بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الميامين
ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعُنَّ سنن مَن قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟!. قال: «فمَن؟!». [رواه البخاري ومسلم].
هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة المحمدية سيأتي عليها زمان يحيد فيه غالبها عن الصراط المستقيم، ويستهويهم ما عند اليهود والنصارى الذين حرَّفوا وبدَّلوا، والمراد من الخبر التحذير من التشبه بهم والوقوع فيما وقعوا فيه.
ـ قال أحد مشايخ الحنابلة رحمه الله:
"إذا دعاك الذمي لوليمة العرس فالمذهب أنه يُكره، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أنهم يُجابون ولا تُكره إجابتهم، وهذا في إجابتهم إلى الأمور العادية، كالزواج والقدوم من سفر وما أشبه ذلك، أما الإجابة إلى الشعائر الدينية فإنها حرام". وهذا صحيح لا إشكال فيه، وجزاه الله خيرا.
ـ ثم قال بعد ذلك: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
أقول:
هذا القول فيه كلمة صحيحة هي قوله "والرضا بالكفر كفر"، وما عداها هو غير صحيح، فلا يمكن أن يكون مقبولا، وإلا فأين الدليل الشرعي على أن التهنئة بالأعياد حرام مطلقا؟!.
ـ قف وتأمل:
لعلك تتساءل أيها الأخ الكريم: هل يجوز للمسلم أن يشيِّع جنازةَ أحد من غير المسلمين؟!، أو أن يعود مرضاهم؟!، أو أن يعزي أحدا منهم بموت قريبه؟!، أو أن يهنئه بزواج أو مولود أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه؟!، أو إنك ترى هذا من المحرمات القطعية في الدين؟!.
الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظهَرُ منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء.
بعض الناس يتراءى لهم إذا قلتَ بجواز تهنئة غير المسلم برأس السنة مثلا أن هذا يشمل الكافر الذي يجاهر بالعِداء والسب والشتم لدين الإسلام وما يتصل به!، وهذا التصور غير صحيح البتة، لأن الكلام في عرف الاستعمال ينصرف إلى الحالة المعهودة في سياقه، لا إلى ما يضادُّها.
قال الله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}، فهل هذه الآية الكريمة تشمل من يحمل السلاح عليك أو على جارك ويستبيح الدماء وينتهك الأعراض وأنت تؤويه وتكرمه وتبلغه مأمنه؟!.
لا يغيب عن بال كل ذي لب أن هذا ليس هو المقصودَ من الآية الكريمة.
الذي يقتل المسلمين وينتهك الحرمات هل يجوز أن تقابله بالتهنئة؟!، هذا لا يقوله ولا يتصوره عاقل، والواضح من السياق أنك تهنئ جارك أو زميلك في العمل أو مَن بينك وبينه صلة تعارف ولم تجد منه ما يسيئ إليك ولا إلى دينك من باب أولى، وهذا بغض النظر عما يعتقد.
ـ قد يكون لك أيها الأخ الكريم جار من غير المسلمين ورأيتَ يوما سيارة الإسعاف جاءت وحملتْه إلى المستشفى، ولا بد من أن تتساءل هل أعوده؟.
وربما علمتَ بوفاة والده أو والدته، وتتساءل هنا هل أعزيه؟، وهل أشاركُ في تشييع الجنازة دون الصلاة عليها؟.
وربما وُلد له مولود أو كانت عنده مناسبة مفرحة فهل أهنئه بولادة المولود وأبلّغه بأنني أتمنى له الفرحة والسعادة؟.
وقبل الجواب، فهل الحكم واحد في حالات عيادة المريض والتعزية بفقد عزيز والتهنئة بمناسبة مفرحة؟، لأننا قد نقف على قول أحد أئمة الفقه في إحدى هذه الحالات، فإذا كانت كلها من بابة واحدة فهذا يفيدنا في أن الحكم ينسحب على تلك الحالات كلها.
يجيبنا على هذا السؤالِ الفقيهُ الحنبلي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 رحمه الله فيقول: "تهنئتهم...، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينها".
