الأحد، 13 ديسمبر 2015

حديث "إن في المال لحقا سوى الزكاة"


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* حديث "إن في المال لحقا سوى الزكاة" رواه الترمذي والدارمي والطحاوي والطبراني في الكبير والدارقطني والبيهقي وابن مردويه من طريق الأسود بن عامر ومحمد بن الطفيل وأسد بن موسى وحماد بن سلمة وبشر بن الوليد وآدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد، سبعتهم عن شريك بن عبد الله النخعي عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال "إن في المال لحقا سوى الزكاة".
[شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق فيه لين مات سنة 177. أبو حمزة ميمون الأعور القصاب كوفي ضعيف متروك الحديث. عامر بن شراحيل الشعبي كوفي ثقة مات سنة 109. فاطمة بنت قيس الفهرية صحابية ماتت غالبا بعد سنة 50]. فهذا السند تالف.
رواية ابن مردويه نقلتها من تفسير ابن كثير، وذكر أنها من طريق آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد عن شريك.
وفي رواة هذا الحديث راوٍ ثامنٌ عن شريك، هو يحيى بن آدم، لكنِ اختُلف عليه في روايته، فرواه الطبري عن أبي كُريب عن يحيى بن آدم عن شريك أنه قال حدثنا أبو حمزة ـ فيما أعلم ـ عن عامر الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول "إن في المال لحقا سوى الزكاة"، ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن يحيى بن آدم عن شريك بن عبد الله به بلفظ "ليس في المال حق سوى الزكاة".

* هل هذا الحديث مضطرب المتن بسبب التعارض الذي بين روايتيه؟:
قال الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة 806 في كتابه شرح التبصرة والتذكرة: [ومثال الاضطراب في المتن حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال "إن في المال لحقا سوى الزكاة"، فهذا حديث قد اضطرب لفظه ومعناه، فرواه الترمذي هكذا من رواية شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ "ليس في المال حق سوى الزكاة"، فهذا اضطراب لا يحتمِل التأويل].
ونقله عنه برهان الدين إبراهيم بن موسى الأبناسي المولود سنة 725 والمتوفى سنة 802 في كتابه الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح، وبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي المولود سنة 745 والمتوفى سنة 794 في كتابه النكت على مقدمة ابن الصلاح، والكافيجي في المختصر، والمناوي في اليواقيت والدرر، وغيرهم.
وبغض النظر ـ عما ذُكِر من اختلاف نسخ سنن ابن ماجه في لفظ الحديث وعما ذُكِر من محاولةٍ للجمع بين اللفظين المتعارضين لهذا الحديث ـ فهل يصح القولُ هنا بأنه مضطرب المتن؟.
لا بد أولا من التذكير بما اتفق عليه العلماء من الشرط الذي يتحقق به الحكمُ على الحديث بالاضطراب، وهو ـ بالإضافة إلى تحقق التعارض ـ أن تتساوى الروايات المتعارضة في القوة.
قال ابن الصلاح: "إنما نسميه مضطربا إذا تساوت الروايتان، أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى بأن يكون راويها أحفظَ أو أكثرَ صحبة للمروي عنه أو غيرِ ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة فالحكم للراجحة، ولا يُطلق عليه حينئذ وصف المضطرب".
وقال ابن حجر في نزهة النظر: "إن كانت المخالفة بإبدال الراوي ولا مرجح لإحدى الروايتين على الأخرى فهذا هو المضطرب".
إذا عرَفنا ذلك فالجواب أن القول الذي قاله الحافظ العراقي رحمه الله غير صحيح البتة، لأن الشرط غير متحقق:
بالنظر إلى روايات هذا الحديث في كتب السنن فقد رواه الترمذي من طريق الأسود بن عامر ومحمد بن الطفيل عن شريك بن عبد الله ورواه ابن ماجه من طريق يحيى بن آدم عن شريك، فلا مساواة في القوة بين الروايتين، ورواية الترمذي أقوى وأرجح، لأنها من طريقين عن شريك والرواية الأخرى من طريق واحد عنه.
