صلاح الدين بن أحمد الإدلبي
http://www.facebook.com/salahaldin7
الثلاثاء، 4 مارس 2025
الجمعة، 27 ديسمبر 2024
تهنئة الكافرين بدخول السنة الجديدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الميامين
ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعُنَّ سنن مَن قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟!. قال: «فمَن؟!». [رواه البخاري ومسلم].
هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة المحمدية سيأتي عليها زمان يحيد فيه غالبها عن الصراط المستقيم، ويستهويهم ما عند اليهود والنصارى الذين حرَّفوا وبدَّلوا، والمراد من الخبر التحذير من التشبه بهم والوقوع فيما وقعوا فيه.
ـ قال أحد مشايخ الحنابلة رحمه الله:
"إذا دعاك الذمي لوليمة العرس فالمذهب أنه يُكره، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أنهم يُجابون ولا تُكره إجابتهم، وهذا في إجابتهم إلى الأمور العادية، كالزواج والقدوم من سفر وما أشبه ذلك، أما الإجابة إلى الشعائر الدينية فإنها حرام". وهذا صحيح لا إشكال فيه، وجزاه الله خيرا.
ـ ثم قال بعد ذلك: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
أقول:
هذا القول فيه كلمة صحيحة هي قوله "والرضا بالكفر كفر"، وما عداها هو غير صحيح، فلا يمكن أن يكون مقبولا، وإلا فأين الدليل الشرعي على أن التهنئة بالأعياد حرام مطلقا؟!.
ـ قف وتأمل:
لعلك تتساءل أيها الأخ الكريم: هل يجوز للمسلم أن يشيِّع جنازةَ أحد من غير المسلمين؟!، أو أن يعود مرضاهم؟!، أو أن يعزي أحدا منهم بموت قريبه؟!، أو أن يهنئه بزواج أو مولود أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه؟!، أو إنك ترى هذا من المحرمات القطعية في الدين؟!.
الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظهَرُ منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء.
بعض الناس يتراءى لهم إذا قلتَ بجواز تهنئة غير المسلم برأس السنة مثلا أن هذا يشمل الكافر الذي يجاهر بالعِداء والسب والشتم لدين الإسلام وما يتصل به!، وهذا التصور غير صحيح البتة، لأن الكلام في عرف الاستعمال ينصرف إلى الحالة المعهودة في سياقه، لا إلى ما يضادُّها.
قال الله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}، فهل هذه الآية الكريمة تشمل من يحمل السلاح عليك أو على جارك ويستبيح الدماء وينتهك الأعراض وأنت تؤويه وتكرمه وتبلغه مأمنه؟!.
لا يغيب عن بال كل ذي لب أن هذا ليس هو المقصودَ من الآية الكريمة.
الذي يقتل المسلمين وينتهك الحرمات هل يجوز أن تقابله بالتهنئة؟!، هذا لا يقوله ولا يتصوره عاقل، والواضح من السياق أنك تهنئ جارك أو زميلك في العمل أو مَن بينك وبينه صلة تعارف ولم تجد منه ما يسيئ إليك ولا إلى دينك من باب أولى، وهذا بغض النظر عما يعتقد.
ـ قد يكون لك أيها الأخ الكريم جار من غير المسلمين ورأيتَ يوما سيارة الإسعاف جاءت وحملتْه إلى المستشفى، ولا بد من أن تتساءل هل أعوده؟.
وربما علمتَ بوفاة والده أو والدته، وتتساءل هنا هل أعزيه؟، وهل أشاركُ في تشييع الجنازة دون الصلاة عليها؟.
وربما وُلد له مولود أو كانت عنده مناسبة مفرحة فهل أهنئه بولادة المولود وأبلّغه بأنني أتمنى له الفرحة والسعادة؟.
وقبل الجواب، فهل الحكم واحد في حالات عيادة المريض والتعزية بفقد عزيز والتهنئة بمناسبة مفرحة؟، لأننا قد نقف على قول أحد أئمة الفقه في إحدى هذه الحالات، فإذا كانت كلها من بابة واحدة فهذا يفيدنا في أن الحكم ينسحب على تلك الحالات كلها.
يجيبنا على هذا السؤالِ الفقيهُ الحنبلي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 رحمه الله فيقول: "تهنئتهم...، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينها".
ـ إذا وقعتْ نازلة وسُئلنا عن الحكم الشرعي فيها فمِن غير المقبول شرعا التسرعُ في إطلاق القول فيها بإباحةٍ أو تحريم أو غيرِ ذلك دون الاستناد لدليل شرعي، وإذا قال فيها قائل فلا بد من المطالبة بالدليل. فتأملوا معي أيها الإخوة الكرام:
* ـ روى الإمام البخاري في كتاب التاريخ الأوسط وعبد الرزاق بن همَّام الصنعاني في مصنفه والبلاذري في أنساب الأشراف من طرق عن سفيان الثوري أنه قال: حدثنا حماد ـ هو ابن أبي سليمان ـ عن الشعبي أن الحارث بن أبي ربيعة رحمه الله ماتت أمه نصرانية، فشيَّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. [الإسناد هنا لا بأس به].
والذين شاركوا في تشييع تلك الجنازة لا يغيب عنهم ما في عقائد النصارى من شركيات، لكن ربما تكون مواساةُ أهل الميت والحاضرين تشييعَه ممن هم على دينه خطوةً في مد جسر التواصل والدعوة إلى الإسلام.
وروى عبد الرزاق في مصنفه [19217] عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أنه قال: قال عطاء: «إن كان بين مسلم وكافر قرابة قريبة فليعدْه». وقال عمرو بن دينار: «ليعدْه وإن لم تكن بينهما قرابة».
وروى عبد الرزاق [19218] عن ابن جريج أنه قال: سمعت سليمان بن موسى يقول: «نعودهم وإن لم تكن بيننا وبينهم قرابة». [عمرو بن دينار وسليمان بن موسى هما من التابعين].
* ـ نصَّ الإمامُ الشافعي رحمه الله على جواز تعزية النصراني، فقد قال إسماعيل بن يحيى المُزَني تلميذ الشافعي وراوية كتبه: قال الشافعي: "أحبُّ تعزية أهل الميت رجاء الأجر بتعزيتهم، ويعزي المسلمَ بموت أبيه النصراني فيقول أعظم الله أجرك وأخلف عليك، ويقول في تعزية النصراني بقرابته أخلف الله عليك ولا نقص عددَك". وجرى على ذلك فقهاء الشافعية من بعد إمامهم.
الإمام الشافعي هو من أكبر شيوخ الإمام أحمد، وكان أحمد يخصه بالدعاء بعد كل صلاة، وكان الشافعي إماما في الفقه وأصول الفقه وفي العقائد.
* ـ سئل الإمام أبو عبد الله أحمد ابن حنبل رحمه الله مراتٍ عن عيادة المريض من أهل الذمة، وروى عنه ثمانية من تلاميذه جواباته في هذه المسألة، وكان الجواب في ثلاث روايات منها بالجواز، وقال في رواية: "إذا كان يرجوه فلا بأس به". وفي رواية: "إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام". وفي رواية: "إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل منه فلْيَعُدْه". وفي رواية أخرى: "يجيء فيقوم على الباب ويعتذر إليه". أي يكون واقفا عند الباب ويقول له كلمات تخفف عنه ما هو فيه ويعتذر إليه عن الجلوس، وانفردت رواية واحدة بجواب مختلف، وهذا نصها: سُئل أبو عبد الله عن الرجل يعود شريكا له يهوديا أو نصرانيا؟، فقال: "لا ولا كرامة". [أحكام أهل الملل للخلال: 597 ـ 604]. وقوله في إحدى الروايات "إذا كان يرجوه فلا بأس به" أي إذا كان يرجو إسلامه، والله أعلم.
ولا بد من ملاحظة أن الإمام أحمد رحمه الله قال في رواية المنع من ذلك "لا ولا كرامة"، ولم يصرح بالتحريم أو عدم الجواز، وقد فهم منها القاضي أبو يعلى رحمه الله الكراهة، لا التحريم، كما سيأتي.
ـ الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله يجيب في مسألة عيادة الذمي اليهودي أو النصراني سبع مرات بالجواز المطلق أو المقيد ومرة واحدة بالنهي!، فكيف نقل علماء الحنابلة أقوال الإمام أحمد من خلال الروايات المنقولة عنه؟، أو من خلال ما وقفوا عليه منها؟، وهل كانت نقولهم عنه معبرة عن أقواله بدقة؟:
ـ منهم من نقل أربعة أقوال أو ثلاثة:
قال المرداوي المتوفى سنة 885 في كتابه الإنصاف: "في تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان، إحداهما يحْرُم، وهو المذهب، والرواية الثانية لا يحرم، فيُكره، وذكِر رواية بعدم الكراهة، فيُباح، وعنه يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه". [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/ 234].
