الاثنين، 31 ديسمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 13 -


هذه النبذة من روائع البخاري تتعلق بحديث رافع بن خديج في المزارعة أو فيما يسمى كراء المزارع. وأقدمُ له بمقدمة:
المزارعة لفظة واضحة بنفسها تمام الوضوح في أذهان علماء اللغة الذين شاهدوا العرب الذين ينطقون بها، فلا يفسرونها ولكن يفسرون بها الكلمات الغامضة المعنى.
المزارعة نوع من أنواع المشاركة، وهي أن يعطي صاحب الأرض الزراعية الأرضَ لمن يقوم بزراعتها على أن يقتسما المحصول بينهما على نسبة يتفقان عليها.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز المزارعة على النصف، أي ونحو ذلك كالثلث مثلا، وكذا عدمُ جواز أن يشترط أحد المتعاملين بها لنفسه قدرا محددا مما تنبته الأرض أو محصولَ بقعة محددة منها، كأن يكون له عشرة أوسق أو ما أنبتته هذه البقعة مثلا.
وضع البخاري بابا في صحيحه سماه باب المزارعة بالشطر ونحوه، وذكر فيه عن أبي جعفر الباقر رحمه الله أنه قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع". وروى فيه عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملَ أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
* ـ حديث رافع بن خديج في المزارعة:
ـ روى البخاري في صحيحه من طريق حنظلة بن قيس الأنصاري عن رافع بن خديج أنه قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكان أحدنا يكري أرضه فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولفظه في رواية أخرى عنه: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت هذه ولم تخرج ذه، فنُهينا عن ذلك، ولم نُنه عن الورِق.
وهاتان الروايتان في باب ما يُكره من الشروط في المزارعة، وفي باب الشروط في المزارعة. وهذان البابان مناسبان للمعنى الصحيح الذي يريد الإمام البخاري أن يؤكده من خلال المرويات الحديثية، وهو جواز المزارعة على النصف أو الثلث ونحو ذلك، وعدم جوازها إذا اشترط أحد المتعاملين بها لنفسه قدرا محددا أو ما أنبتته بقعة محددة.
ـ وروى البخاري من طريق نافع عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء المزارع، ومن طريق سالم بن عبد الله عن رافع بن خديج بنحوه.
وهاتان الروايتان في باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما، وفي باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة، وفي بابٍ يلي باب شهود الملائكة بدرا.
وحيث إن هذا المعنى لا يصح بهذا الإطلاق، فلذلك رواهما البخاري في ثلاثة أبواب بعيدة عما يشير إلى صحة المزارعة أو عدم صحتها.
ـ ورواه البخاري بألفاظ أخرى في باب كراء الأرض بالذهب والفضة، وفي باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 17/ 3/ 1440، الموافق 25/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.




الخميس، 27 ديسمبر 2018

هل يصح أن نعلم العقيدة دون المقدمات الكلامية ؟


السلام عليكم ورحمة الله سعادة الشيخ صلاح الدين. حفظكم الله وبارك في سعيكم للإسلام.. لدي سؤلات..
 وصل الإسلام إلى الجاوة منذ الزمان واعتنق أهلها عقائد الإسلام على طريقة الأشاعرة. وحتى الآن لا تزال كثيرة من مراكز الدروس الإسلامية باقية على هذه الطريقة في تعليم طلبتها العقيدة. كذلك العوام يتلقونها في المساجد.
 إلا أن لدى العوام -وربما بعض الطلبة أيضا- نفورا أثناء متابعتهم لبعض القضايا العقدية التي يتدخلها المسائل العقلية -لو صح التعبير-. يبدو أن تفهمها يشق عليهم ويقع بعيدا عن توقعاتهم مع أنهم أخبروا بأن عقائد الإسلام عقائد بسيطة يستطيع تفهمها كل ناس.
 فمثلا -في أوائل بحث في العقائد- شكواهم من صعوبة تفهم ما هي الوجودية؟ وما السلبية؟ وما المعاني؟ وما المعنوية؟.. إلخ. فحصل الإعراض عن دروس العقيدة وبالتالي باقي قضاياها وفي رؤوسهم أن تفهم العقائد صعب.
 فهل بإمكاننا تجاوز هذه 'العقليات' أثناء تناول العقائد وتعلمها بدون مرور بتلك العقليات؟ أم تفهم العقائد الإسلامية لمرهون بتلك العقليات؟؟
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
دخل الناس في دين الإسلام في كل مناطق العالم الإسلامي عندما دعاهم العلماء والدعاة بالأدلة العقلية السهلة من النظر في خلق الإنسان والمنافع المبثوثة وفي النظر في آفاق السماوات والأرض
وكذلك مَن قبلهم في القرون المفضلة
الاستدلالات الكلامية ليست أدلة عقلية وبينها وبين الأدلة العقلية فرق كبير جدا،  وهي مجرد طريقة عقيمة لرد كلام الخصم وتخطئته للرد والرد المضاد إذا كان الخصم على طريقة فلاسفة علم الكلام اليونانيين
لقد حذر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني المتوفى سنة 478 والإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 والإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 رحمهم الله كل واحد في آخر عمره من علم الكلام وأعلن توبته منه، ولكن الأشاعرة بعدهم مع الأسف الشديد بقوا مستمسكين بعلم الكلام، وهو كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
ظن الأشاعرة بعد أولئك الأئمة أن ما حذروا منه هو استعمال تلك الاستدلالات لنقض عقائد الدين وأن استخدامها لنصرة الدين هو أمر محمود
ومن وقف على كلام أولئك الأئمة وجدهم يصرحون بإبطال هذا الفهم
ينبغي أن يكون علم الكلام محصورا في زاوية ضيقة جدا جدا جدا للرد على من يستخدم علم الكلام للتشويه بهذا العلم الفاسد فيكون رد الفاسد بالفاسد
يا عباد الله
اتركوا علم الكلام واهجروه ونقوا كتب العلوم الشرعية منه وخاصة علم العقيدة
أتمنى أن تتطلعوا على بحث صغير كتبه أخوكم الصغير بعنوان "علم الكلام في حوار هادئ" ثم تنطلقوا إلى تقرير الحقائق الإيمانية بالأدلة العقلية الواردة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة وليس بالاستدلالات الكلامية
يا عباد الله
يا علماء الأشاعرة والماتريدية
خسرتم بسبب تمسكم بعلم الكلام الكثير الكثير الكثير وما زلتم تخسرون كل يوم
ارجعوا إلى ما نصحكم به إمام الحرمين والإمام الغزالي والإمام فخر الدين الرازي فالساحة واسعة والفرص كبيرة وإذا عدتم للحق والرشد فسترون أن الله جل وعلا يفتح لكم به من لدنه فتحا مبينا إن شاء الله
حفظكم المولى بحفظه وجعلكم هداة مهتدين

