الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله"



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رب تمم بالخير، واختم لنا بالخير، بفضلك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
رُوي هذا الحديث من رواية أبي بكرة وعبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك:
ـ فأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والترمذي والبزار والطحاوي في مشكل الآثار من طرق عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله". ورواه ابن حنبل والطحاوي في مشكل الآثار والحاكم من طرق عن الحسن عن أبي بكرة به.
وروى ابن عدي في الكامل بسند صحيح عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد أنه قال: ربما حدث الحسنُ بالحديث أسمعه منه، فأقول يا أبا سعيد أتدري من حدثك؟!، فيقول لا أدري إلا أنه سمعته من ثقة، فأقول أنا حدثتك.
والظاهر أن الحسن البصري كان قد سمع هذا الحديث من علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تدليس الإسناد.
[علي بن زيد بصري ضعيف مات سنة 131، قال الترمذي في السنن: علي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره. عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة. الحسن البصري لم يثبت أنه سمع من أبي بكرة، وهو قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع]. فهذا الإسناد ضعيف.
ـ وأما حديث عبد الله بن بسر فرواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي والطبراني في مسند الشاميين وابن المقرئ والبيهقي من طريق معاوية بن صالح، وابنُ حنبل وأبو زرعة الدمشقي في الفوائد المعللة والطبراني في مسند الشاميين من طريق حسان بن نوح، والطبرانيُّ في مسند الشاميين من طريق محمد بن الوليد الزبيدي ومن طريق صبيح بن محرز، والخطيبُ البغدادي في تلخيص المتشابه من طريق عمر بن جُعْثُم، خمستهم عن عمرو بن قيس السَكوني، ورواه الضياء المقدسي في المختارة من طريق أبي أحمد الحاكم بسنده عن أرطاة بن المنذر، كلاهما عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله".
[عمرو بن قيس السَكوني حمصي ثقة مات سنة 136 تقريبا. أرطاة بن المنذر حمصي ثقة مات سنة 162]. طريق أبي أحمد الحاكم عن أرطاة بن المنذر سنده جيد، فإسناد هذا الحديث صحيح عن عبد الله بن بسر.
لكن هذا لا يعني أنه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا تأكدنا من أن عبد الله بن بسر هذا صحابي، والظاهر أنه ليس كذلك، لما سيأتي.
ورواه علي بن الجعد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم في الحلية من طريق إسماعيل بن عياش، والطبرانيُّ في الأوسط من طريق الحارث بن يزيد السَكوني الحمصي، كلاهما عن عمرو بن قيس السَكوني عن عبد الله بن بسر المازني.
من هو عبد الله بن بسر؟ هل هو عبد الله بن بسر المازني أو غيره:
أكثر الرواة لهذا الحديث لم يذكروا عبد الله بن بسر منسوبا، فيحتمِل أن يكون هو المازنيَّ الحمصي، وهذا صحابي مات سنة 88 وهو ابن 94 سنة، وقال أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد مات سنة 96 وهو ابن مئة سنة، وقال الخطيب البغدادي في تلخيص المتشابه بلغ مئة سنة، ويحتمِل أن يكون هو النصريَّ الدمشقي، وهذا ذكره ابن عبد البر وابن حجر في الصحابة ولا تثبت صحبته، ويحتمِل أن يكون هو الحُبْرانيَّ، وهذا حمصي نزل البصرة مات قرابة سنة 135، وهو ضعيف.
إسماعيل بن عياش الذي قال هو المازني لا يُحتج به لما فيه من ضعف، وكذا الحارث بن يزيد السَكوني، فهو وإن ذكره ابن حبان في الثقات فقد قال فيه أبو حاتم مجهول. فإسناد هذا الحديث عن عبد الله بن بسر المازني ضعيف.
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن المبارك في الزهد وفي المسند عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به نحوه. [يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي مدني منكر الحديث متروك]. فهذا الطريق تالف.
ورواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والبزار وابن حبان والبيهقي من ثلاثة طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". محمد بن إسحاق قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع، فهذا الطريق ضعيف.
ورواه ابن حبان من طريق محمد بن عثمان العقيلي عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق أنه قال حدثني محمد بن إبراهيم التيمي. [محمد بن عثمان العقيلي ذكره ابن حبان في الثقات وقال يغرب]. فهذا الطريق لا يُعتمد عليه.
ـ وأما حديث جابر فرواه عبد بن حُميد من طريق عبد الله بن عامر عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". [عبد الله بن عامر القارئ مدني ضعيف في رواية الحديث، مات سنة 151].
ورواه الحاكم والبيهقي من طريق أيوب بن سليمان بن بلال عن أبي بكر عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله به نحوه. [أيوب بن سليمان بن بلال مدني، وثقه أبو داود وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو الفتح الأزدي والساجي: يحدث بأحاديث لا يُتابع عليها. وضعفه ابن عبد البر، فهو صدوق فيه لين، مات سنة 224].
ورواه قوام السنة في الترغيب والترهيب من طريق عاصم بن علي عن أبي معشر عن محمد بن المنكدر عن جابر. [عاصم بن علي بن عاصم الواسطي صدوق فيه لين مات سنة 221. أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي مدني ضعيف واختلط بآخره، مات سنة 170].
وقال الدارقطني: اختُلف فيه على ابن المنكدر: فرُوي عن زيد بن أسلم وأبي معشر عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه عبد العزيز بن الماجشون عن ابن المنكدر مرسلا. قلت: فحديث جابر ضعيف الإسناد.
ـ وأما حديث أنس فرواه أبو يعلى من طريق سهيل عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "خياركم أطولكم أعمارا إذا سددوا". [سهيل بن أبي حزم بصري ضعيف مات قبل سنة 175]. فهذا الإسناد ضعيف.
ثم إنه لو لم يكن ضعيفا لما كان فيه حجة لمن يريد أن يحتج به، لأن البزار رواه في مسنده بالإسناد عينه بلفظ مغاير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى. قال: "أحاسنكم أخلاقا".
* ـ هل تتقوى هذه الطرق الضعيفة ببعضها؟:
اشترط الإمام الترمذي رحمه الله في ترقية الأسانيد الضعيفة أن لا يكون الحديث شاذا، والمتأخرون يرون أن الحديث الذي تعددت طرقه وكان ضعفها ليس شديدا يرتقي لمرتبة الحسن، وأهملوا الشرط الثالث إهمالا تاما.
هل هذا الحديث فيه شذوذ؟:
آيات القرآن الكريم تربط الفضل ورفعة الدرجة بالعمل الصالح، فقد قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}.
هذا ما يقوله لنا ربنا عز وجل، أما الحديث المروي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فهو في واد آخر، إذ يُنسب لطلحة رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة فيما نُسب إليه: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
وهذا يعني أن مَن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وطال عمره فصلى عددا كثيرا من الصلوات وصام عددا كثيرا من الرمضانات هو أفضل عند الله تعالى ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد واستُشهد وكان أشد اجتهادا في العبادة!، وأنه أفضل من معظم الصحابة الذين استُشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم!، وأنه أفضل ممن بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة!. وهذا الحديث مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فضل طلحة رضي الله عنه وبشارته له بالجنة.
ـ ثم إن المعهود في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يربط الخيرية والأفضلية بطول العمر:
فمن ذلك ما رواه البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا".
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".
ومن ذلك ما رواه محمد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟!: أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون".
ومن ذلك ما رواه ابن حنبل عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم من أطعم الطعام ورد السلام".
ـ وروى البخاري عن مرداس بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وكان من أصحاب الشجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُقبض الصالحون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة التمر والشعير، لا يعبأ الله بهم شيئا".
محل الشاهد في قوله "الأول فالأول"، فالصالحون ليس الأعلى فيهم من يُؤخر في أن يعيش أكثر من أصحابه، ولكنه الأكثر صلاحا وإن قُبض قبلهم.
ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهرم، والهرم كِبَر السن:
فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار". وروى مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود.
ـ الخلاصة:
حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله" أسانيده ضعيفة، ولا تتقوى ببعضها لشذوذ المتن، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 8/ 10/ 1439، الموافق 22/ 6/ 2018، سوى بعض الإضافات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.



الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

مقام الداعية ومقام الحاكم أو القاضي‎

قد يقول بعض الناس: يوجد فيمن يدَّعون الإسلام منافقون وزنادقة ومرتدون يتظاهرون بأنهم يصلون ويصومون مع المسلمين، فهل هؤلاء إخوة لنا في الدين ويجب علينا أن نعاملهم كما نعامل المسلم الصادق في إيمانه؟!.
أقول:
شتان بين التعامل مع الإنسان الذي يصلي ويصوم مع المسلمين ولم يظهر عليه ما يخالف ذلك مما لا يحتمل تأويلا وبين الذي ظهرت عليه علامات النفاق القطعية التي لا تحتمل التأويل، ولكلٍّ حكمه.
ثم إن هناك مقامَ الدعوة وتأليفِ القلوب واحتمال الأذى والعدوانِ والتهجيرِ والتشريد ومقامَ محاسبة المجرمين على جرائمهم إذا كان هنالك دولة وقانون وقضاء:
فإذا كنتَ في مقام الداعية فانظر إلى الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟!، ألا تدعو الله لنا؟!. فقال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وانظر كذلك إلى الشطر الأول من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذُهَيبة في أديم مقروظ، فقسمها رسول الله بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!". فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتقِ الله. قال: "ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟!". ثم ولـَّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟!. قال: "لا، لعله أن يكون يصلي". فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم".
وإذا كنتَ في مقام القاضي إذا كانت هناك دولة وقانون ونظام قضائي فانظر إلى الشطر الثاني من هذا الحديث، فتتمته هي أن أبا سعيد الخدري قال: ثم نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقفٍّ فقال: "إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
وتأمل الفرق بين ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي اعترض على قضائه وأظهر عدم الرضا بحكمه مع التماس العذر له بأنه لعله أن يكون يصلي، وبين ما قاله عن الذين يخرجون من نسله ويتلون كتاب الله رطبا.
وتأمل قولَ خالد بن الوليد رضي الله عنه: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه!.  وجوابَ النبي صلى الله عليه وسلم له وقد أقره ولم يعترض عليه: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس".
إشكال آخر وجواب:
قد يقال: الظاهر أن قتل ذاك المعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة القطعة الذهبية أولى من قتل الذين سيخرجون من نسله فيما بعد، لأن ذلك المعترض كفر كفرا واضحا بيِّنا باتهامه للنبي صلى الله عليه وسلم بالمحاباة وعدم العدل، وقوله له "كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء". وقوله له كذلك "يا رسول الله اتقِ الله". والذين خرجوا من نسله فيما بعد اعترضوا على حكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قبوله التحكيم ولم يعترضوا على رسول الله!.
أقول:
ظاهر الأمر هو كذلك، وهنا يظهر السر في التفريق بين مقام الداعية ومقام الحاكم أو القاضي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رجَّح في ذلك الموقف مقام الداعية، حيث إن ذلك المعترض رجل واحد ليس وراءه جماعة كبيرة متمردة تساعده في ذلك على تهديد الأمن، ولم يأذن لخالد بن الوليد رضي الله عنه في قتله، وعلمَ ـ بإعلام الله تعالى إياه ـ أنه سيخرج من نسل ذلك المعترض قوم غلاظ عتاة بغاة يعْميهم ما هم عليه من الكبْر والجهل والاستخفاف بالخليفة الراشد ويستجرهم إلى الخروج عليه وتهديد الأمن والاستقرار، وفي مثل تلك الحال يحْسُن ترجيح مقام الحاكم أو القاضي الذي يمنع هؤلاء القوم من التمادي فيما هم عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". وهذا ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.