الاثنين، 13 أبريل 2020

هل كان الإمام البخاري يقصد صحة السند والمتن جميعا في الجامع الصحيح؟:


هل كان الإمام البخاري يقصد صحة السند والمتن جميعا في الجامع الصحيح؟:

رُوي عن الإمام البخاري رحمه الله أنه قال: "ما أخرجت في كتابي إلا ما صح". والظاهر أنه كان يعني صحة الإسناد عنده، وأكثر ما يدور عليه كلام المحدثين في الصحة والضعف عند الإطلاق هو صحة الإسناد.
وهذه بعض الأدلة على ذلك:
ورواه [5052] من طريق أبي عوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تصوم؟". فقلت: كل يوم. قال: "وكيف تختم؟". فقلت: كل ليلة. قال: "صم في كل شهر ثلاثة، واقرإ القرآن في كل شهر". فقلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: "صم ثلاثة أيام في الجمعة". فقلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: "أفطر يومين وصم يوما". فقلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: "صم أفضل الصوم صومَ داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة".
علق البخاري على قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية "واقرأ في كل سبع ليال مرة" فقال: "وقال بعضهم في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع". وهذه منه إشارة إلى إعلال ما سوى رواية السَبْع، محتجا بأن أكثر الرواة رووه هكذا، ولعله قاله معتمدا كذلك على الرواية الأولى التي تصرح بالنهي عن قراءة أكثر من سُبُع القرآن في اليوم، وهي "فاقرأه في سَبْع ولا تزد على ذلك".
حيث إن البخاري يرى صحة اللفظ الوارد في هاتين الروايتين فإنه رواهما في [باب في كم يقرأ القرآن]، وهو الباب المناسب للفظ الذي يصححه.
ورواه [1978] من طريق شعبة عن مغيرة بن مقسم عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم من الشهر ثلاثة أيام". فقلت: أطيق أكثر من ذلك. فما زال حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما". وقال: "اقرإ القرآن في كل شهر". فقلت: إني أطيق أكثر. فما زال حتى قال "في ثلاث".
وحيث إنه يرى عدم صحة اللفظ الوارد في هذه الرواية فإنه رواه في [باب صوم يوم وإفطار يوم]، وهو الباب المناسب للفظٍ آخر اشتمل عليه الحديث، وهو المتعلق بصيام يوم وإفطار يوم، ولم يروه في الباب الذي روى فيه الروايتين الأوليين.
لا يُقال هنا لمَ روى البخاري في صحيحه لفظةَ "في ثلاث" وهي معارضة لما هو أصح منها؟، لأنه قد يكون مقصِدُه هو التنبيهَ على عدم ثبوتها على الرغم من صحة الإسناد ولو ظاهرا.
* ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه [6511] من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاةٌ يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة؟، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: "إن يعشْ هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم". قال هشام بن عروة: يعني موتهم.
وهذا معنى صحيح، كأنه صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن أهل ذلك القرن لن يُعمَّر أحد منهم أكثرَ مما لو عُمِّر ذلك الولد حتى يصل إلى سن الهرم وبعد ذلك تقوم عليه ساعته، ولم يقل "حتى تقوم الساعة".
وقد روى البخاري [601] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: "أرأيتَكم ليلتكم هذه، فإن رأس مئة سنة لا يبقى ممن هو اليومَ على ظهر الأرض أحد". قال عبد الله بن عمر: فوهِل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبقى ممن هو اليومَ على ظهر الأرض"، يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن. وَهِل يوهَل وهَلا: فزع.
ـ وروى الإمام البخاري [6167] عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟. قال: "ويلك، وما أعددتَ لها؟". فقال: ما أعددتُ لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: "إنك مع من أحببت". فقلنا: ونحن كذلك؟. قال: "نعم". ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخِّر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة".