وقال ابن مفلح المتوفى سنة 763 في مبحث أحكام أهل الذمة: "تحرم العيادةُ والتهنئة والتعزية لهم، وعنه يجوز، وعنه لمصلحة راجحة، كرجاء إسلام". [الفروع في الفقه الحنبلي لابن مفلح: 10/ 334].
ـ ومنهم من نقلوا قولين:
ذكر القاضي أبو يعلى المتوفى سنة 458 رحمه الله في مسألة عيادة اليهودي والنصراني قولين مما نقله تلاميذ الإمام أحمد عنه إذ قال: [نقلَ جعفر بن محمد ـ أي عن الإمام أحمد ـ كراهية ذلك وقال: "لا ولا كرامة". ونقل أبو منصور الأصبهاني جواز ذلك]. [المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى: 1/ 199].
وقال الكَلْوَذاني المتوفى سنة 510: "لا يجوز تهنئتهم ولا تعزيتهم في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى: تجوز". [الهداية في الفقه الحنبلي للكَلْوَذاني: ص 225].
وقال موفق الدين ابن قدامة المتوفى سنة 620: "توقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة، وهي تُخَرَّج على عيادتهم، وفيها روايتان، إحداهما: لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم، وهذا في معناه، والثانية: نعودهم". [المغني في الفقه الحنبلي للموفق ابن قدامة: 3/ 486].
وقال الحجاوي المتوفى سنة 968: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وعنه تجوز العيادة إن رُجي إسلامه". [الإقناع: 2/ 49].
ـ ومنهم من نقلوا القول بالتحريم واقتصروا عليه:
قال سراج الدين الدجيلي المتوفى سنة 732: "لا تجوز التهنئة والعيادة والتعزية لهم". وقال ابن النجار المتوفى سنة 972: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم". وكذا يقول مرعي الكرمي المتوفى سنة 1033 ومنصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051 وابن بلبان الدمشقي المتوفى سنة 1083. [الوجيز: ص 167. منتهى الإرادات: 2/ 244. دليل الطالب: ص 122. الروض المرْبع: ص 301. مختصر الإفادات: ص 351].
هكذا عند هؤلاء المتأخرين كأن المسألة ليس فيها سوى قول واحد، والقول الواحد الذي رُوي عن إمام المذهب بالنهي فسره أكثرهم بالتحريم أو عدم الجواز وقدموه على غيره، أما الروايات السبعة التي تصرح بجواز عيادتهم أو تشير لذلك إشارة واضحة فتُنُوسيت وذهبتْ أدراج الرياح.
أين فقهاء الحنابلة من إمام المذهب؟!!، بينه وبينهم بَون شاسع.
ـ يتبين لكم أيها الإخوة الكرام بعد هذا العرض الفرقُ الكبير بين ما قاله الإمام أحمد رحمه الله في الروايات التي أسندها عنه تلميذ تلاميذه أبو بكر الخلال وبين ما نقله عنه مشايخ الحنابلة على مر العصور، فأوائلهم ذكروا من الأقوال المخرَّجة الثمانية قولين أو ثلاثة أو أربعة، وبعض متأخريهم اقتصروا على قولين، واقتصر بعضهم على قولٍ واحد منها، وفسروه بالتحريم، إذ تمسكوا بكلمة صدرتْ منه مرة واحدة وأعرضوا تمام الإعراض عما قاله في المرات الأخرى وجعلوها هباء منثورًا!.
* ـ أما في مسألة التعزية فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة فقال: "ما أدري". وسئل مرة أخرى عن تعزية النصراني فقال: "لا أدري، لمَ يعزيه؟!". [أحكام أهل الملل للخلال: 636 ـ 637]. وقارن هذا بما نقله المتأخرون من الحنابلة، كما تقدم قريبا.
* ـ هل كلام الإمام الشافعي والشافعيين والإمام أحمد في معظم إجاباته والآخذين بها من الحنابلة مؤيد بالأدلة؟:
قال الله جل وعلا {اليوم أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، وهو القائل جل شأنه {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}، فلا بد أن تنشأ بين الرجل وزوجته الكتابية القائمة بحسن الرعاية وُصْلة، والمودة الجائزة هنا هي تلك الصلة الناشئة عن العلاقة الزوجية التي لا تمس العقيدة في شيء من شؤون الحياة، وهذا غير ما هي عليه في خاصة نفسها مما ليس له تأثير على حياة الأسرة وتصوراتها وسلوكها وسائر مناحي حياتها.
وهذه المودة هي غير المودة النابعة من ميل القلب إلى ما هم عليه من العقائد الكفرية الباطلة، إذ تلك من المكفرات، فالواجب الحذر.
ـ لا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذا التشريع هو من أعظم دواعي التواصل ليتعرف أهل الكتاب على الإسلام، ليس من خلال المعرفة النظرية العلمية فقط، بل من خلال التعامل العملي، ومنه صلة المصاهرة، وهي ستؤدي ـ دون شك ـ إلى شيء من البر والإحسان لأهل تلك الزوجة الذين هم أخوال الأولاد وأقرباؤهم من جهة الأم.
هل يُتوقع أنه لا يكون فيها دعوة على طعام؟! ولا دعاء بالصحة والعافية والهناءة والسرور؟!، والمؤمن الصادق يدعو لكل الناس بذلك صادقا من قلبه، والفرق بينه وبين غيره أن الآخَرين إذا دعَا الواحد منهم دعَا بما يفكر هو فيه من تصوره القاصر، أما المؤمن إذا دعا فإنه يدعو بمثل تلك الكلمات بمعناها الواسع الذي يشمل سعادة الدنيا والآخرة.
ـ هل ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت اليهودي الشاب المريض لعيادته في بيت والده؟، نعم، وهذا في صحيح البخاري.
هل دعا له بالشفاء؟، لا أدري، لأني لم أجد ذلك فيما وقفت عليه من روايات الحديث، لكن عدمُ ذكْر أي جزئية في الرواية لا يعني أنها لم تكن في الواقع، لأن الذي يُذكر في الرواية هو ما شدَّ انتباهَ الراوي لينقله لنا فيها.
والمذكور فيها هو أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، فنظر ذلك الشاب المريض إلى أبيه وهو عنده، فقال له والده: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار».
هل في عقائد أهل الكتاب شركيات؟، الجواب: نعم.
هل في هذا الحديث دلالة على جواز عيادة المريض المشرك؟، الجواب: نعم، وخاصة إذا كانت بقصد إيصال رسالة فيها دعوة للإيمان، أو بقصد مد جسور التواصل لإيصال رسالة إيمانية ولو في وقت لاحق.
ـ يظن بعض الناس أن المسلم الصالح هو من إذا رأى غير المسلم عَبَسَ، لا لشيء إلا لأن الذي أمامه من الكافرين!، هل هذا هو المطلوب من المسلم؟!، وهل هناك فرق بين غير المسلم المُعادي وغير المسلم المسالم؟!.
إذا كان ذلك هو المطلوب فلمَ قال الله عز وجل {وقولوا للناس حسنا}؟، ولمَ لم يكن الخطاب وقولوا للمسلمين حسنا؟!، ولو كان هذا هو الأصلَ فكيف تدعو أيها المسلم غير المسلمين إلى دين الإسلام؟!، وكيف تتوقع أن يستجيب مَن تدعوه لهذه الدعوة؟!.
إن ما يحرك جذوة الإيمان في القلوب هو تقديم البر والإحسان، ثم أن تكون أيها الداعي إلى دين الحق بشوشا حريصا من كل قلبك على قبول المدعوين لدعوتك متشوقا بكل ذراتك إلى دلالة الغافلين على سلوك طريق الهداية.
ـ قال الله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
القسط هو العدل، وهو نقيض الظلم، وأما البِر فهو شيء آخر فوق ذلك، قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: "بر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما".
* ـ أيها الأخ الكريم الذي تقول بتحريم تهنئة غير المسلم برأس السنة:
الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظْهَر منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء.
هل عندك دليل شرعي على تحريم تهنئة مثل هذا أو تعزيته أو عيادة مريضه من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح؟!.
إذا كان لديك دليل شرعي فأبرزه حتى تقطع الاختلاف بالدليل.
ـ إذا لم تجد دليلا شرعيا وأنت تقلد أحدا تراه عالما أو من طلاب العلم فاعملْ بفتواه في خاصة نفسك إذا غلب على ظنك رجحانُ قوله وأنت من أهل الترجيح، وإياك من الوقوع في المحذور، وهو أن تفتي في دين الله عز وجل أو تزكي قولا أو ترد قولا أو ترجح قولا على قول بدون حجة شرعية.
