الاثنين، 10 يونيو 2019

علم الكلام في حوار ھادئ



علم الكلام - في حوار 




علم الكلام في حوار هادئ
2

ـ قال الفقيه الحنبلي شمس الدين محمد بن مفلح المتوفى سنة 763 في كتاب الفروع وعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي المتوفى سنة 885 في كتاب الإنصاف: قال ابن الجوزي إما من عنده أو حكاية عن الشافعي ولم يخالفه: "لو أن رجلا وصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية، لأنه ليس من العلم". وذكر نحوَه برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح المتوفى سنة 884 في المبدع شرح المقنع ولم يعزه لأحد من أهل العلم.
ـ قال الفقيه الحنفي ابن نجيم في كتابه البحر الرائق: "في الخانية: وعن بعض أهل الفضل: رجل أوصى بأن تُباع كتبه ما كان خارجا من العلم وتُوقَف كتب العلم، ففُتش كتبه، فكان فيها كتب الكلام، فكتبوا إلى أبي القاسم الصفار، فكتب أن كتب الكلام تُباع، لأنها خارجة عن العلم".
ـ قال زين الدين ابن نجيم في البحر الرائق: "في الخلاصة عن الحلواني: يُمنع عن الصلاة خلف من يخوض في علم الكلام ويناظر صاحب الأهواء. وحمَله في المجتبى على من يريد بالمناظرة أن يزل صاحبه".
ـ قال محمد بن أبي بكر المرعشي الشهير بساجقلي زاده المتوفى سنة 1145 رحمه الله في كتابه ترتيب العلوم: "مِن المؤلفات في بعض مسائل الكلام: رسالة إثبات الواجب للدواني، ولها شرح وحاشية على الشرح يشتغل بمدارستها بعض الطلبة مقدار سنة، ومضمونها مسألة واحدة، هي أن للعالم إلها واجب الوجود، مع أدلة طويلة واهية، ومجادلات كثيرة لا ينتج عن الاشتغال بها إلا توهين العقيدة وإيراد الوساوس المهلكة، ومن شك في الله سبحانه فهيهات له اليقين من تلك الرسالة، بل الاشتغال بها يورث شكا لأرباب اليقين ويزيد شكا للشاكِّين". وقال: "كما هجر الغزاليُّ الكلام كذلك هجرتُه وتبرأت وتبت منه إلى الله تعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وأسأل الله أنْ لا يحشرني يوم القيامة مع المتكلمين، وهذا القول مني بعد اشتغالي بالكلام وتأليفي فيه نشر الطوالع، والآن أتمنى أن أجمع نسخه المنتشرة وأحرقها بالنار لئلا يبقى مني أثر في الكلام، لكني لا أقدر على ذلك". ثم قال: "قال صلاح الدين في حاشية شرح العقائد: الاشتغال بتفاصيل علم الكلام يقسي القلب، ولذا نرى أكثر طلبته تاركي الصلاة ومرتكبي الكبائر ومضيعي العمر فيما لا يعنيهم". وعقب على هذا بقوله: "أما قسوة القلب فقد وجدناها بلا شك عند الاشتغال بها، فنسأل الله أن يقيلنا عثراتنا". ونقل عن شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري أنه قال: "إن أدلة المتكلمين لا تشفى عليلا ولا تروي غليلا، فمآلها إلى الحيرة". كتبت هذه النبذة في 22/ 9/ 1440.
صلاح الدين المشار إليه هو صاحب حاشية على شرح سعد الدين التفتازاني على العقائد النسفية، وهو معلم السلطان بايزيد بن محمد خان. كذا في كشف الظنون.