ـ حيث إن البخاري يرى صحة اللفظ الوارد في رواية عائشة رضي الله عنها "حتى تقوم عليكم ساعتكم" فإنه رواه [في كتاب الرقاق في باب سكرات الموت]، وهو الباب المناسب له، لأن فيه ترقيق القلب بتذكيره بالموت، وحيث إنه يرى وقوع خلل في اللفظ الوارد في رواية أنس رضي الله عنه "حتى تقوم الساعة" فإنه لم يروه في باب قريب من هذا المعنى، وإنما رواه في باب مناسبٍ للفظٍ آخر اشتمل عليه الحديث، فرواه [في كتاب الأدب في باب ما جاء في قول الرجل ويلك]، وهو الباب المناسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل "ويلك وما أعددتَ لها؟". وفي هذا إشارة منه إلى إعلال هذه اللفظة هنا "حتى تقوم الساعة" الواردة في حديث أنس.
ـ لا يُقال هنا إن البخاري كان غافلا عن أن غلام المغيرة كان قد مات بالتأكيد قبل زمن تأليفه للجامع الصحيح بزمن طويل ولم تقم الساعة، كما لم يكن غافلا عن أن ذلك الغلام لا يُقال فيه ولا في غيره "لن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" بهذا الإطلاق، لأنه قد يكون مقصِدُه من روايته في الجامع الصحيح في باب بعيد عن هذا المعنى المفهوم من اللفظ المطلق هو التنبيهَ على عدم ثبوته بهذا اللفظ على الرغم من صحة الإسناد ولو ظاهرا.
ثم إنه روى اللفظ الصحيح الذي لم يتطرق إليه الخلل في الباب المناسب لمعناه في كتاب الرقاق من رواية عائشة رضي الله عنها، وهو "حتى تقوم عليكم ساعتكم"، وهذا من لطيف براعته، وفِقهُ البخاري في جامعه الصحيح ـ كما هو معلوم ـ هو في تراجم الأبواب.
ـ أما الذين لا يعرفون طريقة البخاري ومنهجه في صحيحه فإنهم يقولون إن البخاري يصحح حديث عائشة وحديث أنس بكلا اللفظين!، لأنه روى في صحيحه الحديثين كليهما، وهذا القول منهم مخالف لطريقة البخاري رحمه الله.
ـ وروى الإمام مسلم رحمه الله الحديثين في صحيحه، فقدَّم حديث عائشة وأخَّر حديث أنس، لأن من عادته تأخير ما وقع فيه خلل إلى آخر الباب، وفي هذا إشارة لطيفة منه إلى الخلل الواقع في رواية أنس.
أما الذين لا يتنبهون لهذا فيأخذون لفظا من ألفاظ الحديث مرويا في صحيح مسلم ويحتجون به!، ويقولون رواه مسلم في صحيحه!.
فرحمة الله على هذين الإمامين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ما أدق ملحظهما.
في هذه الرواية "فلما غربت الشمس"، وهذا يعني أن الشمس كانت قد غابت وأن ذلك الرجل الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيجدح لهم إنما أراد الانتظار بعد غياب قرص الشمس لمزيد التحقق من الغروب، وذلك بسبب بقاء شيء من ضوء النهار، حتى أعْلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأفضل تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب وإقبال الليل من الجهة المقابلة.
ـ ورواه [1941] من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: "انزل فاجدحْ لي". قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدحْ لي". قال: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدح لي". فنزل فجدح له، فشرب، ثم رمى بيده ههنا، ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم".
في هذه الرواية أن الرجل كان ما يزال يرى شيئا من قرص الشمس، وليس فيها أن الشمس كانت قد غربت، ومن المستحيل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجدح له قبل غياب قرص الشمس، فهي من باب الخطأ الواضح، وقد أشار البخاري رحمه الله إلى إعلالها حيث رواها في باب الصوم في السفر، ولم يروها في الباب الذي روى فيه الرواية الصحيحة.
السَويق: دقيق القمح أو الشعير أو السُلت المقلوّ. والسُلت هو حب بين البُر والشعير لا قشر له. والجدح: أن يحرك السويق بالماء ويخوض حتى يستوي. والمِجْدح: عود مجنح الرأس تساط به الأشربة، وربما يكون له ثلاث شعب.