قال ابن تيمية رحمه الله: "مَن صار إلى قولٍ مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخَر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرتْ". [مجموع الفتاوى: 35/ 233. دقائق التفسير: 2/ 24].
وقال ابن تيمية كذلك: "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعْل أهل الجهل والأهواء". [مجموع الفتاوى: 35/ 212 ـ 213. دقائق التفسير: 2/ 13].
ـ أيها الإخوة الكرام:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يوم نجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: «فأنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه.
هل أعرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل اليهود وابتهاجهم بذكرى اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل وعن اتخاذِه عيدا؟!، وهذا عيد ديني مشتمل على الفرح بنجاة نبي رسول من أولي العزم؟!، لا، بل قال «أنا أحق بموسى منكم»، فصامه وأمر بصيامه.
هذا هو الهدي النبوي لمن يريد الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ التهنئة برأس السنة الميلادية:
رأس السنة الميلادية هو عند النصارى بداية السنة الجديدة، وكثيرا ما يخلطونه بذكرى ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، وهم يرون أن ولادته كانت قبل رأس السنة بأسبوع أو بعدها بأسبوع، على خلاف بينهم في ذلك، فإذا رجوتَ للنصراني الخير في السنة القادمة دون إشارة إلى ميلاد السيد المسيح عليه السلام فهذا أمر بعيد عن موضوع الدين.
أكثر النصارى اليوم ليسوا مؤمنين بالله تعالى أصلا، ويجمعون في احتفالهم بين رأس السنة وذكرى ولادة المسيح عليه السلام الذي هو عندهم مجرد رمز احتفالي، ولذا فليس في اعتقادهم أنه الله ولا ابن الله.
المتدينون المتمسكون منهم بدينهم قليلون، وهم غارقون في الضلال والشركيات، وكثيرون منهم يعتقدون أن المسيح ابن الله!، تعالى ربنا جل وعلا عن أن يكون له ولد.
الذي يهنئهم برأس السنة وبولادة سيدنا عيسى عليه السلام دون أي إشارة إلى ما في عقائدهم من ضلال لا يكون عمله هذا كفرا، لكن من الحكمة أن تكون التهنئة برأس السنة وبولادة نبي الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام مصرَّحا فيها بنبوته.
لا بد من التأكيد على هذه الكلمة، التي هي أن سيدنا عيسى عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، فعسى أن يجعلها ربنا تبارك وتعالى ومْضة في عقل عبد من عباده تنقذه من الضلال وتفتح عقله وقلبه إلى الدين الحق. وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "لأنْ يهديَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَعَم».
ـ بعض النصارى اليوم إذا هنَّأتَه بذكرى ولادة نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام قد يقول لك لا تهنئني بهذا ولا أريد تهنئتك.
لا بأس، فهو ومَن على شاكلته قد يردون التهنئة، لكن كثيرا من النصارى يتقبلونها بقبول حسن ولها أثر طيب في نفوسهم، فازرع الكلمة الطيبة، ولا تدري متى يظهر نباتها.
عجيبة من العجائب:
ـ من العجائب أن يقول أحد المشايخ: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
أقول:
بدأ الشيخ كلامه هنا بالحديث عن "التهنئة بالأعياد" بالإطلاق، وانتقل بعده إلى التهنئة بأعياد الكفر!، وأعطى للنوع الأول الحكم بالتحريم وأن الإنسان ربما لا يسْلم من الكفر!، هكذا دون الاستناد إلى دليل شرعي!، ثم انتقل إلى ما يريد أن يستدل به على مقولته، فقال: "لأنَّ تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
وهذا خلط عجيب بين التهنئة بالأعياد بإطلاق وبين التهنئة بأعياد الكفر!!.
لا شك في أن التهنئة بأعياد الكفر أقل ما فيها هي أنها حرام، لكن لا يلزم من التهنئة بعيد كفري أن يكون المرء قد فعل ذلك رضًا بالكفر، ولا شك في أن الرضا بالكفر كفر، ولذا فإنها إذا كانت مع الرضا القلبي بالكفر فهي كفر، وإلا فلا.
ألا ترى أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان قد كتب إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وهذا عظيمة من العظائم زلتْ فيها قدم حاطب، ولما عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله، لا تعجَلْ علي، وما فعلتُ ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صَدَقَكم». وقال لعمر: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهذا دليل واضح لكل مستبصر على أن العمل الكفري قد يقع فيه المرء من باب الزلل دون أن يكون راضيا الرضا القلبيَّ بفعله، فيكونُ مَن باشر العمل الكفري وقلبه منكِرٌ غير راضٍ قد ارتكب حراما، وهذا يجب عليه أن يتوب منه توبة صادقة، ولا يصح إطلاق القول بكفر فاعل ذلك، بل الواجب هو أن يُقال إنه إذا فعل ذلك مع الرضا القلبي بما أقدم عليه من الفعل الكفري فقد كفر، وإلا فلا.
ـ ما معنى أن يقول الباحث في العلة التي استند إليها في تحريم التهنئة بالأعياد بإطلاق "لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها والرضا بالكفر كفر"!!، والكلام الذي بدأ به هو التهنئة بالأعياد وليس بأعياد الكفر!، وما الذي قلب موضوع البحث من شيء إلى شيء مختلف تمام الاختلاف؟!!.
هل هو الرغبة في الحكم على الناس بالكفر دون دليل شرعي؟!.
ربما تكون زلة زل بها القلم، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وكلنا من بني آدم، فأسأل اللهَ تعالى المغفرة لنا جميعا.
{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}.
ـ عتْبي هو على الذين يقلدون تقليد العُميان ولا يسألون عن الدليل، ويوزعون بعد ذلك الاتهامات على الناس!.
ألا فاتقوا الله يا أولي الألباب، فالناقد بصير، والحساب عسير، والتهنئة بالأعياد شيء، والتهنئة بأعياد الكفر شيء آخر.
ـ قد يقول قائل: الاحتفال برأس السنة هو شيء باطل، ولو فعله المسلمون برأس السنة الهجرية لما جاز تهنئتهم به، لأنه عيد مبتدَع!.
أقول:
أيها الأخ الكريم: إذا كان عندك دليل من كتاب الله عز وجل أو من الحديث النبوي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الصحيح أو القياس الجليِّ فهاته، وهو على الرأس والعين، وإلا فجدد البحث عن الدليل. وأنصح بقراءة كُتَيِّب عنوانه "البدعة المحمودة بين شبهات المانعين وأدلة المجيزين".
ـ قد يقول قائل: إذا كان الشرع قد نهانا حتى عن ابتدائهم بالسلام فكيف يجيز لنا تهنئتهم بما يسرهم؟!.
أقول:
هل نهانا الشرع عن ابتدائهم بالسلام مطلقا؟!، وهل هذا ما كان عليه السلف؟!. أرجو أن تحقق المسألة أولا ثم نتابع الحوار.
ـ وقد يقول قائل: التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة وهي منهي عنها بأكثر من نص في القرآن قطعي الدلالة مُجْمَعٍ عليه.
أقول:
ليست كل تهنئة بأمر ما داخلةً في باب المودة والمحبة، فقد تكون لغرض سوى هذا، ومن ذلك أن تكون من باب المقابلة بالمثل، فالجار الذي ليس بمسلم إذا عرَف متى رأس السنة الهجرية وقال أتمنى لك سنة طيبة وقابلتَه بمثل ذلك في رأس سنته فهل هذا يعني المودة والمحبة؟!، قد يكون كذلك وقد لا يكون، فتنبه للفرق.
فمِن أين لك أن تجزم بأن "التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة" هكذا بإطلاق؟!.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال «ائذنوا له فبئس أخو العشيرة»، فلما دخل ألان له الكلام، قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ ثم ألنتَ له في القول؟!. فقال: «أيْ عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من وَدَعَه الناس اتقاء فحشه». أي تركه الناس اتقاء فحشه.
الذي لا يجيد معرفة تصاريف الكلام ويسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يلينُ القول لذاك الذي دخل عليه يظن أنه يكنُّ له المودة والمحبة، لكنه إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه «بئس أخو العشيرة» فإذ ذاك يعلم أنه ليست كل ملاينة في القول تعني المحبة والمودة.
وقال البخاري: يُذكر عن أبي الدرداء «إنا لنَكْشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم». الكشْر: ظهور الأسنان عند التبسم. وهذا إسناده ضعيف، لكن لا بأس بالاستشهاد به في أمر ثبت أصلُه.
