هشام بن خالد، فقد رواه يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي وأبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني عن هشام بن خالد على وجه مختلف قليلاً عما في الطرق الأخرى، فقد جاءت الرواية عندهما عنه هكذا: "قال: حدثنا عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحول، وابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم". [النزول للدارقطني. شعب الإيمان للبيهقي]، بزيادة "عن مكحول" بعد لفظة "الأوزاعي"، وهذا يقوي احتمال أن يكون عتبة بن حماد قد روى الحديث عن الأوزاعي عن مكحول، وتوقف قليلاً، ثم تابع فرواه بالعطف عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ عن رسول الله e، وربما كانت رواية الأوزاعي عن مكحول موقوفة عليه ورواية ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول ببقية الإسناد مع الرفع، وهذا من باب الإدراج في الإسناد، وإذا كان ذلك كذلك فتكون رواية الرفع إنما جاءت من قبَل عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وحده، وهو صدوق فيه لين وتغير عقله في آخر حياته.
أي إن القراءة الصحيحة للسند ينبغي أن تكون هكذا "حدثنا عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحولٍ، وابنُ ثوبان عن أبيه"، وليست "حدثنا عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحولٍ وابنِ ثوبان عن أبيه".
أقول: جالت في ذهني هذه الاحتمالات لا لأن كل الطرق التي تأتي بالعطف لا بد أن يكون فيها خلل وإدراج في الإسناد، ولكن لأن القرائن هنا تجعل من المستبعد أن يصح هذا الحديث بالرفع. وستأتي الإشارة إلى تلك القرائن بعون الله.
ثم رجعتُ إلى ما في كتب العلل فوجدت اثنين من الأئمة يعِلـَّان هذا الطريق ويجزمان بأنه منكر أو غير محفوظ، وهما أبو حاتم الرازي والدارقطني. وسأنقل ما قالاه بعون الله عند ذكر أقوال العلماء في إعلال الحديث.
ـ  ورواه شعيب بن محمد الدبِيلي عن أزهر بن المرزبان عن عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ، مرفوعاً. [الحلية لأبي نعيم].
وهذا إسناد لا يُعتمد عليه، فيه شعيب بن محمد الدبِيلي المتوفى بعد سنة 305، وقد ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وفيه أبو زهير أزهر بن المرزبان المقرئ، ذكره السمعاني في الأنساب في شيوخ  شعيب بن محمد الدبيلي، ولم أجد له ترجمة. ولعل أصل هذه الرواية هو أن أزهر سمعها بالوجهين المتقدمين ففصلهما ورواها من الطريق الذي حصل فيه إدراج الإسناد وهو لا يدري.
ـ  وروى البيهقي الحديث في الشعب من طريق محمد بن كثير المصيصي قال حدثنا الأوزاعي عن مكحول، وأعقبه بروايته من طريق هشام بن خالد عن عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحول وابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل عن النبي e أنه قال "يطَّلِع الله في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". وقال: [وفي رواية المصيصي "قال قال رسول الله e"، والباقي سواء]. [شعب الإيمان].
أقول: ليس مراد البيهقي ـ حسبما يبدو من تعقيبه ـ أن المصيصي روى الحديث بتمام هذا الإسناد وبقوله في آخره "قال قال رسول الله e"، وأن عتبة بن حماد رواه بهذا الإسناد وبقوله في آخره "عن النبي e أنه قال"، لأن كليهما بمعنى واحد وإن كان بعض المحدثين كان يلتزم لفظ الرواية ولا يبدل واحداً بآخر، ويبدو أن مراد البيهقي هو أن المصيصي رواه عن الأوزاعي عن مكحول عن رسول الله e مرسلا، وأن هشام بن خالد رواه عن عتبة بن حماد بروايتيه عن الأوزاعي وعن ابن ثوبان، وبهذا يكون في رواية المصيصي عن الأوزاعي إدراج في الإسناد، كما أن في رواية عتبة بن حماد عن الأوزاعي إدراجا في الإسناد كذلك.
ومحمد بن كثير المصيصي ضعيف، وروايته لهذا الحديث بالرفع وهَم منه، كما وهم فيه غيره من الضعفاء.
ـ  هل ترتقي هذه الروايات من مرتبة الضعف واحتمال الخطأ إلى مرتبة القبول؟:
قد يقول قائل: روى هذا الحديثَ عتبةُ بن أبي حكيم عن مكحول بالرفع، وكذا الحجاج بن أرطاة عن مكحول عن كثير بن مرة، وكذا رُوي عن هشام بن الغاز عن مكحول عن عائشة رضي الله عنها، ورواه عبد الله بن بسر السكسكي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة، وكذا رواه عتبة بن حماد عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ t، ورواه أزهر بن المرزبان عن عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ t، ورواه هشام بن خالد عن عتبة بن حماد عن الأوزاعي عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ t إذا لم تكن الرواية من مدرج الإسناد، ورواه محمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي عن مكحول مرفوعاً أو بزيادة مالك بن يخامر عن معاذ t إذا لم تكن الرواية من مدرج الإسناد كذلك، وكل هذه الروايات مرفوعة إلى رسول الله e، فلمَ لا ترتقي بمجموعها إلى مرتبة الحسن أو الصحة ؟؟!.
أقول: هذه الطرق كلها قد تطرَّق إليها الضعف، إما لضعف في الراوي وإما لاحتمال الإدراج في السند، ولولا الروايات المعارضة لارتقت إلى مرتبة القبول.
والروايات المعارضة لها هي ما رواه الحسن بن الحر عن مكحول، وبرد بن سنان عن مكحول، ومحمد بن راشد المكحولي عن مكحول عن كثير بن مرة، ومحمد بن يوسف الفريابي عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة، وجنادة بن أبي خالد عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني، كلها موقوفة على التابعي، وأسانيد الطرق الموقوفات أقوى من أسانيد المرفوعات.