ـ إذا وقعتْ نازلة وسُئلنا عن الحكم الشرعي فيها فمِن غير المقبول شرعا التسرعُ في إطلاق القول فيها بإباحةٍ أو تحريم أو غيرِ ذلك دون الاستناد لدليل شرعي، وإذا قال فيها قائل فلا بد من المطالبة بالدليل. فتأملوا معي أيها الإخوة الكرام:
* ـ روى الإمام البخاري في كتاب التاريخ الأوسط وعبد الرزاق بن همَّام الصنعاني في مصنفه والبلاذري في أنساب الأشراف من طرق عن سفيان الثوري أنه قال: حدثنا حماد ـ هو ابن أبي سليمان ـ عن الشعبي أن الحارث بن أبي ربيعة رحمه الله ماتت أمه نصرانية، فشيَّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. [الإسناد هنا لا بأس به].
والذين شاركوا في تشييع تلك الجنازة لا يغيب عنهم ما في عقائد النصارى من شركيات، لكن ربما تكون مواساةُ أهل الميت والحاضرين تشييعَه ممن هم على دينه خطوةً في مد جسر التواصل والدعوة إلى الإسلام.
وروى عبد الرزاق في مصنفه [19217] عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أنه قال: قال عطاء: «إن كان بين مسلم وكافر قرابة قريبة فليعدْه». وقال عمرو بن دينار: «ليعدْه وإن لم تكن بينهما قرابة».
وروى عبد الرزاق [19218] عن ابن جريج أنه قال: سمعت سليمان بن موسى يقول: «نعودهم وإن لم تكن بيننا وبينهم قرابة». [عمرو بن دينار وسليمان بن موسى هما من التابعين].
* ـ نصَّ الإمامُ الشافعي رحمه الله على جواز تعزية النصراني، فقد قال إسماعيل بن يحيى المُزَني تلميذ الشافعي وراوية كتبه: قال الشافعي: "أحبُّ تعزية أهل الميت رجاء الأجر بتعزيتهم، ويعزي المسلمَ بموت أبيه النصراني فيقول أعظم الله أجرك وأخلف عليك، ويقول في تعزية النصراني بقرابته أخلف الله عليك ولا نقص عددَك". وجرى على ذلك فقهاء الشافعية من بعد إمامهم.
الإمام الشافعي هو من أكبر شيوخ الإمام أحمد، وكان أحمد يخصه بالدعاء بعد كل صلاة، وكان الشافعي إماما في الفقه وأصول الفقه وفي العقائد.
* ـ سئل الإمام أبو عبد الله أحمد ابن حنبل رحمه الله مراتٍ عن عيادة المريض من أهل الذمة، وروى عنه ثمانية من تلاميذه جواباته في هذه المسألة، وكان الجواب في ثلاث روايات منها بالجواز، وقال في رواية: "إذا كان يرجوه فلا بأس به". وفي رواية: "إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام". وفي رواية: "إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل منه فلْيَعُدْه". وفي رواية أخرى: "يجيء فيقوم على الباب ويعتذر إليه". أي يكون واقفا عند الباب ويقول له كلمات تخفف عنه ما هو فيه ويعتذر إليه عن الجلوس، وانفردت رواية واحدة بجواب مختلف، وهذا نصها: سُئل أبو عبد الله عن الرجل يعود شريكا له يهوديا أو نصرانيا؟، فقال: "لا ولا كرامة". [أحكام أهل الملل للخلال: 597 ـ 604]. وقوله في إحدى الروايات "إذا كان يرجوه فلا بأس به" أي إذا كان يرجو إسلامه، والله أعلم.
ولا بد من ملاحظة أن الإمام أحمد رحمه الله قال في رواية المنع من ذلك "لا ولا كرامة"، ولم يصرح بالتحريم أو عدم الجواز، وقد فهم منها القاضي أبو يعلى رحمه الله الكراهة، لا التحريم، كما سيأتي.
ـ الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله يجيب في مسألة عيادة الذمي اليهودي أو النصراني سبع مرات بالجواز المطلق أو المقيد ومرة واحدة بالنهي!، فكيف نقل علماء الحنابلة أقوال الإمام أحمد من خلال الروايات المنقولة عنه؟، أو من خلال ما وقفوا عليه منها؟، وهل كانت نقولهم عنه معبرة عن أقواله بدقة؟:
ـ منهم من نقل أربعة أقوال أو ثلاثة:
قال المرداوي المتوفى سنة 885 في كتابه الإنصاف: "في تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان، إحداهما يحْرُم، وهو المذهب، والرواية الثانية لا يحرم، فيُكره، وذكِر رواية بعدم الكراهة، فيُباح، وعنه يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه". [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/ 234].
وقال ابن مفلح المتوفى سنة 763 في مبحث أحكام أهل الذمة: "تحرم العيادةُ والتهنئة والتعزية لهم، وعنه يجوز، وعنه لمصلحة راجحة، كرجاء إسلام". [الفروع في الفقه الحنبلي لابن مفلح: 10/ 334].