أما الذي لم ينتبه إلى طريقة الإمام البخاري رحمه الله في إيراد الروايات في الأبواب فإنه قال: [جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه بأن يهيئ له الإفطار، فقال: يا رسول الله، النهار أمامنا!. يعني ضوء الشمس، ولو أنها غابت لكن لايزال ضوؤها ظاهرا من الناحية الغربية، ما ردَّ عليه الرسولُ عليه السلام، بل أكّد له الأمر بأن يُهيّئ الإفطار، يقول راوي الحديث: كنا نرى النهار أمامنا ـ أي ضوء النهار ضوء الشمس حينما أفطرنا ـ، لو أنَّ أحدنا ركب ناقته لرأى الشمس. الشمس غربت من هنا والرسول عليه السلام أمر أحد الصحابة أن يهيّئ الإفطار، لم؟، للتعجيل بالخير، "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر"].
وهذا خطأ ظاهر، لأنه لا يجوز للصائم الفطرُ في حالةِ ما إذا كان لو ركب ناقته لرأى الشمس.
ـ والحمد لله رب العالمين.
تذييل في حوار:
الروايات التي رأيتُ أنها معلولة وغير صحيحة يرى أحد الإخوة أنها صحيحة غير معلولة وأنها روايات مُجْمَلة ومتشابهة وخفية، وأنه يجب حملها على الروايات المفسرة والمبينة والظاهرة والمحْكمة!.
أقول:
المُجْمَل والمتشابه والخفي في مقابلة المُفَسَّر والظاهر والمحْكم هي ألفاظ يستعملها علماء أصول الفقه، ولذا فلا بد من بعض النقول من كتب أصول الفقه لبيان المراد بها قبل معرفة مدى صحة الرأي المخالف.
ـ قال الإمام الباجي المتوفى سنة 474 رحمه الله في كتابه المسمى بالإشارة في معرفة الأصول: "المجْمل ما لا يُفهم المراد به من لفظه، ويفتقر في البيان إلى غيره، نحو قوله تعالى {وآتوا حقه يوم حصاده}، فلا يُفهم المراد بالحق من نفس اللفظ ولا بد له من بيان يكشف عن جنس الحق وقدره، فإذا ورد مثل هذا وجب اعتقاد وجوبه إلى أن يرد بيانه فيجب امتثاله".
قال الباجي في كتابه المسمى بالحدود: [معنى المجْمَل أن يكون اللفظ يتناول جملة المعنى دون تفصيله، وورد على صفة تقع تحتها صفات وأجناس متغايرة، ولذلك قيل في حده "إنه لا يُفهم المراد به من لفظه"، لوقوعه على أجناس متباينة مختلفة، فلا يمكن امتثال الأمر به إلا بعد بيانه، لأن المأمور لو أراد امتثال الأمر به لم يمْكنه القصد إلى جنس مخصوص، لأن اللفظ المجمل لا يقتضيه ولا ينبئ عنه بمجرده، فلما كان هذا حكمَه افتقر إلى معنًى غيرِه يبينه ويوضح عن جنسه وقدره وصفاته وغير ذلك من أحكامه، وذلك مثل قوله تعالى {ومن قتِل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا}، فلفظة السلطان ههنا مجملة، لا يُعلم المراد بها من جنس مخصوص من قتلٍ أو دية أو حبس أو غير ذلك].
قال الباجي في كتاب الحدود: "المتشابه: هو المشكل الذي يُحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل، ومعنى وصْفنا له بأنه متشابه أن يحتمل معاني مختلفة يتشابه تعلقها باللفظ، ولذلك احتاج تمييزُ المراد منها باللفظ إلى فكر وتأمل يتميز به المراد من غيره".
نقل الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه الفقيه والمتفقه عن محمد بن الحسن بن فورك المتوفى سنة 406 رحمه الله أنه قال: "المحْكم: ما أحكِم بيانه وبُلغ به الغاية التي يُفهم بها المراد من غير إشكال والتباس، والمتشابه: هو الذي يحتمِل معنيين أو معاني مختلفة يشبه بعضها بعضا عند السامع في أول وهلة حتى يميز ويتبين وينظر ويعلم الحق من الباطل فيه".