وإذا نظرنا إلى بقية الطرق الواردة في تخريج الحديث فإن اللفظ الوارد في سنن الترمذي رواه سبعة من الرواة عن شريك بن عبد الله، ورواه الطبري عن أبي كريب عن يحيى بن آدم عن شريك، واللفظ الآخر رواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن يحيى بن آدم عن شريك.

* فهذا الحديث ليس من المضطرب.
وهو ـ على كل حال ـ ضعيف الإسناد جدا، كما تقدم.
وقد أخطأ فيه راويه أبو حمزة ميمون الأعور القصاب، إذ رواه عن عامر بن شراحيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصله أنه موقوف على الإمام الشعبي من قوله.
فقد رواه سعيد بن منصور في التفسير وابن أبي شيبة والطبري من طريق بيان بن بشر، والطبريُّ من طريق إسماعيل بن سالم، وابنُ زنجويه من طريق يونس بن أبي إسحاق، ثلاثتهم عن الشعبي أنه قال: "إن في المال لحقا سوى الزكاة".

* فائدة:
علق الترمذي على الحديث بقوله: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح". يعني الترمذيُّ بقوله هنا "وهذا أصح" أن ما سواه خطأ، وهذا هو المشهور من استعمال الأئمة المتقدمين لهذه الكلمة في باب الإعلال.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 2/ 3/ 1437، وأصله عندي من نحو عشرين عاما، والحمد لله رب العالمين.




الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

حوار حول حديث "فقال: مَن ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله".


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
أصل هذا الحديث مروي بلفظ "كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي" من غير زيادة على هذا، ورُوي الحديث كذلك بهذا اللفظ مع زيادة في آخره، هي "فقال: مَن ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله".
* تخريج الحديث:
ـ الحديث بدون الزيادة رواه سعيد بن منصور في التفسير 5/ 153 عن خلف بن خليفة عن حُميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الترمذيُّ 3/ 276 عن علي بن حُجر، وعبدُ الله بن أحمد في السنة 1/ 293 عن أبي معْمر إسماعيل بن إبراهيم، والبزارُ 5/ 400 عن بشر بن معاذ العقدي، وابن جرير في تفسيره 16/ 25 عن بشر بن معاذ، والعُقيلي في الضعفاء 2/ 80 من طريق الحكم بن مروان بن ناجية، وأحمد بن سلمان النجاد ص 51 عن عبد الله بن أحمد عن أبي معْمر، وابنُ حبان في كتاب المجروحين 1/ 262 من طريق قتيبة بن سعيد، وابن عدي في الكامل 2/ 273 من طريق داود بن عمرو الضبي، والحاكمُ 1/ 73 من طريق سعيد بن منصور و2/ 447 من طريق عمر بن حفص بن غياث، وابن عساكر والمزي من طريق أبي العباس السراج عن قتيبة بن سعيد، وابن عساكر من طريق أبي بكر بن المقرئ عن أبي يعلى عن أحمد بن حاتم، ثمانيتهم عن خلف بن خليفة عن حُميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يومَ كلم الله موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمة صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي". [حُميد الأعرج الكوفي منكر الحديث متروك، وليس هو حميدا الأعرج المكي الثقة].
وكذا رواه الحسن بن عرفة في جزئه ص 63 عن خلف بن خليفة به بدون الزيادة.
وكذا رواه الآجري في الشريعة 3/ 1115 عن الحسنِ بنِ علي الجصاص ومحمدِ بنِ مخلد العطار عن الحسن بن عرفة به.
ورواه البيهقي في الأسماء والصفات 1/ 489 عن أبي علي الروذباري، والخطيبُ البغدادي في المتفق والمفترق 1/ 728 عن أبي عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي ومحمد بن أحمد ابن رزقويه وأبي الحسين محمد بن الحسين القطان وعبد الله بن يحيى السكري وأبي الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزاز، وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد 2/ 147 وقاضي المارستان في مشيخته وأبو موسى المديني في عواليه المسمى منتهى رغبات السامعين في عوالي أحاديث التابعين من طريق أبي الحسن محمد بن مخلد، ستتهم عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة به.