الأربعاء، 12 ديسمبر 2018

حوار 3 حول كلام الشيخ الكشميري عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب


هذه كلمات لا بد منها في الجواب عن تعليقات أحد الإخوة:
* ـ الشيخ الكشميري كلامه عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب مخالف لكلام العلماء السابقين في هذه المسألة وليس له عليه دليل، بل هو مخالف فيه للدليل، فقد قال فيها قولا لم أجد من سبقه إليه، وذلك إذ قال: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا]. هذا نص كلامه بحروفه.
فهو يبين ـ حسب رأيه ـ المرادَ من الحديث الذي يشرحه بأن المراد منه أن لا يترك المصلي بينه وبين جاره في الصلاة فرجة تتسع لشخص ثالث!.
ـ علق الأخ الكريم على كلام الشيخ هذا بقوله [أين في هذا الكلام للامام الكشميري انه يجب ان تكون المناكب متباعدة؟ لعل الكاتب التبس عليه لفظ "في البين فرجة تسع فيها ثالثا"، ألم يرد في الحديث صراحة أن لا تتركوا فرجات للشيطان؟ ألا يكون الشيطان ثالثا إذا تركت الفرجة ولو قليلا؟].
أقول:
الكشميري كان يتحدث عن الإنسان، وليس عن الشيطان، لأنه لا يغيب عنه أن الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم لا يحتاج لفرجة تسع فيها ثالثا.
* ـ ثم قال الكشميري: "الحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة".
وهذا تناقض، إذ يشرح الحديث بأن المراد منه أن لا يترك المصلي بينه وبين جاره في الصلاة فرجة تتسع لثالث!، ثم يشرحه بأن المراد منه هو التراصُّ وترك الفرجة!.
فإذا كان الشيخ الكشميري يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة" ويدرك معنى التراص فهذا ينهي الخلاف، لكنه يقول في صفحة واحدة القولَ ونقيضه!.
* ـ قال الأخ المحاور: [لماذا التنازل الآن من تلاصق الكعوب وهو مذكور صراحة في رواية النعمان بن بشير؟، وهل قال من قال بالصعوبة الا في الجمع بين الصاق الكعبين والصاق المناكب في آن واحد؟، لقد كان أساس الطعن والتشنيع على الكشميري وابن حجر وغيرهم أنهم تركوا وتجاهلوا كلام الراوي، وكلام النعمان بن بشير نقله الامام البخاري: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" فكيف تقول الآن "هذا اللفظ ليس في الصحيحين وفي ثبوته نظر"؟!، فما نقله الامام البخاري وكان هو الى جانب قول أنس أساس استدلالكم أصبح الآن ثبوته محل نظر عندكم؟].
أقول:
ـ قول الكاتب "لماذا التنازل الآن من تلاصق الكعوب" يدل على أنه لم يقرأ كلامي الذي يحاول أن يرد عليه، وإذا كان قد قرأه فعلا فلعلها قراءة سريعة جعلته لا يستوعب ما فيه، فكلامه هذا غير صحيح البتة، وهو مجرد توهم، فلم أقل أصلا باستحباب تلاصق الكعوب ثم تركته وتنازلت عنه!، وذلك لأنني لا أراه ولا أقول به، ولا أقول بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ هذا اللفظ "قال النعمان بن بشير رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" ليس مرويا في الصحيحين ولا في أحدهما، أي ليس مرويا في واحد من الصحيحين رواية مسندة، وذكره البخاري تعليقا. [راجع في كتب علوم الحديث بحث تعليق الإسناد ومعلقات البخاري].
ـ قول القائل "وهل قال من قال بالصعوبة الا في الجمع بين الصاق الكعبين والصاق المناكب في آن واحد؟" شيء غريب، لأنه إذا كان ذلك كذلك فعليك أن تصب غضبك على من يقول به، لا على من لا يقول به أصلا، وعليك أن تتجنب التوهمات التي تجرك إلى إلزام إنسان بقول لا يقول به. والملتقى بين يدي أحكم الحاكمين.
ـ لم أطعن في ابن حجر ولم أشنع عليه، وهذا بخلاف ما يقوله كاتب المقالة، ولا أدري لم يقحم ابنَ حجر في مقالته عدة مرات بهذا المعنى؟!، كأنه يريد أن يقول للناس إنني طعنت فيه وشنعت عليه!.
ـ قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه". ثم أتبعه بالرواية بإسناده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري". وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
شتان بين ما يرويه البخاري في صحيحه بسنده وبين ما يذكره تعليقا بدون إسناد.
حديث النعمان بن بشير لم يروه البخاري في صحيحه، وإنما ذكره تعليقا، ورواه ابن حنبل وابن خزيمة وابن حبان وعدد من أصحاب السنن، وراويه عن النعمان بن بشير ذكره ابن حبان في الثقات، فهذا عندي لا يصل لدرجة الصحة وإن كان صحيحا على مذهب كثير من الناس، وذلك لأن ابن حبان من المتساهلين في التوثيق.