ـ أقول في ختام هذه الفقرات:
تهنئة النصارى الذين يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام إن كانوا يظهرون أنهم يحتفلون بميلاد المسيح الذي هو ابن الله مثلا فلا شك في عدم جواز التهنئة هنا، لإعلانهم عقيدة كفرية، إلا إذا كانت التهنئة مقترنة بالتصحيح والبيان، وأما مَن لا يظهر شيئا من العقائد الباطلة وكانت التهنئة بذكرى ولادة المسيح عليه السلام مقرونة بالإشارة إلى نبوته فهذه جائزة ومستحبة. والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 14/ 7/ 1444، الموافق 5/ 2/ 2023، والحمد لله رب العالمين.
"لو كان بعدي نبي لكان عمر"
رُوي عن نبينا صلى الله عليه وسلم في رواية ضعيفة الإسناد أنه قال "لو كان بعدي نبي لكان عمر"، ورُوي عنه كذلك ثلاث روايات كلها ضعيفة الإسناد ضعفًا شديدًا، فهذه الرواية ضعيفة غير ثابتة. وسيدنا عمر رضي الله عنه هو من صحابة رسول الله الأخيار ومن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولا ينقص من فضله أن تكون تلك الرواية ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الأربعاء، 14 أغسطس 2024
حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه"
* ـ هذا الحديث مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجموعة من الصحابة ومن طريق زيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص وبريدة بن الحصيب وأبي أيوب الأنصاري والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله وغيرهم.
* ـ فأما حديث المجموعة من
الصحابة فهو مروي عنهم من طريق سعيد بن وهب وزاذان وأبي الطفيل:
ـ رواه ابن حنبل [23107] والنَسائيُّ
في السنن الكبرى [8417] والآجري في كتاب الشريعة [1541] عن محمد بن جعفر عن شعبة، والنَسائيُّ
في السنن الكبرى [8418] عن علي بن محمد بن علي عن خلف بن تميم عن إسرائيل بن يونس،
كلاهما عن أبي إسحاق السَبيعي أنه قال: سمعت سعيد بن وهب قال: نَشَدَ عليٌّ الناس،
فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». نَشَدَ عليٌّ الناس: أي طلبَ من
الناس.
[محمد بن جعفر بصري ثقة مات
سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وعلي بن محمد بن علي
المصيصي ثقة. خلف بن تميم كوفي صدوق ثقة مات سنة 213. إسرائيل بن يونس كوفي ثقة
مات سنة 161. أبو إسحاق السَبيعي عمرو بن عبد الله كوفي ثقة اختلط بآخره، وقد يدلس
الإسناد، مات سنة 127. سعيد بن وهب كوفي ثقة مات سنة 75]. شعبة هو ممن أخذ عن أبي
إسحاق قبل اختلاطه، وقد اعتمد الشيخان في صحيحيهما على روايته عنه في عشرات
المواضع، وصرَّح أبو إسحاق بالسماع في الروايتين كلتيهما، فهذا الطريق صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة [32754
مع استدراك اسم سعيد بن وهب من طبعة مكتبة الرشد برقم 32091] عن شريك بن عبد الله
النخعي، ورواه عبدُ الله بن أحمد في زوائد المسند [950] والبزار [4299] عن علي بن
حكيم الأودي عن شريك، عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب وزيد بن يُثيع به. [علي بن حكيم
الأودي كوفي صدوق ثقة مات سنة 231. شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق ثم تغير
حفظه، مات سنة 177. زيد بن يُثيع لا بأس به]. وفي هذه المتابعات مزيد توثيق لثبوت هذه
الرواية.
ـ ورواه ابن حنبل [641] وفي
فضائل الصحابة [991] عن عبد الله بن نُمير، وابنُ أبي عاصم في كتاب السنة [1372]
عن عمار بن خالد عن إسحاق الأزرق، كلاهما عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي عبد
الرحيم الكندي عن زاذان أبي عمر أنه قال: سمعت عليا في الرحبة وهو يَنْشُد الناس مَن
شهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟، فقام ثلاثة عشر
رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من كنت مولاه
فعلي مولاه».
[عبد الله بن نُمير كوفي ثقة
مات سنة 199. وعمار بن خالد واسطي صدوق ثقة مات سنة 260. إسحاق بن يوسف الأزرق
واسطي صدوق ثقة مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145.
أبو عبد الرحيم الكندي يظهر لي أنه حبيب بن يسار الكندي، وهذا كوفي ثقة. زاذان أبو
عمر الكندي كوفي ثقة فيه لين مات سنة 82]. فهذا إسناد جيد في المتابعات.
ـ ورواه ابن حنبل [19302] والنسائي
في الكبرى [8424] والطحاوي في مشكل الآثار [1762] وابن حبان في صحيحه [6931] من
خمسة طرق عن فِطْر بن خليفة عن أبي الطفيل أنه قال: جمع عليٌّ رضي الله عنه الناس
في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كلَّ امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم غدير خم ما سمع لـَمَا قام. فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده فقال
للناس: «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟». قالوا: نعم يا رسول الله. قال:
«من كنت مولاه فهذا مولاه». قال أبو الطفيل: فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئا، فلقيتُ
زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت عليا يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر؟!، قد سمعتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.
[فِطْر بن خليفة كوفي ثقة
فيه لين مات سنة 155. أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110].
فهذا إسناد جيد في المتابعات.
فحديث جماعة من الصحابة في
هذا ثابت عنهم بثلاثة أسانيد، أحدها صحيح والآخران جيدان.
* ـ وأما حديث زيد بن أرقم
فهو مروي عنه من طريق أبي الطفيل وأبي الضحى وعطية بن سعد العوفي وميمون أبي عبد
الله:
ـ رواه ابن أبي عاصم في
السنة [1365] والبزار [4298] والطحاوي في مشكل الآثار [1765] عن أبي موسى محمد بن
المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن سليمان الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي
الطفيل عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه البزار [4300] والطبراني في الكبير [4970]
من طرق عن شريك بن عبد الله النخعي عن الأعمش به.
[محمد بن المثنى بصري ثقة
مات سنة 252. يحيى بن حماد بصري ثقة مات سنة 215. أبو عوانة الوضاح بن عبد الله
واسطي ثقة فيه لين، مات سنة 175. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس
الإسناد، مات سنة 148. حبيب بن أبي ثابت كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 119. أبو
الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110]. فهذا الطريق جيد في
المتابعات.
ـ ورواه ابن أبي عاصم في
السنة [1371] عن أبي مسعود عن عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله، والطبرانيُّ في
الكبير [4983] عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن إسماعيل بن موسى السدي عن علي بن
عابس، كلاهما عن الحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى عن زيد بن أرقم مرفوعا به.
[أبو مسعود أحمد بن الفرات
الرازي ثقة فيه لين مات سنة 258. عمرو بن عون الواسطي البصري ثقة مات سنة 225. خالد
بن عبد الله الواسطي ثقة مات سنة 182. ومحمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة
297. إسماعيل بن موسى السُدِّي كوفي صدوق مات سنة 245. علي بن عابس كوفي ضعيف.
الحسن بن عبيد الله النخعي كوفي ثقة مات سنة 139. أبو الضحى مسلم بن صُبيح كوفي
ثقة مات سنة 100]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.
ـ ورواه ابن حنبل [19279]
وفي فضائل الصحابة [992] عن عبد الله بن نُمير، والطبرانيُّ في الكبير [5069]
والآجُرِّي [1522] من طريق عَثَّام بن علي، والطبرانيُّ في الكبير [5070] من طريق
إسحاق بن يوسف الأزرق، ثلاثتهم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية العَوْفي عن
زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه الطبراني في الكبير [5071] عن محمد بن عبد الله
الحضرمي عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن فضيل بن مرزوق عن عطية به.
[عبد الله بن نمير كوفي ثقة
مات سنة 199. وعَثَّام بن علي كوفي صدوق ثقة مات سنة 195. وإسحاق بن يوسف الأزرق
واسطي ثقة فيه لين مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة
145. محمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة 297. أبو كريب محمد بن العلاء
كوفي صدوق ثقة مات سنة 248. مصعب بن المقدام كوفي صدوق فيه لين مات سنة 203. فضيل
بن مرزوق كوفي صدوق فيه لين مات سنة 160 تقريبا. عطية بن سعد بن جُنادة العَوْفي
كوفي لين مات سنة 111]. فهذا الطريق لين.
ـ ورواه ابن حنبل [19328]
والآجري [1520] عن محمد بن جعفر عن شعبة عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم
مرفوعا به. ورواه النسائيُّ في الكبرى [8415] عن قتيبة بن سعيد عن محمد بن أبي
عدي، وابنُ أبي عاصم في السنة [1362] عن نصر بن علي عن عبد الأعلى، كلاهما عن عوف
عن ميمون أبي عبد الله به.