ـ وأما تخريج الحديث بالزيادة فقد رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى 6/ 306 عن إسماعيل بن محمد الصفار وأبي محمد الحسن بن علي بن زيد بن حميد العسكري عن الحسن بن عرفة عن خلف بن خليفة به، ولفظه: "كلم الله موسى يوم كلمه عليه جبة صوف وكساء صوف وبرنس صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي، فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله". [الحسن بن علي بن زيد بن حميد روى أحاديث مستقيمة تدل على صدقه ومات سنة 325، كما في تاريخ بغداد].
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 192 عن علي بن عبيد الله بن الزاغوني عن علي بن أحمد بن البسري عن ابن بطة عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة به.
* درجة الحديث:
الحديث بدون الزيادة ضعيف الإسناد جدا، فيه حُميد الأعرج الكوفي وهو منكر الحديث.
والزيادة التي جاءت في آخر الحديث وهي "فقال من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ قال أنا الله" منكرة موضوعة، وقد تفرد بها ابن بطة عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة، مخالفا لستة من الرواة رووا الحديث عن إسماعيل بن محمد الصفار عن الحسن بن عرفة بدونها.

* نبذة من الحوار حول الراوي الذي تفرد بالزيادة في هذا الحديث:
ـ كنت قد ذكرت في كتاب عقائد الأشاعرة في حوار هادئ من الحنابلة المجروحين عبيدَ الله بنَ محمدِ بنِ بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ، وذكرت رواية ابن بطة لحديث "كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي، فقال: من ذا العِبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله"، وذكرت قولَ ابن حجر "وقد وقفت لابن بطة على أمر استعظمته واقشعر جلدي منه"، وقولـَه "وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا؟! والله أعلم بغيبه". وقلت: هذا يعني أن ابن بطة ربما وضع هذه الزيادة وأدرجها في الحديث، وهي موافقة لمشربه الذي فيه ميل للتجسيم والتشبيه.
وقلت في كتاب عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار: "والخلاصة هي أن ابن بطة قد تفرد بتلك الزيادة المنكرة الموضوعة، وأنه أضعف الرواة في ذلك السند، وأنه هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا".
لم أقل عن ابن بطة كذاب أو وضاع، وإنما قلت "ربما وضع هذه الزيادة"، وقلت "هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا".
ـ استشاط أحد الإخوة الباحثين غضبا، وكتب مقالة طويلة في الرد على هذا البحث العلمي، كأنه لا يجوز عنده أن يقال عن ابن بطة الذي انفرد برواية تلك الزيادة في الحديث "وأنه هو المتهم بها سواء أكان ذلك عمدا أو سهوا"، ولا أن يقال عنه "ربما وضع هذه الزيادة".
وأدخل في كلامه أشياء كثيرة مطولة خارجة عن الموضوع مما يتعلق بالأشاعرة والمعتزلة وبعض المعاصرين الذين قام الباحث بالرد عليهم!، ولعله كان في حالة ذهول عن قول الله جل وعلا {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، لأن حشر الحوارات والردود التي جرت مع أناس ومذاهب آخرين غير الذي تكون بصدد محاورته تضييع للوقت وإيهام بأن الكل على مذهب واحد، وهذا ظلم لا يرضاه الله عز وجل.
وأقول: تلك الحوارات والردود التي جرت مع أناس ومذاهب آخرين لا تعنيني في شيء، فكل واحد يقول ويدلي بحجته ويرد ويُرد عليه، فمن تكلم في مسائل الدين بحجة ـ وهو من أهل العلم والاحتجاج ـ فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، وإن لم يكن من ذوي الأهلية فلا أجر له وعليه الوزر.
ولا يلزَمني القولُ بما يقوله أي أحد من الناس ما لم يأت في كلامي أنني أقول به، والحجة عندي هي في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما تفرع عنهما.