لعلك تتساءل عن سبب عدم تصحيح حديث الراوي الذي ذكره ابن حبان في الثقات، فإليك طرفا من الجواب:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة لسان الميزان: "هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات".
ـ ما نقله الإمام البخاري من قول النعمان بن بشير إلى جانب رواية أنس ليس هذا أساسَ استدلالي البتة، وأساس استدلالي هو رواية أنس، ولم أذكر قول النعمان بن بشير لا تصريحا ولا تلميحا، لأنه ليس بثابت عنه، وهذا بخلاف ما يتوهمه القائل وينسبه إلي!!. والله حسيبه.
* ـ قال الأخ المحاور عني: "ادعى ان الشيخ تجاهل ما قاله الراوي مع ان كلام الشيخ الذي نقله للنقد ليس الا في شرح كلام الراوي في ضوء الأحاديث النبوية الثابتة، فهل يعرف الكاتب ما معنى التجاهل؟".
أقول في بيان معنى التجاهل وبيان السبب الداعي لقولي فيه هذه الكلمة:
ـ تجاهل فلان الشيءَ: تركه وأظهر أنه جاهل به وهو ليس كذلك، هذا أصل معنى هذه الكلمة في لغة العرب، ومن الممكن استعمالها في حقيقة أصل المعنى فيكون فاعل ذلك متعمدا لهذا الفعل لا لأي سبب آخر، ومن الممكن استعمالها استعمالا مجازيا بحيث يكون فاعل ذلك تاركا للشيء لسبب آخر جعله يرجح ترك الشيء على إظهاره.
لقد قلت في التعقبات على كلام الشيخ الكشميري حول هذا الحديث: "تجاهلَ الشيخ سامحه الله ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث".
الذي قصدته من لفظة التجاهل عند الشيخ هنا هو المعنى الثاني، وذلك لأنني أستبعد استبعادا شديدا أن يتجاهل أي عالم من علماء المسلمين نصا من النصوص الشرعية دون أن يكون لديه سبب يجعله يرجح ترك ذلك النص على إظهاره، سواء أكان السبب وجيها أو غير ذلك.
ـ لكن ما السبب الذي يدعو لأن تُقال عن الشيخ هذه الكلمة؟:
قال الشيخ الكشميري في شرح هذا الحديث في بيان عمل الأمة في مسألة إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم: [بقي الفصل بين الرِجلين: ففي شرح الوقاية أنه يفصل بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قول آخر: قدر شبر. قلت: ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بأن كانوا يفصلون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة، وتلخص أن الصف بين القدمين سنة لا غير، لأنهم لا يذكرون ولا يتعرضون إلى غيره، فحسْبهم قدوة].
أما قول أنس بن مالك "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه" وهو الذي رواه البخاري بإسناده والذي كان الكشميري بصدد شرحه فإنه لم يذكره خلال شرح الحديث، ولم يشر إليه في مسألة ما جرى عليه العمل مطلقا، وكأن العمل الذي كان يعمله الصحابة حالة اقتدائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن لا يُذكر عند الكلام عن عمل الأمة!.
فهذا ما دعاني لقول هذه الكلمة عن الشيخ إذ وصفته بأنه تجاهلَ ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث.
ـ بقيت أشياء ينبغي التعليق عليها لكن أكتفي بهذا، وأظن أنه يكفي لمن يقرأ ويعيد القراءة بتدبر.
ـ مسألة إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصلاة هي هيئة مستحبة من هيئات الصلاة، ليست من الفرائض ولا الواجبات، ولا من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان.
كتبتُ وأكتب هذه الحوارات في الوقت الذي يتفلت فيه كثير من أبناء المسلمين من دينهم ويخرجون من إيمانهم جماعات جماعات!.
كان ينبغي بذل الجهد الأكبر في بيان حقائق الإيمان والدفاع بالأدلة العلمية عن حقائق هذا الدين.
لكن عندما يرى الإنسان بعض المنتسبين للعلم الشرعي يقدسون مشايخهم ويتعاملون مع كلامهم كأنهم في مقام العصمة فالواجب البيان وعدم السكوت، وهذه معركة لا بد منها لأسباب: من أهمها صيانة منهج التفكير من أن يتطرق إليه الخلل.
كثيرون من طلاب العلم يعلمون أن مَن دون الأنبياء ليسوا معصومين عن الخطأ ولكنهم ـ عند التعامل مع كلامهم ـ يجعلونه في مقام العصمة والتقديس!.
* ـ أما ما قاله الكاتب عني فلا أقول له سوى أن محكمة الجزاء أمامك يوم العرض الأكبر عند مليك مقتدر.
* ـ وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 1/ 4/ 1440، الموافق 8/ 12/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