ـ ومنهم من نقلوا قولين:
ذكر القاضي أبو يعلى المتوفى سنة 458 رحمه الله في مسألة عيادة اليهودي والنصراني قولين مما نقله تلاميذ الإمام أحمد عنه إذ قال: [نقلَ جعفر بن محمد ـ أي عن الإمام أحمد ـ كراهية ذلك وقال: "لا ولا كرامة". ونقل أبو منصور الأصبهاني جواز ذلك]. [المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى: 1/ 199].
وقال الكَلْوَذاني المتوفى سنة 510: "لا يجوز تهنئتهم ولا تعزيتهم في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى: تجوز". [الهداية في الفقه الحنبلي للكَلْوَذاني: ص 225].
وقال موفق الدين ابن قدامة المتوفى سنة 620: "توقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة، وهي تُخَرَّج على عيادتهم، وفيها روايتان، إحداهما: لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم، وهذا في معناه، والثانية: نعودهم". [المغني في الفقه الحنبلي للموفق ابن قدامة: 3/ 486].
وقال الحجاوي المتوفى سنة 968: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وعنه تجوز العيادة إن رُجي إسلامه". [الإقناع: 2/ 49].
ـ ومنهم من نقلوا القول بالتحريم واقتصروا عليه:
قال سراج الدين الدجيلي المتوفى سنة 732: "لا تجوز التهنئة والعيادة والتعزية لهم". وقال ابن النجار المتوفى سنة 972: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم". وكذا يقول مرعي الكرمي المتوفى سنة 1033 ومنصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051 وابن بلبان الدمشقي المتوفى سنة 1083. [الوجيز: ص 167. منتهى الإرادات: 2/ 244. دليل الطالب: ص 122. الروض المرْبع: ص 301. مختصر الإفادات: ص 351].
هكذا عند هؤلاء المتأخرين كأن المسألة ليس فيها سوى قول واحد، والقول الواحد الذي رُوي عن إمام المذهب بالنهي فسره أكثرهم بالتحريم أو عدم الجواز وقدموه على غيره، أما الروايات السبعة التي تصرح بجواز عيادتهم أو تشير لذلك إشارة واضحة فتُنُوسيت وذهبتْ أدراج الرياح.
أين فقهاء الحنابلة من إمام المذهب؟!!، بينه وبينهم بَون شاسع.
ـ يتبين لكم أيها الإخوة الكرام بعد هذا العرض الفرقُ الكبير بين ما قاله الإمام أحمد رحمه الله في الروايات التي أسندها عنه تلميذ تلاميذه أبو بكر الخلال وبين ما نقله عنه مشايخ الحنابلة على مر العصور، فأوائلهم ذكروا من الأقوال المخرَّجة الثمانية قولين أو ثلاثة أو أربعة، وبعض متأخريهم اقتصروا على قولين، واقتصر بعضهم على قولٍ واحد منها، وفسروه بالتحريم، إذ تمسكوا بكلمة صدرتْ منه مرة واحدة وأعرضوا تمام الإعراض عما قاله في المرات الأخرى وجعلوها هباء منثورًا!.
* ـ أما في مسألة التعزية فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة فقال: "ما أدري". وسئل مرة أخرى عن تعزية النصراني فقال: "لا أدري، لمَ يعزيه؟!". [أحكام أهل الملل للخلال: 636 ـ 637]. وقارن هذا بما نقله المتأخرون من الحنابلة، كما تقدم قريبا.
* ـ هل كلام الإمام الشافعي والشافعيين والإمام أحمد في معظم إجاباته والآخذين بها من الحنابلة مؤيد بالأدلة؟:
قال الله جل وعلا {اليوم أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، وهو القائل جل شأنه {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}، فلا بد أن تنشأ بين الرجل وزوجته الكتابية القائمة بحسن الرعاية وُصْلة، والمودة الجائزة هنا هي تلك الصلة الناشئة عن العلاقة الزوجية التي لا تمس العقيدة في شيء من شؤون الحياة، وهذا غير ما هي عليه في خاصة نفسها مما ليس له تأثير على حياة الأسرة وتصوراتها وسلوكها وسائر مناحي حياتها.
وهذه المودة هي غير المودة النابعة من ميل القلب إلى ما هم عليه من العقائد الكفرية الباطلة، إذ تلك من المكفرات، فالواجب الحذر.