[محمد بن جعفر الهذلي بصري
ثقة مات سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وقتيبة بن سعيد بلخي
ثقة مات سنة 240. محمد بن إبراهيم بن أبي عدي بصري ثقة مات سنة 194. ونصر بن علي
بن نصر بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250. عبد الأعلى بن عبد الأعلى بصري ثقة
فيه لين مات سنة 189. عوف بن أبي جميلة بصري ثقة مات سنة 146. ميمون أبو عبد الله
بصري ضعيف]. فهذا الطريق ضعيف. والحديث عن زيد بن أرقم صحيح بمجموع هذه الطرق.
* ـ ملحوظة:
روى ابن حنبل هذا الحديث في
فضائل الصحابة [959] والترمذي [3713] والطبراني في الكبير [3049] عن محمد بن جعفر عن
شعبة عن سلمة بن كُهيل عن أبي الطفيل عن أبي سَريحة أو زيد بن أرقم مرفوعا به.
وجاء عند ابن حنبل والترمذي أن شعبة هو الشاكُّ في اسم الصحابي. [أبو سَريحة صحابي
اسمه حذيفة بن أَسيد].
قال الترمذي: "هذا حديث
حسن غريب، وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي
صلى الله عليه وسلم نحوه".
وإذا جاءت الرواية على الشك
فلا يصح الترجيح دون قرينة، وحيث إن هذا الحديث ثابت من رواية زيد بن أرقم فالظاهر
أنه من روايته هو كذلك، والله أعلم.
* ـ وأما حديث سعد بن أبي
وقاص فهو مروي عنه من طريق بُريدة وربيعة بن عمرو الجُرَشي وعائشة بنت سعد وعبد
الرحمن بن سابط:
ـ رواه ابن أبي عاصم في
السنة [1359] عن محمد بن يحيى، والنسائيُّ في السنن الكبرى [8414] عن زكريا بن
يحيى عن نصر بن علي، كلاهما عن عبد الله بن داود عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن
بُريدة عن سعد مرفوعا به.
[محمد بن يحيى بن عبد الكريم
بصري ثقة مات سنة 252. وزكريا بن يحيى السجزي ثقة مات سنة 289. نصر بن علي بن نصر
بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250 عبد الله بن داود الخُرَيبي كوفي سكن البصرة
ثقة، مات سنة 213. عبد الواحد بن أيمن المخزومي مكي صدوق. والده أيمن المخزومي مكي
صدوق]. فهذا إسناد جيد.
ملحوظة: جاء في السند عند
ابن أبي عاصم هنا "عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جده"، وكلمة
"عن جده" هي خطأ ظاهر، إذ ليس لوالد عبد الواحد رواية عن أبيه، فهذه
اللفظة مقحمة في السند وليست منه، وسقط في السند عند النسائي ذكْر بريدة.
ـ ورواه النسائي في الكبرى
[8427] والطحاوي في مشكل الآثار [1766] عن زكريا بن يحيى السجزي، والضياءُ المقدسي
في الأحاديث المختارة [1014] من طريق إسحاق بن أحمد الخزاعي، كلاهما عن محمد بن
يحيى بن أبي عمر العدني عن يعقوب بن جعفر بن أبي كثير عن مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت
سعد عن سعد مرفوعا به.
ورواه البزار [1203] عن هلال
بن بشر، والطحاويُّ في مشكل الآثار [1768] عن أحمد بن شعيب عن أحمد بن عثمان
البصري، كلاهما عن محمد بن خالد ابن عَثْمة عن موسى بن يعقوب عن مهاجِر بن مسمار به.
[زكريا بن يحيى السجزي نزيل
دمشق ثقة مات سنة 289. وإسحاق بن أحمد الخزاعي مكي وثقه الذهبي في سير أعلام
النبلاء، مات سنة 308. محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة صدوق مات سنة 243.
يعقوب بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري مدني من رواة القراءات القرآنية، روى القراءة
عن نافع بن أبي نُعيم، مات قرابة سنة 195].
[هلال بن بشر بصري ثقة مات
سنة 246. وأحمد بن شعيب هو الإمام النسائي الثقة الحافظ المتوفى سنة 303. أحمد بن
عثمان بن أبي عثمان بصري ثقة مات سنة 246. محمد بن خالد بن عَثْمة بصري صدوق فيه
لين. موسى بن يعقوب الزَمْعِي مدني صدوق فيه لين].
[مهاجِر بن مسمار مدني ذكره
ابن حبان في الثقات، وروى له مسلم في صحيحه حديثين، وقال ابن سعد ليس بذاك. عائشة
بنت سعد بن أبي وقاص وثقها العجلي وذكرها ابن حبان في الثقات]. فهذا الطريق جيد في
المتابعات.
ـ ورواه ابن أبي عاصم في
السنة [1386] والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة [1093] عن ابن كاسب عن سفيان بن
عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ربيعة الجُرَشي عن سعد مرفوعا به. [يعقوب بن حُميد
بن كاسب مدني ثم سكن مكة، صدوق فيه لين مات سنة 141. سفيان بن عيينة كوفي ثم مكي
ثقة مات سنة 198. عبد الله بن أبي نَجيح مكي ثقة مات سنة 131. يسار أبو نجيح مكي
ثقة مات سنة 109. ربيعة بن عمرو الجرشي دمشقي صدوق مات سنة 64]. فهذا الطريق لين.
ـ ورواه ابن أبي شيبة
[32741] وابن ماجه [121] وابن أبي عاصم في السنة [1387] عن أبي معاوية محمد بن
خازم، والنسائي في الكبرى [8343] عن حَرَمي بن يونس بن محمد عن أبي غسان عن عبد
السلام، كلاهما عن موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير عن عبد الرحمن بن سابط عن
سعد مرفوعا به. [أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة فيه لين مات سنة 195. وحَرَمي
بن يونس بن محمد اسمه إبراهيم بن يونس بن محمد، بغدادي صدوق. أبو غسان مالك بن
إسماعيل النهدي كوفي ثقة مات سنة 217. عبد السلام بن حرب كوفي صدوق ثقة فيه لين
مات سنة 187. موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير كوفي صدوق. عبد الرحمن بن عبد
الله بن سابط مكي ثقة قد يرسل الإسناد، ولم يسمع من سعد، مات سنة 118]. فهذا
الطريق منقطع الإسناد، فهو ضعيف.
طرق هذا الحديث عن سعد بن
أبي وقاص: أحدها جيد، والثاني جيد في المتابعات، والثالث لين، والرابع ضعيف،
فالإسناد بمجموع هذه الطرق صحيح.
* ـ وأما حديث بُريدة بن الحُصَيب
فرواه ابن حنبل [22945] وفي فضائل الصحابة [989] وابن أبي شيبة [32795] والنسائي
في الكبرى [8089، 8413] عن الفضل بن دُكَين، والبزارُ [4352] والنسائي في الكبرى
[8412] وابن أبي عاصم في كتاب الآحاد والمثاني [2358] والآجري [1513، 1514] من
طريقين عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، كلاهما عن عبد الملك بن حُميد بن
أبي غنية عن الحكم بن عُتَيبة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن بريدة أنه قال: غزوتُ
مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكرت عليا فتنقصْته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال: «يا
بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!». قلت: بلى يا رسول الله. فقال: «من كنت
مولاه فعلي مولاه».
[الفضل بن دكين كوفي ثقة مات
سنة 218. وأبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير كوفي ثقة مات سنة 203. عبد
الملك بن حُميد بن أبي غنية كوفي ثقة. الحكم بن عتيبة كوفي ثقة قد يدلس الإسناد،
مات سنة 115. سعيد بن جبير كوفي ثقة مات سنة 95]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.
ورواه ابن أبي عاصم في كتاب
السنة [1354] عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة
عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كنت مولاه فعلي
مولاه».
[أبو بكر بن أبي شيبة كوفي
ثقة مات سنة 235. أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة مات سنة 195. وكيع بن الجراح
كوفي ثقة مات سنة 197. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 148.
سعد بن عُبيدة كوفي ثقة. عبد الله بن بريدة مروزي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 115].
فهذا الطريق جيد في المتابعات. والحديث عن بريدة صحيح بمجموع الطريقين.
* ـ وأما حديث أبي أيوب
الأنصاري فرواه ابن أبي شيبة [32736] وابن أبي عاصم في السنة [1355] والطبراني في
المعجم الكبير [4052، 4053] والآجري في الشريعة [1517] عن شريك بن عبد الله النخعي،
وابنُ حنبل [23563] عن يحيى بن آدم، كلاهما عن حَنَش بن الحارث عن رِيَاح بن
الحارث عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا به.