* ـ قد يقول قائل: هل يوجد فرق بين علم الكلام وعلم الكلام الإسلامي؟.
أقول: أصل علم الكلام هو مما تكلم به غير المسلمين قبل الإسلام، وبينه وبين الفلسفة تداخل، فقد قال الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين: "الفلسفة ليست علما برأسها، بل هي أربعة أجزاء، أحدها الهندسة والحساب، الثاني المنطق، وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجهِ الحد وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام، الثالث الإلهيات، وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو داخل في الكلام أيضا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة، والرابع الطبيعيات، وبعضها مخالف للشرع والدين والحق".
كثير من مسائل علم الكلام كانت موجودة في أبحاث الفلاسفة السابقين من اليونانيين وغيرهم، شأنها في ذلك شأن علم المنطق وغيره من فروع الفلسفة، وتسربت إلى الفكر الإسلامي مع حركة الترجمة من كتب الثقافات القديمة إلى اللغة العربية.
الأبحاث التي تناولها البحث في علم الفلسفة بما يشمل علم المنطق وعلم الكلام وغيرهما لا تعني في حد ذاتها الإيمان أو الكفر، ومنها مسألة الجزء الذي لا يتجزأ، ومسألة هل الكون في أقصى مداه خلاء أو مَلاء أو لا خلاء ولا مَلاء؟، ونحو ذلك، فبعض الفلاسفة أقر بعد كل تلك الأبحاث بأن لهذا الكون خالقا عظيما لأنه لا يمكن أن يكون من تلقاء ذاته، وبعضهم وقف مع الإنكار والجحود، والعياذ بالله تعالى.
هل كل تلك المعارف هي حقائق؟ أو مجرد ظنون؟ أو فيها وفيها؟، أمَّا بعدَ إذ أنار الله عز وجل بصائرنا بنور الوحي فكل ما جاءنا منهم موافقا لنصوص الوحي فهو حق، وما جاء مناقضا لها فهو باطل لا مرية فيه، وما سوى ذلك فالذي دل الدليل العقلي على صحته فهو صحيح، وما جاء مناقضا لأدلة العقول فهو باطل، وما لم يكن على إثباته أو نقضه دليل عقلي فهو ظن من الظنون التي لا تعنينا، وإن الظن في مثل هذا الباب لا يغني من الحق شيئا.
علماء الكلام المسلمون استفادوا من الطرق الفلسفية والمنطقية والكلامية في تأييد صحة العقائد الإيمانية للرد على أصناف من الكفار وأهل البدع، وذلك إلى جانب الأدلة العقلية المستنبطة من النصوص القرآنية والحديثية.
لكن معظم ما اشتمل عليه علم الكلام مما يُطلق عليه أنه أدلة وبراهين لا يعدو أن يكون تزويقات كلامية للرد والرد المضاد.
وهذا ما يفسر لنا السبب في رجوع عدد من أئمة علماء الكلام المسلمين عنه، كما يفسر لنا سبب وصْف الإمام الغزالي رحمه الله له بأنه فاسد، وأن فائدته هي الرد على بعض أهل البدع من علماء الكلام من باب أن معارضة الفاسد بالفاسد تدفعه.
وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين: "حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي يُنتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع، وإما مشاغبةٌ بالتعلق بمناقضات الفِرَق لها وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين، ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمه، إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبغت جماعة لفقوا لها شُبها ورتبوا فيها كلاما مؤلفا، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذونا فيه، بل صار من فروض الكفايات، وهو القدْر الذي يقابَل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة". فرحمه الله تعالى رحمه واسعة.
ـ تعريف علم الكلام عند كثير من العلماء المسلمين:
قال الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816 في كتابه التعريفات: "علم الكلام: علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام".
وقال السيوطي المتوفى سنة 911 في كتابه معجم مقاليد العلوم: "علم الكلام: ما يُبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، وقيل: علم يُبحث فيه عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قانون الإسلام، وقيل: علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه".
ـ هل هذه التعاريف هي تعريف بعلم الكلام؟:
أقول:
هذه التعاريف ليست تعريفا بعلم الكلام في أصل وضعه، وهي تعريف بما جرى عليه اصطلاح المتأخرين في تسميته بعلم الكلام.
علم الكلام في أصله ليس في مجمله علما صحيحا، وهو ما تبرأ منه ورجع عنه إمام الحرمين والغزالي والرازي وغيرهم.
أما كتب علم الكلام عند من ظنوه علما صحيحا ففيها مع ذكر العقائد الإسلامية أدلة عقلية واستدلالات كلامية، على تفاوت بينها في ذلك، وتلك الاستدلالات الكلامية لا معنى لإدخالها في كتب العقيدة.
كلامي وتعليقي في إيضاح هذه المسألة يستفيد منه إن شاء الله طالب العلم المنصف الذي يسعى لمعرفة حقيقة المسألة، ولا يكتمل فهمه لها ما لم يرجع إلى بعض تلك الكتب والقراءة فيها، وله أن يكتفي بالمثال الذي ذكرته في أصل هذا البحث من كلام سعد الدين التفتازاني رحمه الله.
وهذا مثال ثان من كتب علم الكلام لمن أراد مزيدا من التعرف على الاستدلالات الكلامية:
قال فخر الدين الرازي رحمه الله في كتابه معالم في أصول الدين: "القائم بنفسه إما أن يكون متحيزا أو لا يكون متحيزا، والمتحيز إما أن لا يكون قابلا للقسمة وهو الجوهر الفرد أو يكون قابلا للقسمة وهو الجسم، والقائم بالنفس الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز هو الجوهر الروحاني، ومنهم من أبطله فقال لو فرضنا موجودا كذلك لكان مشاركا للباري تعالى في كونه غير متحيز وغير حالٍّ في المتحيز فوجب أن يكون مثلا للباري، وهو ضعيف، لأن الاشتراك في السلوب لا يوجب الاشتراك في الماهية، لأن كل ماهيتين مختلفتين بسيطتين فلا بد أن تشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما". ثم قال: "القول بالجوهر الفرد حق، والدليل عليه أن الحركة والزمان كل واحد منهما مركب من أجزاء متعاقبة، كل واحد منها لا يقبل القسمة بحسب الزمان، فوجب أن يكون الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزأ، بيان المقام الأول في الحركة: وهو أنه لا بد أن يحصل من الحركة في الحال شيء وإلا لامتنع أن يصير ماضيا ومستقبلا، لأن الحاضر هو الذي يُتوقع حضوره ولم يحصل، فلو لم يكن شيء منه حاصلا في الحال لامتنع كونه ماضيا ومستقبلا فيلزم نفي الحركة أصلا وهو محال، ثم نقول: الذي وُجد منها في الحال غير منقسم انقساما ما يكون أحد نصفيه قبل الآخر، وإلا لم يكن كل الحاضر حاضرا، وهذا خُلفٌ، وإذا ثبت هذا فعند انقضاء ذلك الجزء الذي لا يقبل القسمة يحصل جزء آخر لا يقبل القسمة، وكذا الثالث، والرابع، فثبت أن الحركة مركبة من أمور كل واحد منها لا يقبل القسمة التي يكون أحد جزأيها سابقا على الآخر، وأما بيان أن الأمر كذلك في الزمان فالآن الحاضر الذي هو نهاية الماضي وبداية المستقبل لا يقبل القسمة، وإلا لم يكن حاضرا، وإذا عُدم يكون عدمه دفعة أيضا، فإن العدم متصل بآن الوجود، وكذا القول في الثاني، والثالث، فالزمان مركب من آنات متتالية كل واحد منها لا يقبل القسمة، وإذا ثبت هذا فالقدر الذي يتحرك المتحرك عليه بالجزء الذي لا يتجزأ من الحركة في الآن الذي لا ينقسم إن كان منقسما كانت الحركة إلى نصفها سابقة على الحركة من نصفها إلى آخرها، فيكون ذلك الجزء من الحركة منقسما وذلك الآن من الزمان منقسما، وهو محال، وإن لم يكن منقسما فهو الجوهر الفرد، احتجوا بأن قالوا إذا وضعنا جوهرا بين جوهرين فالوجه الذي من المتوسط يلاقي اليمين غير الوجه الذي منه يلاقي اليسار فيكون منقسما، فنقول: لمَ لا يجوز أن يُقال الذات واحدة والوجهان عرَضان قائمان بها؟، وهذا قول نفاة الجوهر الفرد، فإنهم قالوا الجسم إنما يلاقي جسما آخر بسطحه ثم يقابل سطحه عرَض قائم به فكذا ههنا".
أقول: هذا مما أراه من الاستدلالات الكلامية، لا من الأدلة العقلية، وليس فيه دليل عقلي على صحة قول من يقول بالجزء الذي لا يتجزأ الذي يسمونه الجوهر الفرد، وهذا بغض النظر عما إذا كان هذا القول في نفسه صحيحا أو غير صحيح.
والله ولي التوفيق.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 2/ 11/ 1440، الموافق 5/ 7/ 2019، والحمد لله رب العالمين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.