ـ لا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذا التشريع هو من أعظم دواعي التواصل ليتعرف أهل الكتاب على الإسلام، ليس من خلال المعرفة النظرية العلمية فقط، بل من خلال التعامل العملي، ومنه صلة المصاهرة، وهي ستؤدي ـ دون شك ـ إلى شيء من البر والإحسان لأهل تلك الزوجة الذين هم أخوال الأولاد وأقرباؤهم من جهة الأم.
هل يُتوقع أنه لا يكون فيها دعوة على طعام؟! ولا دعاء بالصحة والعافية والهناءة والسرور؟!، والمؤمن الصادق يدعو لكل الناس بذلك صادقا من قلبه، والفرق بينه وبين غيره أن الآخَرين إذا دعَا الواحد منهم دعَا بما يفكر هو فيه من تصوره القاصر، أما المؤمن إذا دعا فإنه يدعو بمثل تلك الكلمات بمعناها الواسع الذي يشمل سعادة الدنيا والآخرة.
ـ هل ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت اليهودي الشاب المريض لعيادته في بيت والده؟، نعم، وهذا في صحيح البخاري.
هل دعا له بالشفاء؟، لا أدري، لأني لم أجد ذلك فيما وقفت عليه من روايات الحديث، لكن عدمُ ذكْر أي جزئية في الرواية لا يعني أنها لم تكن في الواقع، لأن الذي يُذكر في الرواية هو ما شدَّ انتباهَ الراوي لينقله لنا فيها.
والمذكور فيها هو أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، فنظر ذلك الشاب المريض إلى أبيه وهو عنده، فقال له والده: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار».
هل في عقائد أهل الكتاب شركيات؟، الجواب: نعم.
هل في هذا الحديث دلالة على جواز عيادة المريض المشرك؟، الجواب: نعم، وخاصة إذا كانت بقصد إيصال رسالة فيها دعوة للإيمان، أو بقصد مد جسور التواصل لإيصال رسالة إيمانية ولو في وقت لاحق.
ـ يظن بعض الناس أن المسلم الصالح هو من إذا رأى غير المسلم عَبَسَ، لا لشيء إلا لأن الذي أمامه من الكافرين!، هل هذا هو المطلوب من المسلم؟!، وهل هناك فرق بين غير المسلم المُعادي وغير المسلم المسالم؟!.
إذا كان ذلك هو المطلوب فلمَ قال الله عز وجل {وقولوا للناس حسنا}؟، ولمَ لم يكن الخطاب وقولوا للمسلمين حسنا؟!، ولو كان هذا هو الأصلَ فكيف تدعو أيها المسلم غير المسلمين إلى دين الإسلام؟!، وكيف تتوقع أن يستجيب مَن تدعوه لهذه الدعوة؟!.
إن ما يحرك جذوة الإيمان في القلوب هو تقديم البر والإحسان، ثم أن تكون أيها الداعي إلى دين الحق بشوشا حريصا من كل قلبك على قبول المدعوين لدعوتك متشوقا بكل ذراتك إلى دلالة الغافلين على سلوك طريق الهداية.
ـ قال الله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
القسط هو العدل، وهو نقيض الظلم، وأما البِر فهو شيء آخر فوق ذلك، قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: "بر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما".
* ـ أيها الأخ الكريم الذي تقول بتحريم تهنئة غير المسلم برأس السنة:
الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظْهَر منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء.
هل عندك دليل شرعي على تحريم تهنئة مثل هذا أو تعزيته أو عيادة مريضه من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح؟!.
إذا كان لديك دليل شرعي فأبرزه حتى تقطع الاختلاف بالدليل.
ـ إذا لم تجد دليلا شرعيا وأنت تقلد أحدا تراه عالما أو من طلاب العلم فاعملْ بفتواه في خاصة نفسك إذا غلب على ظنك رجحانُ قوله وأنت من أهل الترجيح، وإياك من الوقوع في المحذور، وهو أن تفتي في دين الله عز وجل أو تزكي قولا أو ترد قولا أو ترجح قولا على قول بدون حجة شرعية.
قال ابن تيمية رحمه الله: "مَن صار إلى قولٍ مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخَر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرتْ". [مجموع الفتاوى: 35/ 233. دقائق التفسير: 2/ 24].
وقال ابن تيمية كذلك: "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعْل أهل الجهل والأهواء". [مجموع الفتاوى: 35/ 212 ـ 213. دقائق التفسير: 2/ 13].