[شريك بن عبد الله النخعي
كوفي صدوق ثم تغير حفظه، مات سنة 177. ويحيى بن آدم كوفي ثقة مات سنة 203. حنش بن
الحارث كوفي صدوق ثقة. رياح بن الحارث كوفي ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي
والذهبي وابن حجر]. فهذا إسناد جيد.
* ـ وأما حديث البراء بن
عازب فرواه ابن حنبل [18479] وفي فضائل الصحابة [1016] وابن أبي شيبة [32781] وابن
ماجه [116] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1363] والآجري في كتاب الشريعة [1524] من
طرق، عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب مرفوعا به.
وعند ابن أبي عاصم "حماد بن سلمة عن علي بن زيد وأبي هارون"، ولفظ
الحديث عنده "هذا مولى من أنا مولاه"، أو "ولي مَن أنا
مولاه".
[علي بن زيد ابن جُدعان بصري
ضعيف مات سنة 131. وأبو هارون: يحتمِل أن يكون هو العبديَّ أو الغنويَّ، وقد روى
حماد بن سلمة عن كل منهما، وهو بصري وهما بصريان، فأما أبو هارون العبدي فهو متروك
الحديث متهم بالكذب، وأما أبو هارون الغنوي فهو ثقة، وإذا كان الاحتمال قائما بين
أمرين فالاحتياط يوجب البناء على الأقل، وهو هنا أبو هارون العبدي المتهم. عدي بن
ثابت كوفي ثقة مات سنة 116. البراء بن عازب مات سنة 72 بالكوفة]. فهذا الإسناد
ضعيف.
* ـ وأما حديث جابر بن عبد
الله فرواه ابن أبي شيبة [32735] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1356] والآجري [1518،
1519] من طريقين عن عبد الله بن محمد بن عَقيل عن جابر مرفوعا به. [عبد الله بن
محمد بن عقيل مدني ضعيف مات سنة 142]. فهذا الإسناد ضعيف.
* ـ خلاصة البحث:
حديث "من كنت مولاه
فعليٌّ مولاه" مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد كثيرة عن عدد من
الصحابة، ذكرتُ منها في هذا البحث أربعة أسانيد صحيحة، وإسنادا جيدا، وإسنادين ضعيفين،
فلا شك في أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه في درجة عالية من درجات
الصحة.
وفي ختام هذا المبحث أسأل
الله تعالى القبول، وأن يوفقنا لدراسة تاريخنا في ضوء المرويات الثابتة عن نبينا
صلى الله عليه وسلم.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد
الإدلبي في السادس من صفر 1446، الموافق 10/ 8/ 2024، والحمد لله رب العالمين.
***
الأربعاء، 7 يونيو 2023
ملخص عن حديث مقدار عمر السيدة عائشة رضي الله عنها وقت الزواج
روتْ عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وسنها ست سنوات وتزوجها وسنها تسع سنوات، وهذا
النص إذا نظرنا إليه من حيث الزوجةُ فهو رواية تاريخية في مقدار سنها يوم زواجها،
ولا يعْدو أن يكون شأنا من شؤون الأسرة، لكن إذا نظرنا إليه من حيث الزوجُ النبي
الأكرم خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فهو حديث من الأحاديث
الفعلية، وينبغي الاهتمام به لأنه إن ثبت أو لم يثبت فسيكون فيه مجال للدراسات
التي تستنبط وتستلهم الدروس والعبر من سيرة هذا الرسول العظيم، عليه أفضل الصلوات
وأتم التسليم.
تساؤل:
متى وُلدت أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها؟، وكم كان عمرها يوم العقد ويوم الزواج؟:
القول الأول الذي تشير إليه
القرائن التاريخية هو أنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، وتمَّ عقد زواجها
بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، أي بعد عشر سنوات من البعثة، وهذا قبل
الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين، وتمَّ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في
أواخر السنة الأولى بعد الهجرة، أي كان عمرها أربع عشرة سنة يوم العقد وثماني عشرة
سنة تقريبا يوم الزواج، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 75
عاما.
القول الثاني هو الذي قالته
عائشة رضي الله عنها، وهو القول المشهور، وهو أنها كانت بنت ست سنين يوم العقد
عليها وبنت تسع سنين يوم الزواج، أي إنها وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات،
وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 67 عاما.
* ـ القرائن التي تدل على أن
عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها:
1 ـ عائشة أصغر من أختها
أسماء رضي الله عنهما بعشر سنين، وقد وُلدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، أي
قبل البعثة النبوية بأربع عشرة سنة، وهذا يعني أن عائشة ولدت قبل البعثة النبوية بأربع
سنوات، وحيث إن العقد عليها كان قبل الهجرة بثلاث سنوات ـ أي بعد البعثة بعشر
سنوات ـ فهذا يعني أنها كانت وقت العقد في الرابعة عشرة من العمر.
2 ـ روى البخاري عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت: "لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ
ألعبُ {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ}".
ذكر عدد من المفسرين أن هذه الآية
نزلت قبل الهجرة بخمس سنين وبعد البعثة بثمان، والجارية في أصل معناها عند العرب: هي
الفـَتِـيَّة من النساء، أي الشابّة في أوائل شبابها.
إذا كانت عائشة رضي الله
عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمرها وقت نزول هذه
الآية أربع سنوات، وهذا بعيد عن أصل المعنى اللغوي لكلمة الجارية، وإذا كانت قد
وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمُرها وقت نزول هذه الآية كان ثنتي
عشرة سنة، وهذا هو المنسجم مع أصل معنى الجارية في اللغة.
3 ـ روى البخاري عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت: "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا
يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتـُلي
المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة، ...". الحديثَ.
وجه الدلالة من هذه الرواية
أمران:
أولهما أن الطفل لا يدرك في
العادة تديُّنَ والديه بدين مغاير لدين أكثر الناس مِن حوله قبل سن الرابعة على
الأقل، ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة وكان أول وعيها بما
حولها في السنة الثامنة بعد البعثة لكان قولها "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان
الدين" تحصيلَ حاصل غيرَ ذي فائدة، لأن أبا بكر معلومٌ سبْقه إلى الإسلام،
وأم رومان أسلمت بمكة قديما كذلك.
لكن إذا كانت قد وُلدت قبل
البعثة بأربع سنوات وكان أول وعيها بما حولها في السنة الأولى من البعثة فيكون
لهذا القول فائدة، هي أنها ـ أولَ ما بدأت تعي ما حولها ـ رأت والديها كليهما
يدينان بدين الإسلام، وليس والدَها فقط، وهذا يعني أن ولادتها كانت قبل البعثة
بنحو أربع سنوات.
وثانيهما أن قولها "فلما
ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة" معطوفًا على إدراكها
لأبويها وهما يدينان الدين فيه إشارة خفيفة إلى أنها كانت إذ ذاك واعية لهذا
الحدث، وخروجُ الصحابة من مكة للهجرة قِبَل الحبشة كان في أواسط السنة الخامسة من
البعثة، وهجرتهم الثانية إليها في أواخر الخامسة أو أوائل السادسة.
ولو كانت عائشة قد وُلدت في
السنة الرابعة من البعثة لما كان ممكنا لها أن تدرك ما حدث في أوائل السادسة، لكن
إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني إمكان إدراكها لذلك بوضوح.
4 ـ ذكر محمد بن إسحاق في
السيرة النبوية أسماء أوائل من أسلموا، وذكر منهم "أسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت
أبي بكر وهي صغيرة"، ونقله عن ابن إسحاق جماعةٌ من أهل العلم دون إنكار.
إذا كانت عائشة مذكورة مع
أوائل من أسلموا فهذا ينفي أنها وُلدت بعد البعثة بأربع سنين ويؤكد أنها قد وُلدت قبل
البعثة بأربع سنين على أقل تقدير.
5 ـ ذكرَ الطبري في كتاب التاريخ
أن أبا بكر رضي الله عنه تزوج زوجتيه في الجاهلية، وأن أولاده الأربعة ومنهم عائشة
وُلدوا في الجاهلية، أي وُلدوا قبل البعثة. وهذا نص تاريخي واضح صريح في أن عائشة
رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية.
6 ـ روت عائشة رضي الله عنها
أن خولة بنت حكيم عرضتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخطِب له بعد وفاة
السيدة خديجة رضي الله عنها إما عائشة وإما سَودة بنت زمعة.
من المستبعد جدا أن تفكر خولة
بخطبة مَن لها مِن العمر ست سنوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصبح بدون
زوجة بعد وفاة السيدة خديجة ليكون الزواج بعد ذلك بسنوات!. لكن إذا كانت بنتَ أربع
عشرة سنة فهذا معقول.