* ـ هل الروايات التي ذكرتُ إعلالها هي روايات مُجْمَلة ومتشابهة وخفية وليست معلولة؟!.
* ـ الرواية المشتملة على جزء معلول من روايات الحديث الأول:
ـ روى البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم من الشهر ثلاثة أيام". فقلت: أطيق أكثر من ذلك. فما زال حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما". وقال: "اقرإ القرآن في كل شهر". فقلت: إني أطيق أكثر. فما زال حتى قال "في ثلاث".
هذه الرواية نُقلت هكذا بهذا اللفظ، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرٍو أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، ثم أذن له بأن يقرأ أكثر من ذلك لأنه وجده يطلب الإذن ويقول إنه يطيق أكثر، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب لطلبه أكثر من مرة بالزيادة، وأنه انتهى إلى الإذن بأن يقرأه في كل ثلاث ليال مرة، والمعنى ظاهر جلي لا يحتمِل أكثر من وجه عند من يفهم لغة العرب.
ـ من الغريب أن يجعل بعض الناس هذه الرواية في باب المُجْمَل أو المتشابه أو الخفي!!، فهل هي مما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره؟!!، وهل هي مما يحتمِل معنيين أو معاني مختلفة؟!!، وهل هي من المشكل الذي يُحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل؟!!، وهل تحتمِل هذه الألفاظ معنى خفيا خلاف ظاهرها؟!!.
لا شك في أن الجواب هو النفي بكل تأكيد.
ـ هذه الرواية وقع في جزء منها خلل، حيث تضمنت الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي بأن يقرأ القرآن في كل ثلاث ليال!، والصواب هو ما في الروايات الأخرى المذكورة في البحث والتي سأذكرها بعون الله بعد قليل، وهو أنه أذن له بأن يقرأه في كل سبع ليال مرة، وهذا ما رجحه الإمام البخاري رحمه الله.
ـ روى البخاري هذا الحديث من طريق آخر عن عبد الله بن عمرٍو وانتهى الحديث عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "واقرأ في كل سبع ليال مرة". وليست هذه الرواية هي التي تعلُّ الرواية التي وقع فيها الخلل، لاحتمال أن يكون قد وقع فيها اختصار من أحد الرواة في سلسلة الإسناد فذكر الجزء المتعلق بالسبْع ونسي الجزء المتعلق بالثلاث.
لكن الرواية التي تعلها هي ما رواه البخاري في رواية أخرى عن عبد الله بن عمرٍو أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرإ القرآن في شهر". فقلت: إني أجد قوة. حتى قال: "فاقرأه في سَبْع ولا تزد على ذلك". وهنا تنتهي الرواية الصحيحة، وفيها النهي الصريح عن أن يقرأه في أقل من سبع.
وهذا ما جعل الإمامَ البخاري رحمه الله يعل الرواية التي فيها "فما زال حتى قال في ثلاث".
ومما يزيد الروايةَ الصحيحةَ تأكيدا ما رواه النسائي في السنن الكبرى [8010] من طريق يحيى بن حكيم بن صفوان عن عبد الله بن عمرو، وفي آخر الحديث أنه قال: قلت: أيْ رسولَ الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي. فقال: "اقرأ به في كل سبع". قلت: أيْ رسولَ الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي. فأبى. وكذا ما رواه النسائي في السنن الكبرى كذلك [8015] من طريق وهب بن منبه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، وقال في آخر الحديث: انتهى إلى سبع.
ـ جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من قرأ القرآن في أقلَّ من ثلاث لم يفقهه"، فهل هذه الرواية قرينة على صحة الرواية المشتملة على أنه أذن لعبد الله بن عمرو بأن يقرأه في كل ثلاث ليال؟!:
هذا الحديث "من قرأ القرآن في أقلَّ من ثلاث لم يفقهْه" رواه ابن أبي شيبة في المصنف [8661] والقاسم بن سلام في فضائل القرآن [ص 180] وابن حنبل [6535، 6841] والدارمي في السنن [1534] وأبو داود [1390، 1394] والترمذي [2949] وقال حسن صحيح! والفريابي في فضائل القرآن [142 ـ 145] والنسائي في الكبرى [8013] وابن ماجه [1347] وابن حبان في صحيحه! [758] من ثلاثة طرق عن قتادة بن دعامة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لذا فإن هذه الرواية لا تصلح أن تكون قرينة على صحة الرواية المشتملة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بأن يقرأ القرآن في كل ثلاث ليال.