ولا يمكن أن يكون الحديث عند راو من الرواة عن رسول الله e وعن تابعي موقوفاً عليه فيرويَه ولو في بعض المرات بالوقف على التابعي دون أن يقرنه بالرواية المرفوعة، وهذا هو منهج الأئمة النقاد، فهل يمكن أن يكون الحديث عند مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ عن رسول الله e وعن بعض التابعين موقوفاً عليه فيرويه مرات بالوقف دون أن يذكر الطريق المرفوع ؟!، أما على منهج الأئمة النقاد فهذا في غاية البعد، وهذا دليل على أن الطريق المرفوع غير ثابت.
بعض أقوال العلماء في إعلال الحديث:
ـ  قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه أبو خليد القارئ عن الأوزاعي عن مكحول وعن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يُخامر عن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطَّلع الله تبارك وتعالى ليلة النصف من شعبان إلى خلقه". قال أبي: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد، ولم يُرو إلا بهذا الإسناد عن أبي خليد، ولا أدري من أين جاء به". قلت: ما حال أبي خليد؟. قال: شيخ. [وأبو خليد هو عتبة بن حماد].
ـ  سئل الدارقطني رحمه الله عن حديث مالك بن يُخامر عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يطَّلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". فقال: "يُروى عن مكحول، واختـُلف عنه: فرواه أبو خليد عتبة بن حماد القارئ عن الأوزاعي عن مكحول وعن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل، قال ذلك هشام بن خالد عن أبي خليد، حدثناه ابن أبي داود قال حدثنا هشام بن خالد بذلك. وخالفه سليمان بن أحمد الواسطي، فرواه عن أبي خليد عن ابن ثوبان عن أبيه عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل، كلاهما غير محفوظ". ثم ذكر الدارقطني رحمه الله عدداً من طرق الحديث وقال: "والحديث غير ثابت".
وسئل رحمه الله كذلك عن حديث حبيب بن صهيب عن أبي ثعلبة الخُشني أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يطلع إلى عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدَع أهل الحقد لحقدهم حتى يدَعوه". فقال: "يرويه الأحوص بن حكيم، واختـُلف عنه، ... والحديث مضطرب غير ثابت".
وسئل رحمه الله كذلك عن حديث عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ليلة النصف من شعبان وأن الله عز وجل يغفر فيها بعدد شعر غنم كلب، فقال: "يرويه يحيى بن أبي كثير عن عروة، ... ورواه أبو خليد عتبة بن حماد القارئ عن الأوزاعي عن مكحول وعن ابن ثوبان عن مكحول من غير أن يذكر في الحديث ثابت بن ثوبان، ... وإسناد الحديث مضطرب غير ثابت".

خلاصة القول في أحاديث فضل النصف من شعبان:
لم يصحَّ في هذا الباب شيء عن رسول الله e، وصحت الرواية  فيه عن مكحول الشامي التابعي من قوله ومن روايته عن كثير بن مرة الحمصي التابعي، وفي بعض الروايات عن أبي إدريس الخولاني الشامي التابعي، ويُظن في إحدى الروايات أنه عن كعب الأحبار، فإذا كان ظن ذلك الراوي صحيحاً فيكون أصل هذه الأحاديث من الإسرائيليات التي كان يحدث بها كعب عن صحف أهل الكتاب.
ومن القرائن على تضعيف الأحاديث الواردة في فضائل النصف  من شعبان ـ بعد بيان أنه لم يرد منها شيء صحيح الإسناد عن نبينا ولا عن أحد من الصحابة -: أن لهذا أصلاً في الأسفار اليهودية، وذلك في النص التالي: "وعمل يربعام عيداً في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر، كالعيد الذي في يهوذا،... / فعمل عيداً لبني إسرائيل، وصعد على المذبح ليوقد". [الكتاب المقدس لدى أهل الكتاب، العهد القديم، سفر الملوك الأول، الفصل الثاني عشر، الفقرتان 33،32].
ومن القرائن كذلك على أنه لم يصحَّ حديث في ليلة النصف من شعبان هذان النصان:
الأول: روى محمد بن وضاح في كتاب البدع قال: حدثنا هارون بن سعيد قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: "لم أدرك أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول، ولا يرى لها فضلا على ما سواها من الليالي". قال ابن أبي زيد: "والفقهاء لم يكونوا يصنعون ذلك". هارون بن سعيد وعبد الله بن وهب ثقتان.
الثاني: قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا ذلك كله بدعة".
وعليه فيُخشى أن تكون هذه الفضائل هي من الإسرائيليات التي تسربت من أهل الكتاب إلى بعض التابعين، ثم تلقفها الرواة الضعفاء وأشاعوها، والله أعلم.
ـ نبذة فقهية:
ليلة النصف من شعبانَ ويومُها لم يصحَّ في فضلهما حديث خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعني كراهة التعبد في تلك الليلة ويومها، لاندراج ذلك تحت عموم الأدلة.
فالاجتماع في المساجد في ليلة النصف من شعبان لقراءة القرآن والذكر والدعاء هو من عمل الخير، وقد عمله بعض السلف، ولا بأس به، وهو مثل التعريف يوم عرفة بمساجد الأمصار، أي الاجتماع يوم عرفة من الظهر إلى الغروب في المساجد للذكر والدعاء، وقد عمله بعض السلف، وسئل الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله عنه فقال "لا بأس به".
وأما صيام يوم النصف من شعبان فهو مستحب استحبابا مؤكدا، لأنه من أيام البيض ومن شهر شعبان، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام أيام البيض، وكان يصوم شعبان كله إلا قليلا. والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي، والحمد لله رب العالمين.