ـ أيها الإخوة الكرام:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يوم نجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: «فأنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه.
هل أعرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل اليهود وابتهاجهم بذكرى اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل وعن اتخاذِه عيدا؟!، وهذا عيد ديني مشتمل على الفرح بنجاة نبي رسول من أولي العزم؟!، لا، بل قال «أنا أحق بموسى منكم»، فصامه وأمر بصيامه.
هذا هو الهدي النبوي لمن يريد الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ التهنئة برأس السنة الميلادية:
رأس السنة الميلادية هو عند النصارى بداية السنة الجديدة، وكثيرا ما يخلطونه بذكرى ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، وهم يرون أن ولادته كانت قبل رأس السنة بأسبوع أو بعدها بأسبوع، على خلاف بينهم في ذلك، فإذا رجوتَ للنصراني الخير في السنة القادمة دون إشارة إلى ميلاد السيد المسيح عليه السلام فهذا أمر بعيد عن موضوع الدين.
أكثر النصارى اليوم ليسوا مؤمنين بالله تعالى أصلا، ويجمعون في احتفالهم بين رأس السنة وذكرى ولادة المسيح عليه السلام الذي هو عندهم مجرد رمز احتفالي، ولذا فليس في اعتقادهم أنه الله ولا ابن الله.
المتدينون المتمسكون منهم بدينهم قليلون، وهم غارقون في الضلال والشركيات، وكثيرون منهم يعتقدون أن المسيح ابن الله!، تعالى ربنا جل وعلا عن أن يكون له ولد.
الذي يهنئهم برأس السنة وبولادة سيدنا عيسى عليه السلام دون أي إشارة إلى ما في عقائدهم من ضلال لا يكون عمله هذا كفرا، لكن من الحكمة أن تكون التهنئة برأس السنة وبولادة نبي الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام مصرَّحا فيها بنبوته.
لا بد من التأكيد على هذه الكلمة، التي هي أن سيدنا عيسى عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، فعسى أن يجعلها ربنا تبارك وتعالى ومْضة في عقل عبد من عباده تنقذه من الضلال وتفتح عقله وقلبه إلى الدين الحق. وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "لأنْ يهديَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَعَم».
ـ بعض النصارى اليوم إذا هنَّأتَه بذكرى ولادة نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام قد يقول لك لا تهنئني بهذا ولا أريد تهنئتك.
لا بأس، فهو ومَن على شاكلته قد يردون التهنئة، لكن كثيرا من النصارى يتقبلونها بقبول حسن ولها أثر طيب في نفوسهم، فازرع الكلمة الطيبة، ولا تدري متى يظهر نباتها.
عجيبة من العجائب:
ـ من العجائب أن يقول أحد المشايخ: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
أقول:
بدأ الشيخ كلامه هنا بالحديث عن "التهنئة بالأعياد" بالإطلاق، وانتقل بعده إلى التهنئة بأعياد الكفر!، وأعطى للنوع الأول الحكم بالتحريم وأن الإنسان ربما لا يسْلم من الكفر!، هكذا دون الاستناد إلى دليل شرعي!، ثم انتقل إلى ما يريد أن يستدل به على مقولته، فقال: "لأنَّ تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر".
وهذا خلط عجيب بين التهنئة بالأعياد بإطلاق وبين التهنئة بأعياد الكفر!!.
لا شك في أن التهنئة بأعياد الكفر أقل ما فيها هي أنها حرام، لكن لا يلزم من التهنئة بعيد كفري أن يكون المرء قد فعل ذلك رضًا بالكفر، ولا شك في أن الرضا بالكفر كفر، ولذا فإنها إذا كانت مع الرضا القلبي بالكفر فهي كفر، وإلا فلا.
ألا ترى أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان قد كتب إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وهذا عظيمة من العظائم زلتْ فيها قدم حاطب، ولما عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله، لا تعجَلْ علي، وما فعلتُ ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صَدَقَكم». وقال لعمر: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهذا دليل واضح لكل مستبصر على أن العمل الكفري قد يقع فيه المرء من باب الزلل دون أن يكون راضيا الرضا القلبيَّ بفعله، فيكونُ مَن باشر العمل الكفري وقلبه منكِرٌ غير راضٍ قد ارتكب حراما، وهذا يجب عليه أن يتوب منه توبة صادقة، ولا يصح إطلاق القول بكفر فاعل ذلك، بل الواجب هو أن يُقال إنه إذا فعل ذلك مع الرضا القلبي بما أقدم عليه من الفعل الكفري فقد كفر، وإلا فلا.