* ـ الرواية المشتملة على جزء معلول من روايات الحديث الثاني:
ـ روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه [6167] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لغلام: "إن أخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة".
هذه الرواية نُقلت هكذا بهذا اللفظ، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر مَن كان حاضرا من الصحابة أن ذلك الغلام إن أخِّر فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، أي إن مد الله في عمره فلن يدركه الهرم حتى تقوم القيامة، وهذا هو معنى "حتى تقوم الساعة" عند الإطلاق في نصوص الكتاب والسنة، وهو المعنى الذي يُفهم من هذه الكلمة عند الصحابة، والمعنى ظاهر جلي عند كل من يفهم لغة العرب.
هذه الكلمة "حتى تقوم الساعة" وكذا قيام الساعة بهذا الإطلاق تعني القيامة والبعثَ للحساب والجزاء، ليس لها معنى في نصوص القرآن العظيم والسنة النبوية إلا هذا، وبذلك صار هذا المعنى لهذا اللفظ في نصوص الكتاب والسنة حقيقة شرعية، والساعة في اللغة هي الجزء من الليل أو النهار، لكن لا يمكن حمْل كلمة قيام الساعة في تلك النصوص على المعنى اللغوي بتاتا، لأنها بذلك تغدو فاقدة للمعنى.
ـ لمعرفة الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية أسوق هذين الاقتباسين:
قال الأُسْمَنْدي المتوفى سنة 552 رحمه الله في كتابه بذل النظر: "الحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حقيقة لغوية، وحقيقة عُرفية، وحقيقة شرعية". ثم قال: "اللفظ الذي أفِيدَ به معنى: إن أفِيدَ بمواضعة أهل اللغة سميناه حقيقة لغوية، وإن أفِيدَ به بمواضعة أهل الشرع سميناه حقيقة شرعية".
وقال كمال الدين ابن إمام الكاملية المتوفى سنة 874 رحمه الله في كتابه تيسير الوصول إلى منهاج الأصول: "إذا ورد خطاب من الشارع فيُحمل على المنطوق الشرعي إن أمكن، لأن عرف الشارع أن يعرِّف الأحكام الشرعية، ولذلك بُعث، ولم يُبعث لتعريف الموضوعات اللغوية وغير الشرعية، وإن لم يكن له حقيقة شرعية أو كان ولم يمكن الحمل عليها حُمل على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده عليه الصلاة والسلام".
ـ من الغريب أن يجعل بعض الناس هذه الرواية في باب المُجْمَل أو المتشابه أو الخفي!!، فهل هي مما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره؟!!، وهل هي مما يحتمِل معنيين أو معاني مختلفة؟!!، وهل هي من المشكل الذي يُحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل؟!!، وهل تحتمِل هذه الألفاظ معنى خفيا خلاف ظاهرها؟!!.
لا شك في أن الجواب هو النفي بكل تأكيد.
ـ هذه الرواية وقع في جزء منها خلل، حيث تضمنت الإخبار بأن ذلك الغلام لو مد الله في عمره فإنه لا يدركه الهرم حتى تقوم القيامة!، والصواب هو ما في الحديث الآخر الذي روته عائشة رضي الله عنها المذكور في البحث، وهذا ما أشار إليه الإمام البخاري رحمه الله إشارة لطيفة من خلال عناوين الأبواب.
* ـ الرواية المشتملة على جزء معلول من روايات الحديث الثالث:
ـ روى البخاري [1941] من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل وهو في سفر مع جماعة من الصحابة وكان صائما: "انزل فاجدحْ لي". فقال ذلك الرجل: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدحْ لي". فقال: يا رسول الله، الشمس!. قال: "انزل فاجدح لي". فنزل فجَدَح له، فشرب، ثم رمى بيده ههنا، ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم".