حوار حول كلام الشيخ الكشميري عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب ـ 2 ـ

 بسم الله الرحمن الرحيم
كتب أحد الإخوة الباحثين تعليقا على الحوار الذي كتبته(https://salahsafa.blogspot.com/2018/10/blog-post_22.html)  حول كلام الشيخ الكشميري عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب، فأجبت بقولي: "أتمنى أن يعود الكاتب إلى كلامي ويعيد القراءة بهدوء وتأمل مرة أو مرتين، وأن يخبرني بعد ذلك: هل كلام الشيخ الكشميري رحمه الله متوافق مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة التي هي محل البحث أو لا، وأتمنى أن يتأمل الفرق بين كلام الكشميري وكلام الذين يرد عليهم وكلامي".
أجاب ـ حفظه الله بخير وعافية ـ بهذا الجواب:
[قبل أعيد قراءة مقال الكاتب الكريم مرة أو مرتين  بهدوء كما تمني ذلك أتمني أن يقرأ هو نفسه مقاله ويسائل نفسه هل كل الناس متساوون في القامات  والأقدام ؟ فكيف يمكن الصاق المنكب  بالمنكب والقدم بالقدم بالمعني الحقيقي؟ وهل يمكن أن يأمر الشارع بما لا يمكن تحقيقه للمكلف ولو بشق الأنفس الا لبعض الأفراد؟ واذا كان  هذا هو مقصود الشارع الحكيم كما يفهمه الكاتب فما معني "حاذوا بين المناكب والأقدام ؟ وهل الإلصاق والمحاذاة  بمعني واحد  حقيقة لامجازا؟ هذه هي الاشكالية الحقيقية عند ائمة الحديث  والفقهاء وأراد حلها الحافظ ابن حجر  والعلامة العيني  والقسطلاني  وجري علي منوالهم الإمام الكشميري ولا غرابة في كلامهم اطلاقا يقول  العلامة المحدث محمد زكريا الكندهلوي : "في كتابه البديع "الأبواب والتراجم اعلم أنه لا يتصور الصاق الكعبين والمنكبين من الجانبين الا لبعض الناس بتكلف وهيئة غير هيئة الصلاة والخضوع فالمراد القرب والمحاذاة في الكعبين وكذا المراد في المنكبين  ألا تري البعض لا تكون قدمه متساويتين بقدمي  صاحبه وكذا المراد من الصاق القدم  وبهذا قال الجمهور ان المراد شدة القرب لا الإلصاق الحقيقي  قال الحافظ المراد بذلك  المبالغة في تعديل الصف وسد خلله  وهكذا قال العيني  والقسطلاني  ويقول  الكاندهلوي:  وأبدع  عندي  الإمام البخاري في الترجمة  اذ ترجم " بالزاق المنكب  والقدم "-(لابالمنكب -) لأن حقيقة الإلصاق لا يتصور في المناكب الا أن يكون كل الصف متساوي القامة وكذا الصاق القدم لا يمكن الا ان يكونوا كلهم متساوي الأقدام وهذان ممتنعان عادة فترجم بهما البخاري  اشارة الي انه لا يمكن فيهما الا المبالغة  في القرب  والمحاذاة  لا الإلصاق الحقيقي   ثم ذكر حديث النعمان تعليقا للإشارة الي أن ما هو المراد في الأولين هو المراد في الثالث  لإتحاد سياق الروايات  (الأبواب والتراجم 1/851 مع أزكي التحيات].
أقول:
أعدت قراءة مقالي كما تمنى الأخ الباحث سلمه الله.
لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بإلصاق المنكب بالمنكب، ولكنه أقرهم على ذلك حين رآهم يفعلون ذلك، فهو يرى عليه الصلاة والسلام صفوفهم في الصلاة من وراء ظهره، وإنما أمرهم بالتراصِّ حيث قال "أقيموا صفوفكم وتراصُّوا فإني أراكم من وراء ظهري"، والتراص أن يلصَق بعضُهم ببعض حتى لا يكون بينهم خلل، فكانوا ينضمون إلى بعضهم ويتلاصقون، ولا شك في أنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم يلصقون المنكب بالمنكب في حالة التساوي في الطول. ومنكِب الشخص مجتمع عظم العضد والكتف.
أما إذا انضم بعضهم إلى بعض وتلاصقوا وتراصوا وكانوا غير متساوين في الطول فإن المناكب لا تتلاصق وتكون على سمت واحد. وهذا في غاية السهولة.
لكن لا ينبغي أن تكون متباعدة، وهذا بخلاف ما فهمه الشيخ الكشميري من الحديث حيث قال: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا]. هذا نص كلامه بحروفه.
التلاصق والتراص في الأقدام ممكن جدا إذا لم ندخل فيه التلاصق في الكعوب، وهو في غاية السهولة.
لم أذكر في كلامي إلصاق الكعب الكعب، وهذا اللفظ ليس في الصحيحين، وفي ثبوته نظر.
لا يمكن أن يأمر الشارع بما لا يمكن تحقيقه للمكلف ولو بشق الأنفس إلا لبعض الأفراد، ومن نسب إلي متسرعا أن هذا المعنى هو الذي فهمتُه من الحديث فقد أدى به تسرعُه إلى أن ينسُب إلي ما لم أقله ولم يخطـُر لي على بال.
لم يكن ـ حسب علمي ـ قبل ظهور جماعة الفهم المتطرف إشكالٌ عند المحدثين والفقهاء في فهم الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويبدو أنهم كانوا يقفون عند إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ولا يعيرون إلصاق الكعب بالكعب أي اهتمام.
قال الأخ الباحث: [يقول  الكاندهلوي:  وأبدع  عندي  الإمام البخاري في الترجمة  اذ ترجم " بالزاق المنكب  والقدم "- (لا بالمنكب -)].