ـ قال الأخ الباحث:
"وهذِه عادة مَعْروفة ، وسُنَّة مَعْلومة ، أَنْ يطعنَ الأشقياء في الأئمَّة الأتقياء، ألا ترى أَنَّ أعظمَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم جميعًا ، هم أعظمُ المُنَالِ مِن أعراضِهم ، مِن ذَوِي الكُفْرِ والزَّندقةِ والنِّفاق ، وأَنَّهُ بعُلُوِّ قدر المؤمنين ، يكون عَدَاءُ المُلْحدين والفاسقين والمُبْطلين".
أقول:
كتب الأخ الباحث هذا الكلام في مقالته التي يعلق فيها على بحثي، ولا أدري بالضبط عمن يتحدث الباحث في كلامه هذا؟!، ربما لا يعنيني!، لكن إن كان كذلك فلمَ يذكر هذا في التعليق على كتابتي ودراستي؟!.
وبغض النظر عما قد يكون في كلامي من صواب وخطأ فالتعريض بهذه الأوصاف غير جائز، فابن بطة ليس نبيا ولا معصوما.
والتعريض في مسألة الرد أو الاعتراض على ابن بطة بأن الراد أو المعترض من الأشقياء والكفرة والزنادقة والمنافقين والملحدين والفاسقين والمبطلين! لا يليق بأهل العلم، وهذه طريقة أهل السباب والشتائم، وليست من شيم أهل الإيمان.
ولا بد أن يُعلم أن قائل هذا الكلام على خطر عظيم، لأن الذي يُقال له هذا الكلام إن كان كذلك فقد لاقت الكلمات محلها، وإلا فإنها ترجع إلى القائل.
ـ أهل الإيمان يقفون مع آداب القرآن التي أدبهم بها المولى عز وجل، فقد قال جل وعلا يعلمنا الخطاب مع المشركين في باب الدعوة والحوار وذكر الحجج: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض؟! قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون}.
إذا كان هذا مع المشركين فلا شك في أنه يكون مع غير المشركين أشد لطفا.
فلا ينبغي ـ في باب الحوار ـ أن أقول لخصمي المحاور ـ حتى لو كان مشركا ـ أنا على الهدى وأنت في الضلال ولستُ مسؤولا عن جرائمك ولستَ مسؤولا عن أعمالي!، بل أقول له: ليدْلِ كل واحد منا بحججه، وليتأملْ في حجج الآخر، فكل واحد منا معرَّض لأن يكون في كلامه الهدى أو الضلال، وأنا لا أتحمل مسؤولية أقوالك ومواقفك، وأنت لا تتحمل مسؤولية إجرامي.
أي إن كان قد صدر مني شيء من جرائم الشقاء والكفر والزندقة والنفاق والإلحاد والفسق والقول بالباطل فأنا الذي أتحمل ذلك، وقد قال جل وعلا {إن ربك هو يفـْصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
تأملتُ في المنهج القرآني في أدب الحوار وطريقة الأخ الباحث فوجدت بينهما بونا شاسعا.
* ترجمة ابن بطة:
لا بد من ذكر أقوال العلماء في ابن بطة، ليتبين هل هو ممن أجمع النقاد على توثيقهم وجاء من يضعفه بغير دليل؟!، أو هو ـ رغم إمامته في جوانب ـ قد ناله تضعيف من علماء الجرح والتعديل؟!.
ابن بطة هو عبيد الله بن محمد، فقيه حنبلي، من أهل عُكْبَرا، وهي بلدة على نهر دجلة شمالي بغداد، بينهما نحو عشرة فراسخ، أي قرابة خمس وخمسين كِيلا، ولد سنة 304 ومات سنة 387:
ـ قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/ 100: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العُكْبَري، المعروف بابن بطة، كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد ابن حنبل.