هذه الرواية نُقلت هكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ المخالف لما جاء في سائر الروايات، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ذلك الرجل أن يمزج له السويق بالماء ليفطر عليه، فأخبره أن الشمس ما تزال بادية، فأعاد عليه الطلب، فكرر الإخبار عن الشمس، فأعاد عليه الطلب، ففعل ما طلبه منه، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم!.
ـ من الغريب أن يجعل بعض الناس هذه الرواية في باب المُجْمَل أو المتشابه أو الخفي!!، فهل هي مما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره؟!!، وهل هي مما يحتمِل معنيين أو معاني مختلفة؟!!، وهل هي من المشكل الذي يُحتاج في فهم المراد به إلى تفكر وتأمل؟!!، وهل تحتمِل هذه الألفاظ معنى خفيا خلاف ظاهرها؟!!.
لا شك في أن الجواب هو النفي بكل تأكيد.
ـ هذه الرواية وقع في جزء منها خلل، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلب من أحد أن يسقيه وهو صائم قبل أن تغيب الشمس، والصواب هو ما رواه البخاري من أربعة طرق [1955، 1956، 1958، 5297] ومسلم من ثلاثة طرق أخرى على الأقل [2527، 2528] عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن أبي أوفى بخلاف رواية سفيان بن عيينة، إذ هي كلها مصرحة بأن هذا كان بعدما غابت الشمس.
* ـ إضافة حديث رابع وخامس للأحاديث الثلاثة التي وقع خلل في بعض رواياتها فأعلـَّها، وهو حديث بيع جمل جابر للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث مقدار عمره الشريف صلى الله عليه وسلم:
* ـ الرواية المشتملة على جزء معلول من إحدى روايات الحديث الرابع:
ـ هذا الحديث رواه البخاري [2309] من طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وغيره، يزيد بعضهم على بعض ولم يبلـِّغه كلـَّه رجل واحد منهم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على جمل ثَفَال إنما هو في آخر القوم، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "بعنيه". فقلت: بل هو لك يا رسول الله. قال: "بل بعنيه، قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة". [كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجل رجلا أن يعطي شيئا]. الجمل الثَفال: هو البطيء الذي لا ينبعث إلا كَرْهًا.
هذه الرواية نُقلت هكذا، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما جمله العيي في طريق السفر وقال له "قد أخذتُه بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة"، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى البعير من جابر وأذن له بركوبه إلى محطة الوصول، لأنه اشتراه منه في طريق السفر.
وهذا المعنى ظاهر لا خفاء فيه ولا اشتباه.
ـ لكن هذه الرواية وقع في جزء منها خلل، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرض على جابر ركوب الجمل حتى يصل إلى المدينة، وهنالك عدة روايات أصح منها تفيد أن جابرا رضي الله عنه هو الذي اشترط أن يركب الجمل حتى وصوله.
ـ فقد روى البخاري [2718] هذا الحديث من طريق زكريا بن أبي زائدة أنه قال سمعت عامرا يقول: حدثني جابر رضي الله عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيى، فمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر: قال: "بعنيه". فبعتُه، فاستثنيتُ حُمْلانه إلى أهلي.
وعلق البخاري رحمه الله هنا على الحديث بالإشارة إلى عدد من رواياته واختلاف ألفاظها مما فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرض على جابر ركوب الجمل حتى يصل إلى المدينة أو أن جابرا هو الذي اشترط ركوبه، ثم قال: "الاشتراط أكثر وأصحّ عندي". [كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز].
قوله "أصحّ" لا تعني في سياق الإعلال أن هذا أصح وأن غيره صحيح كذلك، بل تعني أنه صحيح وأن مقابله لا يصح. [انظر مبحث الشرط الرابع من شروط الحديث الصحيح لذاته في كتاب متنزه الأنظار].
ـ ورواه البخاري [2967] من طريق المغيرة بن مقسم الضبي عن عامر الشعبي عن جابر أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح لنا قد أعيى، فقال لي: "أفتبيعُنيه؟". فقلت: نعم. فبعتُه إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة. [كتاب الجهاد، باب استئذان الرجل الإمام].