ـ ما معنى أن يقول الباحث في العلة التي استند إليها في تحريم التهنئة بالأعياد بإطلاق "لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها والرضا بالكفر كفر"!!، والكلام الذي بدأ به هو التهنئة بالأعياد وليس بأعياد الكفر!، وما الذي قلب موضوع البحث من شيء إلى شيء مختلف تمام الاختلاف؟!!.
هل هو الرغبة في الحكم على الناس بالكفر دون دليل شرعي؟!.
ربما تكون زلة زل بها القلم، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وكلنا من بني آدم، فأسأل اللهَ تعالى المغفرة لنا جميعا.
{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}.
ـ عتْبي هو على الذين يقلدون تقليد العُميان ولا يسألون عن الدليل، ويوزعون بعد ذلك الاتهامات على الناس!.
ألا فاتقوا الله يا أولي الألباب، فالناقد بصير، والحساب عسير، والتهنئة بالأعياد شيء، والتهنئة بأعياد الكفر شيء آخر.
ـ قد يقول قائل: الاحتفال برأس السنة هو شيء باطل، ولو فعله المسلمون برأس السنة الهجرية لما جاز تهنئتهم به، لأنه عيد مبتدَع!.
أقول:
أيها الأخ الكريم: إذا كان عندك دليل من كتاب الله عز وجل أو من الحديث النبوي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الصحيح أو القياس الجليِّ فهاته، وهو على الرأس والعين، وإلا فجدد البحث عن الدليل. وأنصح بقراءة كُتَيِّب عنوانه "البدعة المحمودة بين شبهات المانعين وأدلة المجيزين".
ـ قد يقول قائل: إذا كان الشرع قد نهانا حتى عن ابتدائهم بالسلام فكيف يجيز لنا تهنئتهم بما يسرهم؟!.
أقول:
هل نهانا الشرع عن ابتدائهم بالسلام مطلقا؟!، وهل هذا ما كان عليه السلف؟!. أرجو أن تحقق المسألة أولا ثم نتابع الحوار.
ـ وقد يقول قائل: التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة وهي منهي عنها بأكثر من نص في القرآن قطعي الدلالة مُجْمَعٍ عليه.
أقول:
ليست كل تهنئة بأمر ما داخلةً في باب المودة والمحبة، فقد تكون لغرض سوى هذا، ومن ذلك أن تكون من باب المقابلة بالمثل، فالجار الذي ليس بمسلم إذا عرَف متى رأس السنة الهجرية وقال أتمنى لك سنة طيبة وقابلتَه بمثل ذلك في رأس سنته فهل هذا يعني المودة والمحبة؟!، قد يكون كذلك وقد لا يكون، فتنبه للفرق.
فمِن أين لك أن تجزم بأن "التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة" هكذا بإطلاق؟!.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال «ائذنوا له فبئس أخو العشيرة»، فلما دخل ألان له الكلام، قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ ثم ألنتَ له في القول؟!. فقال: «أيْ عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من وَدَعَه الناس اتقاء فحشه». أي تركه الناس اتقاء فحشه.
الذي لا يجيد معرفة تصاريف الكلام ويسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يلينُ القول لذاك الذي دخل عليه يظن أنه يكنُّ له المودة والمحبة، لكنه إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه «بئس أخو العشيرة» فإذ ذاك يعلم أنه ليست كل ملاينة في القول تعني المحبة والمودة.
وقال البخاري: يُذكر عن أبي الدرداء «إنا لنَكْشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم». الكشْر: ظهور الأسنان عند التبسم. وهذا إسناده ضعيف، لكن لا بأس بالاستشهاد به في أمر ثبت أصلُه.
ـ أقول في ختام هذه الفقرات:
تهنئة النصارى الذين يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام إن كانوا يظهرون أنهم يحتفلون بميلاد المسيح الذي هو ابن الله مثلا فلا شك في عدم جواز التهنئة هنا، لإعلانهم عقيدة كفرية، إلا إذا كانت التهنئة مقترنة بالتصحيح والبيان، وأما مَن لا يظهر شيئا من العقائد الباطلة وكانت التهنئة بذكرى ولادة المسيح عليه السلام مقرونة بالإشارة إلى نبوته فهذه جائزة ومستحبة. والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 14/ 7/ 1444، الموافق 5/ 2/ 2023، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.