ثم نقل عن نصر الأندلسي الذي شهد له أبو ذر عبد بن أحمد الهروي بالحفظ والفهم أنه خرج إلى عكبرا وكتب عن ابن بطة، ولما رجع إلى بغداد أخبر الدارقطنيَّ أن ابن بطة حدثه بكتاب السنن لرجاء بن مرجى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مُرَجَّى، فقال الدارقطني: هذا محال، دخل رجاء بن مرجى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة سبعين ومئتين، فكيف سمع منه؟!.
ثم روى عن أبي القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي عن الحسن بن شهاب أن ابن بطة قدم بغداد، فقرأ عليه أبو الحسن بن الفرات كتاب السنن لرجاء بن مرجى الحافظ، وكتبه ابن الفرات عنه عن حفص بن عمر الأردبيلي الحافظ عن رجاء، فأنكر ذلك أبو الحسن الدارقطني وزعم أن حفصا ليس عنده عن رجاء وأنه يصْغُر عن السماع منه، فأبْرَدوا بريدا إلى أردبيل، وكان ابن حفص بن عمر حيا هناك، وكتبوا إليه يستخبرونه عن هذا الكتاب، فعاد جوابه بأن أباه لم يرو عن رجاء بن مرجى ولا رآه قط وأن مولده كان بعد موته بسنين.
قال الخطيب: قال أبو القاسم عبد الواحد بن علي: فتتبع ابن بطة النسخ التي كُتبت عنه وغيَّر الرواية، وجعلها عن ابن الراجيان عن فتح بن شخرف عن رجاء، ولما مات ابن بطة رأيت نسخته بالسنن وقد غيَّر أول كل جزء منها وجعله رواية ابن الراجيان عن فتح بن شخرف عن رجاء.
ثم قال: قال أبو القاسم: قال لي الحسن بن شهاب: سألت أبا عبد الله بن بطة: أسمعت من البغوي حديث علي بن الجعد؟ فقال: لا.
ثم قال: قال أبو القاسم: وكنت قد رأيت في كتب ابن بطة نسخة بحديث علي بن الجعد قد حكها وكتب بخطه سماعه فيها، فذكرت ذلك للحسن بن شهاب، فعجب منه.
ثم قال: قال أبو القاسم: وروى ابن بطة عن أحمد بن سلمان النجاد عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي نحوا من مئة وخمسين حديثا، فأنكر ذلك عليه علي بن محمد بن ينال، وأساء القول فيه، وقال "النجَّاد لم يسمع من العطاردي شيئا"، حتى همت العامة أن توقع بابن ينال فاختفى.
ثم قال: قال أبو القاسم: وكان ابن بطة قد خرَّج تلك الأحاديث في تصانيفه، فتتبعها وضرب على أكثرها وبقي بقيتها على حاله.
ثم قال: حدثني أحمد بن الحسن بن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة بمعجم البغوي في نسخة كانت لغيره وقد حك اسم صاحبها وكتب اسمه عليها.
ثم قال: قال لي أبو القاسم الأزهري: ابن بطة ضعيف ضعيف، ليس بحجة، وعندي عنه معجم البغوي ولا أخرج منه في الصحيح شيئا. قلت له: فكيف كان كتابه بالمعجم؟. فقال: لم نر له أصلا به، وإنما دفع إلينا نسخة طرية بخط ابن شهاب فنسخنا منها وقرأنا عليه.
ثم قال: شاهدت عند حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق نسخة بكتاب محمد بن عزيز في غريب القرآن وعليها سماع ابن السوسنجردي من ابن بطة عن ابن عزيز، فسألت حمزة عن ذلك، فأنكر أن يكون ابن بطة سمع الكتاب من ابن عزيز وقال: ادعى سماعه ورواه.
ثم قال: وكذلك ادعى سماع كتب أبي محمد بن قتيبة، ورواها عن شيخ سماه ابن أبي مريم وزعم أنه دينوري حدثه عن ابن قتيبة، وابن أبي مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم ولا ذكره سوى ابن بطة، فالله أعلم.