7 ـ قالت عائشة رضي الله
عنها في مسألة من المسائل: "ما عِلـْمُ أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، وإنما كانا غلامين صغيرين". تشير بذلك إلى
أنها هي أكثر منهما وعيا للأحداث لكونهما كانا صغيرين.
وُلد أبو سعيد الخدري وأنس
بن مالك قبل الهجرة بعشر سنين، فهي على القول المشهور أصغر من هذين الصحابيين
بسنة، فلا يستقيم إذا كانت أصغر منهما سنا أن تقول عنهما "إنما كانا غلامين
صغيرين".
لكنها ـ على القول الأول ـ هي
أكبر منهما بسبع سنوات، فهي أكثر منهما وعيا للأحداث، فمن المعقول أن تقول عنهما
بأنهما كانا غلامين صغيرين.
8 ـ روتْ عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم ناجى ابنته فاطمة رضي الله عنها في مرضه الذي قـُبض فيه بشيء، وأنها
قالت لفاطمة: "أيْ بُنية، أخبريني ماذا ناجاك أبوك؟". فما أخبرتْها بالذي
ناجاها به إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وُلدت فاطمة ـ على الأشهَر ـ
قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وإذا كانت عائشة
قد وُلدت بعد البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبر سنا منها بتسع سنوات أو
أربع سنوات على الأقل!، ومن المستغرب والمستبعد جدا أن تقول الصغيرة لمن هي أكبر
منها بمثل هذا القدر "أيْ بنية"، حتى لو كانت هي زوجةَ أبيها.
أما إذا كانت عائشة قد وُلدت
قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبرُ سنا منها بسنة أو أصغرُ منها بأربع
سنوات، فإذا كانت فاطمة أصغر من عائشة فليس من المستبعد أن تقول الكبيرة للصغيرة
"أي بنية"، وإذا كانت فاطمة أكبر بسنة فليس لهذا الفرق الضئيل تأثير
يمنع أن تقول الصغيرة للكبيرة "أي بنية" إذا كانت الصغيرة هي زوجةَ أبيها.
9 ـ كان مُطْعِم بن عَدِيّ قد
ذكر رغبته في خِطبة عائشة لولده جُبير وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، وظن بعض الناس
أن في هذا دلالة على أن عائشة كانت قبل أن يخطِبها النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة
مخطوبة للزواج!.
وهذا خطأ، لأنها لم تكن
مخطوبة بما تعنيه هذه الكلمة، والواقع هو أن المطعم بن عدي كان قد ذكرها مجرد ذكْر
وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، ومثل هذا كثيرا ما يقع بين الناس حتى وإن كانت المذكورة
ومن ذُكرتْ له طفلين صغيرين، وقد تكون بنتَ عام أو عامين.
سياق القصة يشير إلى أن
المطعم بن عدي وزوجته كانا متمسكين بالشرك ويكرهان الدخول في الإسلام، كما يكرهان
أن يتحول ابنهما إلى هذا الدين الجديد إذا تم زواجه بعائشة، ومن المعلوم ما كان
عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحرص الشديد على دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام،
فمن المستبعد إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع
سنوات أن يوافقَ أبو بكر على تزويج ابنته لمشرك.
فلم يبق سوى أنَّ ذِكْرَ المطعم
بن عدي لعائشة كي تكون مخطوبة لابنه وأخْذَ الوعد بذلك من أبي بكر إنما كان قبل
البعثة النبوية، وهذا يعني أن عائشة كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس
بعدها.
10 ـ كانت عائشة رضي الله عنها
تحمل القِرَب الثقال يوم غزوة أُحُد على ظهرها ثم تفرغها في أفواه الجرحى.
ومن المعلوم أن عائشة رضي
الله عنها كانت في صِغرها نحيفة لم تحمل اللحم، وكانت يوم غزوة أحُد على القول
المشهور ابنة أحد عشر عاما، وإذا كان الأمر كذلك فهي لا تقْوى غالبا على حمل قِرَب
الماء الثقال لتفرغها في أفواه الجرحى ثم ترجعَ فتملأها ماء وتعودَ بها من جديد،
وهذا يعني تضعيف القول المشهور في تحديد عمرها.
أما على القول الأول فقد كان
عمرها يوم أحُد تسعة عشر عاما، وهذا هو الأقرب للواقع.
* ـ كل واحدة من القرائن
المتقدمة لا تكفي بمفردها في الاستدلال على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل
البعثة النبوية بأربع سنين، لكن اجتماع تلك القرائن يشكل دليلا قويا على ذلك.
* ـ الدليل الذي استند إليه
القول المشهور في أن عائشة رضي الله عنها كانت يوم العقد عليها بنت ست سنين ويوم
الزواج بنت تسع سنين:
هذا المعنى رواه عدد من الرواة
عن عائشة رضي الله عنها في مصادر كثيرة من المصادر الحديثية والتاريخية، ومن تلك
المصادر الحديثية صحيح البخاري وصحيح مسلم، فهو ثابت عنها من حيث الإسناد.
والظاهر أنه ربما وقع لها
شيء من النسيان في أواخر العمر، لأن قولها هذا يعارضه عشرة من القرائن الدالة على
خلافه، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد
الإدلبي.
الثلاثاء، 25 أبريل 2023
التحذير من زلة العالم
روى الدارمي في السنن عن زياد بن حدير أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!». قلت: لا. قال: «يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين».
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الحارث بن عمير عن معاذ بن جبل أنه قال: «إياك وزلة العالم». قال: فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟. قال: «إن للحق نورا يُعرف به».
وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق وأبو داود في كتاب الزهد والحاكم في المستدرك واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم، روَوا التحذيرَ من زلة العالم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وتميم الداري وأبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهم.
علق ابن عبد البر رحمه الله على هذا بقوله: شبَّه العلماءُ زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وإذا ثبتَ وصحَّ أن العالم يخطئ ويزلُّ لم يجز لأحد أن يفتي بقول لا يعرف وجهه.
قلت: هذا في جانب، وكثيرٌ من أهل الدعاوى الفارغة لا يقبلون بحال من الأحوال أن يقال عن أحد من أهل العلم إنه أخطأ في بعض المسائل ولو كان القول مدعَّما بالدليل الواضح!، ويضعون العالم في مرتبة تشبه مرتبة العصمة!، ويظنون أنهم يدافعون بذلك عن الدين وعن مقام العلماء!.
في الواقع هم لا يدافعون بذلك عن الدين، ولا عن مقام أهل العلم، لو كانوا يعقلون.
الجمعة، 21 أبريل 2023
حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه"
هذا الحديث فيه ثلاثة أجزاء، الجزء الأول هو أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، والجزء
الثاني هو أنه قال لما خرج إلى أصحابه "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر
في صورة شيطان"، والجزء الثالث تتمة القول، وهو "فإذا أبصر أحدكم امرأة
فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".
كنت قد كتبت بحثا عن الجزء الثاني منه وهو حديث "المرأة تقبل في
صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، وهو غير ثابت، والجزء الثالث صحيح يأتي في
آخر هذا البحث بإذن الله، وهأنذا أكتب هذا البحث عن الجزء الأول منه.
* ـ رُوي الجزء الأول من هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وعبد
الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي كبشة الأنماري، ومن مرسل عبد الله بن حبيب وسالم بن
أبي الجعد:
* ـ فأما حديث جابر بن عبد الله فرواه مسلم [3388] وعبد بن حميد [1061،
وفي طبعة أخرى 1059] وأبو داود [2151] والترمذي [1158] والنسائي في الكبرى [9072] وأبو
عوانة في المستخرج على صحيح مسلم [4464] والطحاوي في مشكل الآثار [5550] وابن حبان
[5572] والطبراني في الكبير [132 من الجزء 24] وفي الأوسط [2385] وأبو نعيم في
المستخرج على صحيح مسلم [3242] والبيهقي [13889]، من ثلاثة طرق عن هشام بن أبي عبد
الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه.
ورواه مسلم [3389] وابن حنبل [14537] وأبو عوانة في المستخرج [4465] وأبو
نعيم في المستخرج [3243] وكذا في معرفة الصحابة [4544] والبيهقي في شعب الإيمان [5052]،
من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة عن حرب بن أبي العالية عن أبي
الزبير عن جابر مرفوعا به.
[أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس مكي وثقه عدد من الأئمة وليَّنه
آخرون، وأقوالهم مذكورة في كتب الجرح والتعديل، وأقتصرُ هنا على ما أراه مهما مما
سوى التوثيق: قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي واحتج عليه رجل بحديث عن أبي
الزبير فغضب وقال: «أبو الزبير يحتاج إلى دعامة». وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه فقال:
يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وسأل أبا زرعة عنه فقال: روى عنه الناس. قال: يُحتج
بحديثه؟!. قال: إنما يُحتج بحديث الثقات. وقال فيه الإمام النسائي: "كان شعبة
يسيء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ، فإذا قال سمعت جابرا فهو صحيح، وكان يدلس".