أقول: قول الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي "وأبدعَ عندي الإمامُ البخاري في الترجمة اذ ترجم بالزاق المنكب والقدم لا بالمنكب" قول غريب جدا، فعنوان الباب عند البخاري هو "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف"، وهذا بخلاف ما نقله الشيخ محمد زكريا عن البخاري. وانظر: صحيح البخاري وعددا من شروحه للتحقق من عنوان الباب الذي عنون به البخاري، ومنها شرح صحيح البخاري لابن بطال، والكواكب الدراري للكرماني، وفتح الباري لابن رجب، والتوضيح لابن الملقن، ومصابيح الجامع للدماميني، واللامع الصبيح للبرماوي، وفتح الباري لابن حجر، والكوثر الجاري للكوراني، وإرشاد الساري للقسطلاني، وفيض الباري للكشميري. فسقط بذلك كلامه الذي قاله في توجيه عنوان الباب عند البخاري من أصله.
حفظ الله الأخ الباحث بخير وعافية، وجمعنا على محبته سبحانه ومحبةِ حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحبةِ سنته الشريفة وتوقيرِ سلفنا الصالحين.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 18/ 3/ 1440، الموافق 26/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الجمعة، 23 نوفمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 12 -

هذه الرواية رواها البخاري ومسلم من خمسة طرق عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى، وفيها "فلما غربت الشمس"، وهذا يعني أن الشمس كانت قد غابت وأن ذلك الرجل الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيجدح لهم إنما أراد الانتظار بعد غياب قرص الشمس لمزيد التحقق من الغروب، وذلك بسبب بقاء شيء من ضوء النهار، حتى أعْلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأفضل تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب وإقبال الليل من الجهة المقابلة وإن كان قد بقي شيء من ضوء النهار.
ـ ورواه البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: "انزل فاجدحْ لي". قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدح لي". قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدح لي". فنزل فجدح له، فشرب، ثم رمى بيده ههنا، ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم".
في هذه الرواية أن الرجل كان ما يزال يرى شيئا من قرص الشمس، وليس فيها أن الشمس كانت قد غربت، فهي من باب الخطأ الواضح، وقد أشار البخاري رحمه الله إلى إعلالها حيث رواها في باب الصوم في السفر والإفطار ولم يروها في أحد البابين اللذين روى فيهما الرواية الصحيحة.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 9/ 4/ 1440، الموافق 17/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 11 -


روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق عبد الرزاق عن معْمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أرسِل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟!. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟. قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل اللهَ أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلو كنتُ ثَم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر".
رواه في باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة هكذا موقوفا من قول أبي هريرة ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم سوى الجزء المرفوع في آخر الحديث، ورواه كذلك في باب وفاة موسى عليه السلام، وعقب عليه في الموضع الثاني بقوله: [قال: وأخبرنا معْمر عن همَّام قال حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه]. أي إن عبد الرزاق بن همَّام راوي الرواية الموقوفة عن معْمر رواها كذلك عنه عن همَّام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الرواية المرفوعة من طريق همَّام بن منبه عن أبي هريرة رواها ابن حنبل في مسنده ومسلم وابن حبان في صحيحيهما، وهي معروفة مشهورة من صحيفة همام بن منبه، وقد روى البخاري في صحيحه عشرات الأحاديث المسندة من هذه الصحيفة.
فعدوله ـ وهو الإمام الحافظ الناقد ـ عن سياقتها مساق الروايات المسندة واكتفاؤه بسياقة الرواية الموقوفة مع ذكر إسناد المرفوعة دون المتن في ذيل رواية أخرى دليل واضح على أنه يصحح الرواية الموقوفة هنا ويعل المرفوعة.
ومن كان في شك من هذا فليقرأ ـ متكرما ـ كتاب منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 8/ 4/ 1440، الموافق 16/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.




الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 10 -


ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. وعن ابن عباس أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج. وعن جابر بن عبد الله أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفردا. رواهن في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وروى في باب آخر عن ابن عمر أنه قال: أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به معه.
ـ وروى عن أنس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصرَ بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء، حمد اللهَ وسبح وكبر ثم أهلَّ بحج وعمرة، وأهلَّ الناس بهما. وعن أنس أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا. وعن أنس أنه قال: كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعا الحج والعمرة. رواهن في باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، وفي باب رفع الصوت بالإهلال، وفي باب الارتداف في الغزو والحج.
وحيث إن هذه الرواية عن أنس في أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بحج وعمرة تخالف الروايات الثابتة عن عدد من الصحابة فإن البخاري لم يروها في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، ورواها في الأبواب الثلاثة المذكورة البعيدة عن موضوع القِران.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 4/ 1440، الموافق 15/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الاثنين، 19 نوفمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 9 -


ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس بن مالك أنه قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا". ورواه عنه كذلك أنه قال: "قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان". وهذا في باب القنوت قبل الركوع وبعده، وفي باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان، وفي أبواب أخرى.
وحيث إنه قنت بعد الركوع شهرا يدعو على هذه الأحياء من العرب الذين قتلوا القراء فهذان البابان مناسبان لهذا الحديث.
ـ وروى عن أنس أنه دعا عليهم أربعين صباحا.
وحيث إن هذه الرواية قد وقع فيها خلل في عدد الأيام فإنه لم يروها في أحد ذينك البابين المناسبين، ورواها في باب آخر بعيد عن معناهما، وهو باب من يُنكب في سبيل الله.
ـ وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 6/ 3/ 1440، الموافق 14/ 11/ 2018، والحمد لله رب العالمين.




الجمعة، 26 أكتوبر 2018

حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله"


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رب تمم بالخير، واختم لنا بالخير، بفضلك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
رُوي هذا الحديث من رواية أبي بكرة وعبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك:
ـ فأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والترمذي والبزار والطحاوي في مشكل الآثار من طرق عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله". ورواه ابن حنبل والطحاوي في مشكل الآثار والحاكم من طرق عن الحسن عن أبي بكرة به.
وروى ابن عدي في الكامل بسند صحيح عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد أنه قال: ربما حدث الحسنُ بالحديث أسمعه منه، فأقول يا أبا سعيد أتدري من حدثك؟!، فيقول لا أدري إلا أنه سمعته من ثقة، فأقول أنا حدثتك.
والظاهر أن الحسن البصري كان قد سمع هذا الحديث من علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تدليس الإسناد.
[علي بن زيد بصري ضعيف مات سنة 131، قال الترمذي في السنن: علي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره. عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة. الحسن البصري لم يثبت أنه سمع من أبي بكرة، وهو قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع]. فهذا الإسناد ضعيف.
ـ وأما حديث عبد الله بن بسر فرواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي والطبراني في مسند الشاميين وابن المقرئ والبيهقي من طريق معاوية بن صالح، وابنُ حنبل وأبو زرعة الدمشقي في الفوائد المعللة والطبراني في مسند الشاميين من طريق حسان بن نوح، والطبرانيُّ في مسند الشاميين من طريق محمد بن الوليد الزبيدي ومن طريق صبيح بن محرز، والخطيبُ البغدادي في تلخيص المتشابه من طريق عمر بن جُعْثُم، خمستهم عن عمرو بن قيس السَكوني، ورواه الضياء المقدسي في المختارة من طريق أبي أحمد الحاكم بسنده عن أرطاة بن المنذر، كلاهما عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله".
[عمرو بن قيس السَكوني حمصي ثقة مات سنة 136 تقريبا. أرطاة بن المنذر حمصي ثقة مات سنة 162]. طريق أبي أحمد الحاكم عن أرطاة بن المنذر سنده جيد، فإسناد هذا الحديث صحيح عن عبد الله بن بسر.
ورواه علي بن الجعد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم في الحلية من طريق إسماعيل بن عياش، والطبرانيُّ في الأوسط من طريق الحارث بن يزيد السَكوني الحمصي، كلاهما عن عمرو بن قيس السَكوني عن عبد الله بن بسر المازني.
من هو عبد الله بن بسر؟ هل هو عبد الله بن بسر المازني أو غيره:
أكثر الرواة لهذا الحديث لم يذكروا عبد الله بن بسر منسوبا، فيحتمِل أن يكون هو المازنيَّ الحمصي، وهذا صحابي مات سنة 88 وهو ابن 94 سنة، وقال أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد مات سنة 96 وهو ابن مئة سنة، وقال الخطيب البغدادي في تلخيص المتشابه بلغ مئة سنة، ويحتمِل أن يكون هو النصريَّ الدمشقي، وهذا ذكره ابن عبد البر وابن حجر في الصحابة ولا تثبت صحبته، ويحتمِل أن يكون هو الحُبْرانيَّ، وهذا حمصي نزل البصرة مات قرابة سنة 135، وهو ضعيف.
إسماعيل بن عياش الذي قال هو المازني لا يُحتج به لما فيه من ضعف، وكذا الحارث بن يزيد السَكوني، فهو وإن ذكره ابن حبان في الثقات فقد قال فيه أبو حاتم مجهول. فإسناد هذا الحديث عن عبد الله بن بسر المازني ضعيف.
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن المبارك في الزهد وفي المسند عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به نحوه. [يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي مدني منكر الحديث متروك]. فهذا الطريق تالف.
ورواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والبزار وابن حبان والبيهقي من ثلاثة طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". محمد بن إسحاق قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع، فهذا الطريق ضعيف.
ورواه ابن حبان من طريق محمد بن عثمان العقيلي عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق أنه قال حدثني محمد بن إبراهيم التيمي. [محمد بن عثمان العقيلي ذكره ابن حبان في الثقات وقال يغرب]. فهذا الطريق لا يُعتمد عليه.
ـ وأما حديث جابر فرواه عبد بن حُميد من طريق عبد الله بن عامر عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". [عبد الله بن عامر القارئ مدني ضعيف في رواية الحديث، مات سنة 151].
ورواه الحاكم والبيهقي من طريق أيوب بن سليمان بن بلال عن أبي بكر عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله به نحوه. [أيوب بن سليمان بن بلال مدني، وثقه أبو داود وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو الفتح الأزدي والساجي: يحدث بأحاديث لا يُتابع عليها. وضعفه ابن عبد البر، فهو صدوق فيه لين، مات سنة 224].
ورواه قوام السنة في الترغيب والترهيب من طريق عاصم بن علي عن أبي معشر عن محمد بن المنكدر عن جابر. [عاصم بن علي بن عاصم الواسطي صدوق فيه لين مات سنة 221. أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي مدني ضعيف واختلط بآخره، مات سنة 170].
وقال الدارقطني: اختُلف فيه على ابن المنكدر: فروي عن زيد بن أسلم وأبي معشر عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه عبد العزيز بن الماجشون عن ابن المنكدر مرسلا. قلت: فحديث جابر ضعيف الإسناد.
ـ وأما حديث أنس فرواه أبو يعلى من طريق سهيل عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "خياركم أطولكم أعمارا إذا سددوا". [سهيل بن أبي حزم بصري ضعيف مات قبل سنة 175]. فهذا الإسناد ضعيف.
ثم إنه لو لم يكن ضعيفا لما كان فيه حجة لمن يريد أن يحتج به، لأن البزار رواه في مسنده بالإسناد عينه بلفظ مغاير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى. قال: "أحاسنكم أخلاقا".
* ـ هل تتقوى هذه الطرق الضعيفة ببعضها؟:
اشترط الإمام الترمذي رحمه الله في ترقية الأسانيد الضعيفة أن لا يكون الحديث شاذا، والمتأخرون يرون أن الحديث الذي تعددت طرقه وكان ضعفها ليس شديدا يرتقي لمرتبة الحسن، وأهملوا الشرط الثالث إهمالا تاما.
هل هذا الحديث فيه شذوذ؟:
آيات القرآن الكريم تربط الفضل ورفعة الدرجة بالعمل الصالح، فقد قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}.
هذا ما يقوله لنا ربنا عز وجل، أما الحديث المروي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فهو في واد آخر، إذ يُنسب لطلحة رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة فيما نُسب إليه: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
وهذا يعني أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وطال عمره فصلى عددا كثيرا من الصلوات وصام عددا كثيرا من الرمضانات هو أفضل عند الله تعالى ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد واستُشهد وكان أشد اجتهادا في العبادة!، وأنه أفضل من معظم الصحابة الذين استُشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم!، وأنه أفضل ممن بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة!. وهذا الحديث مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فضل طلحة رضي الله عنه وبشارته له بالجنة.
ـ ثم إن المعهود في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يربط الخيرية والأفضلية بطول العمر:
فمن ذلك ما رواه البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا".
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".
ومن ذلك ما رواه محمد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟!: أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون".
ومن ذلك ما رواه ابن حنبل عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم من أطعم الطعام ورد السلام".
ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهرم، والهرم كِبَر السن:
فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار".
وروى مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود.
ـ الخلاصة:
حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله" أسانيده ضعيفة، ولا تتقوى ببعضها لشذوذ المتن، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 8/ 10/ 1439، الموافق 22/ 6/ 2018، سوى بعض الإضافات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 8 -


ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحُد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة، تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة". ورواه بلفظ "إنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد". ورواه بلفظ "إنها طيبة، تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة".
المعنى المقصود هو أن المدينة المنورة نفت وأبعدت كتلة المنافقين الخبثاء عن أن يدخلوا في صفوف المؤمنين ويجاهدوا العدو معهم.
ـ اللفظ الأول "تنفي الخبث" رواه البخاري ومسلم وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي وغيرهم من طريق جماعة عن شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهذا اللفظ هو الثابت، وهو الصواب، فرواه البخاري في الباب المناسب له، وهو باب {فما لكم في المنافقين فئتين} من كتاب تفسير القرآن.
ـ اللفظ الثاني "تنفي الرجال" رواه البخاري عن رجل واحد عن شعبة به، وهذا اللفظ ليس بعيدا عن المعنى إذا فُهم على معنى أنها تنفي الرجال الخبثاء، فرواه البخاري في باب المدينة تنفي الخبث من كتاب فضائل المدينة، وهو مناسب له كذلك.
فرحم الله الإمام البخاري ما أدق نظره في هذا التبويب!.
* ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 14/ 2/ 1440، الموافق 23/ 10/ 2018، والحمد لله رب العالمين.


الاثنين، 22 أكتوبر 2018

تعقيبات على كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب

بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ وبه أستعين


روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري". وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
وقف بعض الإخوة على ما كتبه الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله أحد شراح صحيح البخاري في القرن الرابع عشر الهجري في شرح هذا الحديث، فاستحسنه.
قرأت ما قاله الشيخ في شرح هذا الحديث فوجدت أكثره بخلاف ذلك تماما، سواء في ذلك ما قاله فيما يتعلق بشرح الحديث أو ما ذكره استطرادا، وشرعت في كتابة بعض التعقبات، ومنها تعقبات لغوية، إلا أن الأمر طال، فآثرت أن أقتصر على بعض ما أراه مهما.
* ـ قال الشيخ محمد أنور الكشميري المتوفى سنة 1353 في كتابه فيض الباري على صحيح البخاري في شرح هذا الحديث: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا. بقي الفصل بين الرِجلين: ففي شرح الوقاية أنه يفصل بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قول آخر: قدر شبر. قلت: ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بأن كانوا يفصلون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!، ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، كلفظ "فوق الصدر" عند ابن خزيمة، فإنه من توسعِ الرواة قطعا، لأنه لم يعمل به أحد من الأئمة، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع ويخترع كل يوم مسألة، فإنَّ توسع الرواة معلوم، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خفي، فاعلمه، وهذا الذي عرض للمحدثين، فإنهم ينظرون إلى حال الإسناد فقط، ولا يراعون التعامل، فكثيرا ما يصح الحديث على طورهم ثم يفقدون به العمل فيتحيرون، وكذلك قد يضعفون حديثا من حيث الإسناد مع أنه يكون دائرا سائرا فيما بينهم ويكون معمولا به فيتضرر هناك من جهة أخرى، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث، والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجل أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف، وعند أبي داود في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة "صف القدم ووضع اليد على اليد من السنة". قلت: ومراده استواء القدمين مع التجافي، فلا يبحثون عن إلزاق الكعبين أصلا، ولا يذكرون فيه إلا الصف، ثم في النسائي في باب الصف بين القدمين أن رجلا صف بين القدمين فقال له ابن مسعود رضي الله عنه "خالف السنة، لو راوح كان سنة". ومراده بعكس ما هناك، أي يضم بين قدميه، ولا يترك فرجة بينهما، وأراد بالمراوحة التفريج بين القدمين، فالصف عند أبي داود بعكس ما في النسائي فتنبه، فإنه ليس من المصطلحات ليلزم بالمخالفة، ولا تتوهم أن بين اللفظين تناقضا، فإنه يُبنى على تعدد المعنيين، فالصف بمعنى التفريج والاستواءِ سنة، وهو بمعنى الضم بينهما مخالف للسنة، وتلخص أن الصف بين القدمين سنة لا غير، لأنهم لا يذكرون ولا يتعرضون إلى غيره، فحسبهم قدوة].
* ـ أقول:
فهمَ الشيخ المؤلف رحمه الله من حديث "أقيموا صفوفكم" أن المراد تسوية الصفوف وتعديلها بعيدا عما يظهر مما قاله راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكلامه يدور حول هذا، وعليه فيه مؤاخذات، وهذه بعضها:
المؤاخذة الأولى:
تجاهل الشيخ سامحه الله ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث، ولذا فإنه لم يبين معنى الإلزاق في اللغة العربية!، واكتفى بما نقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله".
كلام ابن حجر هنا هو ما فهمه من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم"، لكن الراوي أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر عقب الحديث ما فهمه الصحابة منه وقال "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه"، ولا يصح أن نتجاهل ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة.
الإلزاق والإلصاق هما بمعنى واحد، وهو في لغة العرب أن يُقرن شيء بشيء حتى ينضم إليه دون فاصل بينهما.
كلمة "ألصق" معناها ظاهر معروف، وبها وبنحوها يفسرون الكلمات الغامضة المعنى، أما هي ونحوها فلا تكاد تجد لها تفسيرا في معاجم اللغة.
وددتُ لو أن المؤلف نظر في بعض الروايات الواردة في الصحيحين مما جاءت فيه كلمة الإلصاق ليتبين معناها، وهذه بعض النصوص الواردة فيهما لمن أراد أن يقف على معنى الإلصاق في اللغة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم فأدخلتُ فيه ما أخرِج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين". وفي رواية: "وأن ألصق بابه بالأرض".
جُرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعِيَته وهُشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وكان علي رضي الله عنه يختلف بالماء في المِجَن، فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته، فاستمسك الدم. وفي رواية: فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمَدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه.
قدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبيا فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.
"غزا نبي من الأنبياء، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله، فأبت أن تطْعَمه، فقال فيكم غلول، فلـْيبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصِقت يد رجل بيده، فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فبايعته، فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة، فقال فيكم الغلول".
وهذا يوضح معنى الالتصاق، ويشير إلى أنه اقتران شيء بشيء وانضمامه إليه دون فاصل بينهما.
المؤاخذة الثانية:
وقف الشيخ رحمه الله على كلام علماء النحو في أن حرف الباء للإلصاق وعلى مثال ذكروه وهو قولهم "مررت بزيد"، ووجد أن الذي يمر بزيد لا يُشترط فيه لصحة هذا القول أن يكون ملاصقا له بجسمه حال المرور به، وكأنه استنبط منه أن الإلصاق لا يُشترط فيه الملاصقة والانضمام بدون فاصل!، فقال: "ليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!".
وهذا خلل في فهم اللغة، لأن قولك "مررت بزيد" يعني التصاق المرور به، وليس التصاق المار به.
قال أبو الحسن ابن الوراق المتوفى سنة 381 في كتابه علل النحو: الباء للإلصاق، كقولك مررت بزيد، أي ألصقت مروري به.
المؤاخذة الثالثة:
إذا كان الشيخ قد فهم من حديث "أقيموا صفوفكم" الفهم الذي رآه فله ذلك، لكن كان عليه أن ينظر في طرق الحديث الأخرى، ومنها ما رواه البخاري من طريق آخر، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا صفوفكم، وتراصُّوا، فإني أراكم من وراء ظهري". تراصوا: انضموا وتلاصقوا.
وهذا يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم من إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ليس مما فهموه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم" فقط، بل من قوله كذلك "وتراصوا".
المؤاخذة الرابعة:
قال الشيخ في تأكيد عدم استحباب إلصاق المنكب بالمنكب: "وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا".
عزا الشيخ المعنى الذي فهمه من الحديث للفقهاء الأربعة، وأظنه يعني فقهاء المذاهب الأربعة، وهذا العزو غير صحيح، وهذه أقوال بعض علماء المذاهب الأربعة:
روى أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، سووا مناكبكم، تراصوا". ولم يعلق عليه بشيء.
وروى محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، وسووا مناكبكم، تراصوا". قال محمد: وبه نأخذ، لا ينبغي أن يُترك الصف وفيه الخلل حتى يسووا، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مجد الدين ابن الأثير المتوفى سنة 606 في كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي بعد ذكر حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت عندنا، وبهذا نقول.
وقال الخطابي المتوفى سنة 388 في كتابه أعلام الحديث: قوله "تراصوا" معناه تدانوا وتضامُّوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، ومنه قول الله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وقال ابن بطال المتوفى سنة 449 في شرح صحيح البخاري بعد ذكر عدة روايات ومنها "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه": هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام "تراصوا في الصف"، وهذه هيئة التراصِّ.
وقال الباجي المتوفى سنة 474 في المنتقى: تسوية الصفوف من هيئات الصلاة، وهو يتصل بمقام المأمومين من الإمام، فإذا كانوا عددا لزم فيهم إقامة الصفوف وهو تقويمها ونماؤها والتراص فيها.
وقال التوربشتي المتوفى سنة 661 في كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة: ومنه حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": أي تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَج. الفُرْجة: انفتاح بين شيئين.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم "أقيموا الصف في الصلاة": أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه.
وقال مظهِر الدين حسين بن محمود الزيداني الحنفي المتوفى سنة 727 في كتابه المفاتيح في شرح المصابيح: قوله "أقيموا صفوفكم": أي سووا وأتموا صفوفكم، "وتراصوا": أي ليقرُبْ كلُّ واحد منكم بجنب صاحبه بحيث تتصل مناكبكم، تراصَّ الشيئان إذا انضما ولزق أحدهما بالآخر.
وقال العيني المتوفى سنة 855 في عمدة القاري: قوله "وتراصوا" معناه تضامُّوا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، وأصله من الرص، يقال رص البناءَ يرصه رصا إذا لصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وأما ابن حجر فخالف الجمهور في هذه المسألة، حيث أورد احتمالا في معنى "تراصوا" يخرجها عن المعنى اللغوي، فقال في فتح الباري: قوله "وتراصوا" بتشديد الصاد المهملة: أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمِل أن يكون تأكيدا لقوله "أقيموا"، والمراد بِ "أقيموا" سووا.
المؤاخذة الخامسة:
قول الشيخ "أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا" غريب جدا مصادم للأحاديث الصحيحة التي تأمر بالتقارب والتراص في الصلاة، وكأنه يرى استحباب المباعدة!، لكن لا لدرجة أن يترك المصلون بين كل اثنين فراغا يسع رجلا ثالثا بينهما!!.
شيء غريب جدا!.
كأن الشيخ يرى أن كل رجلين ممن خلف الإمام في الصلاة إذا اقتربا وتراصَّا وألصق كل واحد منهما منكبه بمنكب الآخر فصلاتهما مخالفة للسنة!، وأنهما إذا تباعدا بحيث لا يتركان بينهما فُرْجة تسع فيها رجلا ثالثا فصلاتهما غير مخالفة للسنة!، وهذا بخلاف ما ثبت في السنة وبخلاف ما كان يفعله الصحابة وبخلاف أقوال جمهور أهل العلم.
المؤاخذة السادسة:
قال الشيخ: "ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث".
أقول:
مراد الشيخ بلفظة التعامل هنا العمل، ولم يبين مرادَه: عمَلَ مَن يريد؟!، أيريد بالعمل عمل الصحابة والتابعين؟!، أو عمل الأئمة المجتهدين في عصور الاجتهاد؟!، أو عمل أئمة المذهب الحنفي؟!، أو عمل مشايخ الحنفية الذين أدركهم في أوائل القرن الرابع عشر الهجري؟!.
ثم إن العمل إذا كان مرويا عن الصحابة والتابعين بالسند فهذه الرواية لا يهملونها، وهي حديث موقوف أو مقطوع، وله مكانته في الاستنباط.
أما المسألة التي هي محل البحث هنا فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن الصحابة كان الواحد منهم يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، فهل عمل الصحابة عنده مقبول أو لا؟!.
يبدو أن مثل هذا العمل عنده غير مقبول حتى ولو عمل به الإمام الشافعي رحمه الله وأيده كلام كثير من أهل العلم الذين تقدم ذكر بعضهم في المؤاخذة الرابعة، ومنهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة وقال إنه قول أبي حنيفة.
المؤاخذة السابعة:
قال الشيخ: "والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة".
أقول:
إلزاق المنكب بالمنكب يقع به التراص، وإلزاق القدم بالقدم يقع به ترك الفرجة، فكلام الشيخ هنا متناقض.
المؤاخذة الثامنة:
قال الشيخ: "ثم فكر في نفسك ولا تعجلْ أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف".
أقول:
إذا فهمنا الحديث كما جاء في الحديث فهو أمر سهل جدا، ليس فيه سوى الاقتراب وترك الفرجة بين المصلي وبين جاره الذي هو من جهة الإمام، وإذا كان بعض من يدَّعون العمل بالحديث يشوهون صورة العمل به فلا يجوز أن يكون هذا مانعا من الأخذ به بالصورة السالمة من التشويه.
قوله "فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف" بعد ذكر إلزاق المنكب بالمنكب وإلزاق القدم بالقدم غير صحيح.
لا يجوز أن يُقال مثل هذا إلا عن الصورة المشوهة التي أحدثها بعض الناس.
من الصور المشوهة التي أحدثها بعض الناس أنهم لما وجدوا أن المصلي لا يمكنه أن يلزق منكبه بمنكب جاره من الجانبين جعلوا الاهتمام بإلزاق القدم بالقدم من الجانبين، فصار بعضهم يباعد بين قدميه مباعدة فاحشة ويلاحق جاريه من اليمين والشِمال لإلصاق القدم بالقدم!، بل والإلصاق الحقيقي لإلصاق الكعب بالكعب!، ويبدو أنهم لم يقرؤوا في كتب اللغة شيئا عن الإلصاق المجازي، ولو وقفوا عليه فربما كانوا ممن ينفون المجاز في لغة العرب!، وكثيرا ما يكون هذا مع الانشغال المتكرر بذلك في الصلاة.
ثم سرى هذا الحال إلى أن يتصور بعضهم أن السنة في قيام الإمام أو المنفرد للصلاة هي مباعدة القدمين عن بعضهما مباعدة شديدة تزيد عن مسافة ما بين منكبي الشخص!.
* ـ تلخيصا لما ينبغي فعله في هذه المسألة أقول:
يُسن للمصلي أن يلصق منكبه بمنكب جاره وقدمه بقدمه من كلا الجهتين، والذي أراه هو أن هذا لا يتحقق إلا إذا كان الآخرون حريصين على إقامة هذه السنة كذلك، فإن لم يكونوا حريصين فيُسن له أن يلصق منكبه بمنكب جاره من الجهة التي فيها الإمام وأن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، فإذا فعل الآخرون مثل ذلك اتصل الصف واستوى وسُدت الفُرج بين كل مصلٍّ وجاره.
أما المصلي الذي يكون خلف الإمام ولو إلى آخر الصفوف فينبغي له أن يقف كما يقف الإمام، أي أن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، لأنه هو المعيار، وعلى الآخرين من كلتا الجهتين أن يقتربوا إلى جهته، وليس هو الذي يقترب إلى جهتهم، ـ والله أعلم ـ.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 5/ 2/ 1440، الموافق 14/ 10/ 2018، والحمد لله رب العالمين.