ثم قال: حدثني عبد الواحد بن علي الأسدي قال: قال لي محمد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب بن عبد الله عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
ثم قال: وهذا الحديث باطل من حديث مالك، ومن حديث مصعب عنه، ومن حديث البغوي عن مصعب، وهو موضوع بهذا الإسناد، والحَمْل فيه على ابن بطة، والله أعلم.
ثم قال: حدثني أحمد بن محمد العتيقي بلفظه من أصل كتابه وكتبه لي بخطه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان الفقيه بعكبرا قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا". الحديث. وهذا الحديث أيضا باطل من رواية البغوي عن مصعب، ولم أره عن مصعب عن مالك أصلا، فالله أعلم.
ثم قال: أخبرنا العتيقي قال: كان ابن بطة شيخا صالحا مستجاب الدعوة. مات سنة 387. انتهى ما نقلته من تاريخ بغداد.
[عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم العكبري كان مضطلعا بعلوم كثيرة، منها النحو واللغة ومعرفة النسب والحفظ لأيام العرب وأخبار المتقدمين، وله أنس شديد بعلم الحديث، ومات سنة 456. علي بن محمد بن ينال أبو الحسن العكبري، سمع الحديث، ورزقه الله تعالى من المعرفة والفهم به شيئا كثيرا، مات سنة 376. أبو القاسم الأزهري عبيد الله بن أحمد بن عثمان، كان أحد المعنيين بالحديث والجامعين له مع صدق واستقامة ودوام درس للقرآن، ولد سنة 355 ومات سنة 435. حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق، بغدادي، قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان صدوقا فهِما عارفا. ولد سنة 366 ومات سنة 424].
ـ هذا ويستفاد من قصة علي بن محمد بن ينال مع ابن بطة أن عامة الناس يقفون ـ غالبا ـ مع العابد الفقيه المحدث صاحب الرواية وإن كان له هفوات، ولا يلقون بالا للعالم المحقق صاحب الدراية وإن كان له تحقيقات، وأنهم زاهدون في علم العالم المحقق وفيما عنده من تنبيهات، وأنهم إذا سمعوا منه ما لا يروق لهم هموا به وأوقعوا به نكالا حتى يختفي ويغيب عن الأنظار!.
غالب العامة هكذا إلا أهل المجاهدة، قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
ـ ووصف الذهبي ابنَ بطة في سير أعلام النبلاء بالإمام القدوة العابد الفقيه المحدث شيخ العراق. ثم قال: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط. ثم ذكر بعض ما تقدم في كلام الخطيب البغدادي وقال: فبدون هذا يُضعَّف الشيخ.
وقال في تاريخ الإسلام: ابن بطة ضعيف من قبل حفظه. وقال: رحم الله ابن بطة، فبدون ما أوردنا يُضعف المحدث.
وذكر في السير والتاريخ رواية ابن بطة لحديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وتعليقَ الخطيب البغدادي بقوله "هذا باطل والحمل فيه على ابن بطة"، ثم قال في السير: "أفحشَ العبارة، وحاشا الرجلَ من التعمد، لكنه غلط ودخل عليه إسناد في إسناد". وقال في تاريخ الإسلام: "يجوز أن يكون غلط فيه وقفز من سند إلى متن آخر، لقلة إتقانه، لا أنه تعمد وضْعه".
وقال ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 في لسان الميزان عن هذا الحديث مع الزيادة التي فيه: قال ابن الجوزي: هذا لا يصح، وكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين.
ثم قال: رويناه من طرق ليس فيها هذه الزيادة، وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا، فما أشك أن إسماعيل بن محمد الصفار لم يحدث بهذا قط، والله أعلم بغيبه.
ـ ولا شك في أن ابن بطة كان محل ثناء من أهل العلم في فقهه وزهده وعبادته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فقد أثنى عليه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة والسمعاني في الأنساب وغيرهما.
ولا يشترط في مقام النقد الحديثي والدراسة الإسنادية أن يذكر الدارس إلى جانب الجرح والتضعيف ما امتاز به الراوي من الفضائل، لأن من أراد معرفة الصورة الكاملة للراوي فعليه أن يرجع لكتب تراجم العلماء، ولا ينبغي أن يقتصر على الكتب المعنية بدراسة الأسانيد.