أي كان يدلس الإسناد.
[آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم: ص 169. الجرح والتعديل لابن
أبي حاتم: 8/ 76. السنن الكبرى للنسائي: 2/ 443، عند الحديث 2112. وفي طبعة أخرى
عند الحديث 2101].
فأبو الزبير في أحسن الأحوال صدوق ثقة فيه لين وربما دلس الإسناد، ولم
يصرح في تلك الطرق بما يدل على سماعه هذا الحديثَ من جابر، فالسند منقطع، فهو ضعيف.
ـ ربما يقف بعض الباحثين على أن ابن حنبل روى هذا الحديث في مسنده [14744]
وفيه تصريح أبي الزبير بقوله "أخبرني جابر" فيرى صحة إسناد الحديث!.
وهذا غير صحيح البتة، لأن نص الحديث هناك ليس فيه هذا الجزء المنكر،
وإنما الذي فيه هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ
فوقعتْ في نفسه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد من نفسه».
ـ هل أعلَّ حديثَ جابر أحد العلماء السابقين؟:
قال الإمام الترمذي بعد تخريجه الحديثَ: "حديثُ جابر حديث حسن صحيح
غريب". وكأنه يعني بذلك صحة السند ظاهرا وغرابة المتن.
وذكر الإمام الذهبي هذا الحديث مع حديثين آخرين في كتابه ميزان
الاعتدال [4/ 39] وقال: "في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو
الزبير السماع من جابر وهي من غير طريق الليث عنه ففي القلب منها شيء". وذكر
ذلك في سير أعلام النبلاء [5/ 385] وقال: "هذه غرائب، وهي في صحيح مسلم".
وإنما قال الذهبي "من غير طريق الليث عنه" لأن الليث بن
سعد كان قد سأل أبا الزبير أن يعْلم له على ما سمع من جابر فأعلم له على تلك
الروايات التي حملها عنه، واقتصر الليث عليها.
ـ هل أعلَّ الإمام النَسائي هذا الحديث؟:
روى الإمام النَسائي هذا الحديث في السنن الكبرى [9072] من طريق هشام
بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ورواه [9073] عن قتيبة بن سعيد عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير مرفوعا مرسلا،
وعلَّق على الرواية الثانية بقوله: "هذا كأنه أولى بالصواب من الذي قبله".
قد يقال إنه يشير بهذا إلى إعلال الحديث بالإرسال، لكنْ تقدَّم قريبا
في تخريج حديث جابر أن عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة روياه عن حرب
بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به، فروايتهما المتصلة هي أقوى من
رواية قتيبة بن سعيد عن حرب بالإرسال، فلا يتم الإعلال بالرواية المرسلة التي خولف
راويها برواية راويين يرويانها بالوصل.
* ـ وأما حديث ابن مسعود فرواه الدارمي [2261] والبيهقي في شعب
الإيمان [5053] عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلّام
عن عبد الله بن مسعود أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته،
فأتى سودةَ وهي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته. [قبيصة بن عقبة كوفي
صدوق ثقة إلا في روايته عن سفيان الثوري، فهو كثير الغلط عنه لأنه سمع منه وهو
صغير. أبو إسحاق السَبيعي قال فيه ابن حجر: ثقة مكثر اختلط بآخره]. فهذا إسناد
ضعيف.
وهذا الحديث مما تبين فيه وجه الخطأ، فهو معلول بالوقف وبالمخالفة في
اللفظ، إذ رواه قبيصة مرفوعا بهذا اللفظ ورواه اثنان من الثقات عن سفيان موقوفا
وبلفظ مغاير، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة [17486] عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عن
سفيان به موقوفا على عبد الله بن مسعود أنه قال: "من رأى منكم امرأة فأعجبته
فليواقع أهله، فإن معهن مثل الذي معهن". فازداد هذا الحديث بذلك وهنا على
وهن.
وروى يحيى بن سعيد القطان وأبو نعيم الفضل بن دكين عن سفيان هذا
الحديث بمثل رواية وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عنه، كما ذكره البيهقي في شعب الإيمان
[5053]، وأشار البيهقي كذلك إلى أن إسرائيل بن يونس روى الحديث عن جده أبي إسحاق
بمثل رواية قبيصة، لكن إسرائيل لم يتوقف عن السماع من جده بعد اختلاطه، فيُخشى أن
تكون مما سمعها منه بعد الاختلاط.
* ـ وأما حديث أنس فرواه الطبراني في مسند الشاميين [2573] من طريق سعيد
بن بشير عن قتادة عن أنس مرفوعا به نحوه. [سعيد بن بشير الأزدي البصري الشامي ضعيف
مات سنة 169]. فالسند ضعيف.
* ـ وأما حديث أبي كبشة فرواه ابن حنبل [18028] والطبراني في المعجم
الكبير [848 من الجزء 22] وفي المعجم الأوسط [3251] وفي مسند الشاميين [2047]، من
ثلاثة طرق عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحَرازي عن أبي كبشة الأنماري أنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل،
فقلنا: يا رسول الله، قد كان شيء؟!. قال: "أجلْ، مرتْ بي"، فلانة، "فوقع
في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل
أعمالكم إتيان الحلال". ورواه عبدُ الملك بن حبيب في كتاب أدب النساء [86] عن
معاوية بن صالح به.
[معاوية بن صالح وثقه عدد من الأئمة، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه،
وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. أزهر الحَرازي
كان ناصبيا يسب عليا رضي الله عنه، وثقه العجلي ومحمد بن وضاح، وذكره ابن حبان
وابن خلفون في الثقات، وهؤلاء من المتساهلين في التوثيق، وقال أبو الفتح الأزدي:
يتكلمون فيه. وذكره ابن الجارود في كتاب الضعفاء]. فهذا إسناد ضعيف.
* ـ وأما مرسل عبد الله بن حبيب فرواه ابن أبي شيبة [17484] عن وكيع
بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي حَصين عن عبد الله بن حبيب مرفوعا مرسلا به
نحوه. وعنده "فرجع إلى أم سلمة وعندها نسوة يَدُفْنَ طيبا". [أبو حَصين عثمان
بن عاصم كوفي ثقة ربما دلس الإسناد مات سنة 128. عبد الله بن حبيب كوفي تابعي ثقة
مات سنة 72 تقريبا]. داف الطيبَ يدُوفه دَوفا: خلطه.
ورواه ابن أبي شيبة [17485] عن عبد الرحيم بن سليمان عن سفيان الثوري
عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حبيب به مرفوعا مرسلا كذلك. والظاهر أن عبد الرحيم بن
سليمان وهم في تسمية شيخ سفيان هنا، فجعله عن أبي إسحاق بدلا من أن يكون عن أبي حَصين،
وعبد الرحيم بن سليمان ثقة فيه لين ووكيع ثقة متقن. والحديث على كلا الحالين مرسل،
والمرسل ضعيف.
* ـ وأما مرسل سالم بن أبي الجعد فرواه ابن أبي شيبة [17487] عنه
مرفوعا به نحوه. [سالم بن أبي الجعد تابعي ثقة]. وهذا حديث مرسل، والمرسل ضعيف.
* ـ درجة الحديث:
أسانيده ضعيفة، ولا يرتقي باجتماع هذه الطرق لمرتبة الحسن لما فيه من
الغرابة التي هي الشذوذ، فقد اختل فيه الشرط الثالث من شروط الحديث الحسن التي نص
عليها الإمام الترمذي رحمه الله، فهو ضعيف.
* ـ أصل هذا الحديث:
روى مسلم [3390] وأبو نعيم في المستخرج [3244] من طريق معقل بن عبيد
الله الجزري، وابنُ حنبل [14672، 14744] من طريق عبد الله بن لهيعة، وابنُ حبان [5573]
من طريق ابن جريج، ثلاثتهم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في قلبه فليعمِدْ
إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد ما في نفسه".
الظاهر أن هذه الرواية هي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن
راويا ما ركَّب عليها الرواية الضعيفة التي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى امرأة فأتى امرأته، وأن تلك الرواية تسربت بعد ذلك إلى الرواة الضعفاء
فتناقلوها وروَوها عن عدد من الصحابة، وأن أبا الزبير سمعها من واحد منهم يرويها
عن جابر فرواها عنه، وهو معروف بتدليس الإسناد، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 13/ 4/ 1437، الموافق 23/ 1/ 2016،
سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.