ـ من المفيد أن أقول: كان في الرواية المعلولة عند البخاري من طريق ابن جريج عن عطاء أو غيره "بل بعنيه قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة"، وقد ظهر سبب وقوع الخلل فيها، إذ سقط جزء منها فتغير المعنى، وذلك فيما رواه مسلم [4110] من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال: فبعتُه منه على أن لي ظهره إلى المدينة، فقال: "ولك ظهره إلى المدينة".
ففي رواية مسلم هذه أن جابرا اشترط وقال "على أن لي ظهره إلى المدينة"، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "ولك ظهره إلى المدينة"، وحيث إن تلك الرواية التي كان فيها ذلك الجزء المعلول قد سقط منها قول جابر هذا فلذلك تغير المعنى.
ـ وهذا كله يؤيد ويؤكد صحة ما رجحه الإمام البخاري رحمه الله من وقوع الاشتراط في عقد البيع الذي تم به بيع جمل جابر وإعلال الجزء الذي فيه خلاف ذلك.
* ـ الرواية المشتملة على جزء معلول من إحدى روايات الحديث الخامس:
ـ هذا الحديث رواه البخاري [5900] عن أحد شيوخه عن مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالجَعْد القَطِط ولا بالسَبِط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة!. [كتاب اللباس، باب الجعد].
هذه الرواية نُقلت هكذا، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة!.
وهذا المعنى ظاهر لا خفاء فيه ولا اشتباه، يفهمه بكل سهولة ويسر كل من يفهم لغة العرب.
ـ في هذه الرواية جزء صحيح يتعلق بصفة طول النبي صلى الله عليه وسلم وصفة شعر رأسه الشريف، وفي كونه بعثه الله على رأس أربعين سنة وأنه أقام بالمدينة عشر سنين، وفيها جزء وقع فيه خلل، وهو أنه أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين!، وأن الله تعالى توفاه على رأس ستين سنة!، وهذا خطأ واضح.
ـ والصواب هو في الروايات التالية:
روى البخاري [3903] من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة، وتُوفي وهو ابن ثلاث وستين.
وروى كذلك [3902] من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، يُوحى إليه، ثم أمِر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين.
وروى كذلك [3536] من طريق عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين. [كتاب المناقب، باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم].
ـ لم يكن الإمام البخاري رحمه الله غافلا عن أن الروايات الثلاث عن ابن عباس وعائشة سالمة من الخلل الذي وقع في رواية أنس، فاختار إحدى الروايات السالمة من هذا الخلل وهي المروية عن عائشة رضي الله عنها فرواها في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب المناقب، وروى الرواية التي وقع فيها الخلل في مقدار عمره الشريف صلى الله عليه وسلم فرواها في باب الجعد من كتاب اللباس. فلله دره.
ـ ولمثل هذا نظائر أخرى يجدها طالبها في بعض دراساتي الأخرى.
* ـ خلاصة القول:
لم تكن تلك الروايات التي وقع فيها خلل ما في متن الحديث وإسنادُها ظاهرُه الصحة خافيةً على الإمام البخاري رحمه الله، فرواها في صحيحه وأشار إلى إعلال الجزء الذي وقع فيه الخلل من خلال عناوين الأبواب، إذ اختار للرواية السالمة أو إحدى الروايات السالمة عنوانا مناسبا لموضوع ذلك الجزء واختار للرواية التي وقع فيها الخلل عنوانا مناسبا لجزء آخر من أجزاء الرواية، فرحمه الله رحمة واسعة.
إذا كان هذا موجودا عند البخاري في عدد من الأحاديث فهل هذا يعني أنه معصوم عن الخطإ؟!، لم يقل ذلك أحد قط، فإذا وجدنا رواية عنده وقع فيها خلل ولم ينبه عليه فهذا ليس بمستحيل الوقوع، لكن لا بد من الدليل والبرهان، بعيدا عن أهواء النفوس المريضة التي تحكم بالهوى والتشهي، وقد قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 26/ 8/ 1441، الموافق 19/ 4/ 2020، والحمد لله رب العالمين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.