ـ خلاصة القول في ابن بطة:
هو إمام قدوة عابد فقيه محدث، ومع ذلك فقد ضعفه:
الإمام الحافظ أبو الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن فارس بن أبي الفوارس البغدادي المتوفى سنة 412.
والمحدث الحجة أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن عثمان الأزهري البغدادي المتوفى سنة 435.
والإمام الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463.
والإمام الحافظ شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748.
والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852.
فمن يردُّ أو يعترض على ابن بطة في الزيادة المنكرة التي زادها في هذا الحديث فإنه متبعٌ سبيل أولئك الأئمة الأعلام، ولا يجوز وصفه ولا التعريض به بأنه من الأشقياء أو الكفرة أو الزنادقة أو المنافقين أو الملحدين أو الفاسقين أو المبطلين!.
ـ قال الباحث:
"الحديث قـد رواه مع ابن بطة جماعة من الحفاظ والعلماء غيره".
أقول:
هذا القول صحيح بالنظر إلى رواية أصل الحديث بدون الزيادة، كما تقدم في تخريج الحديث، أما الزيادة الموضوعة التي أدرجها ابن بطة في آخر الحديث فإنه تفرد بها، وهو متهم بالزيادة لا بأصل الحديث.
ولا بد من الاعتراف الواضح الصريح بأن ابن بطة قد انفرد بالزيادة التي في آخر هذا الحديث وأن الحَمْل فيها عليه، أي إنه هو من يتحمل تبِعتها ومسؤوليتها.

* نبذة من الحوار حول معنى الزيادة التي تفرد بها الراوي في هذا الحديث:
ـ أقحم الباحث في مقالته مواضيع بعيدة عن الجزئية التي هي محل البحث، منها ما يسمى بآيات الصفات وأحاديث الصفات، ومنها صفة الكلام لله تبارك وتعالى وهل كلامه تعالى هو بحرف وصوت أو لا؟ وحكم من أنكر كونه كذلك.
وهذا لا ينبغي في البحث، لأن هذا تشعيب وتشتيت يؤدي إلى أن لا يصل الحوار إلى نتيجة، والواجب في البحث والمناظرة الاشتغال بمسألة واحدة ـ دون تشعيب ـ، وبعد الفراغ منها يتم الانتقال إلى غيرها.
ـ قال المحاور:
"سِرّ استعظامِ هَؤُلاءِ لأثر ابن مسعود ، وقُشَعْريرةِ جُلُودِهم منه ، وقَطْعِهم ببُطلانِه ، هو مُخالفتُه عقائدَهم ، المُخالفةَ لاعتقاد أئمَّة الإسلام ، القائمةَ على موازين المُتكلِّمِين ، أتباعِ ملاحدة الفلاسفة المشَّائين ، مُعطِّلي الرَّحمن عن أفعاله سبحانه ، فهو عند الأشاعرةِ لا يتكلَّم ، ولم يتكلَّم ، ولن يتكلَّم ، لِئَلَّا يُشابِهَ المخلوقين ! وإنَّما كلامُه مَعْنًى واحدٌ قائمٌ بذاته جلَّ وعلا ! يُسَمُّونَهُ « الكلامَ النَّفسيَّ » ألهمَهُ اللهُ جلَّ وعلا جبريلَ فعبَّر عنه ، وسَمِعَهُ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم منه ، أو ألهمَهُ مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم ، فعبَّرَ عنه بالعربيَّةِ فكان قرآنا ، وحِينَ عبَّر عنه موسى بالعبرانيَّةِ كان توراة ، وعيسى بالسريانيَّةِ كان إنجيلا !".
أقول:
يظن الباحث أن من يستعظم هذا الحديث ويقشعر جلده منه سببه أن هذا الحديث فيه أن الله تبارك وتعالى كلم سيدنا موسى عليه السلام!، ويرى أن هؤلاء إنما يقع لهم ذلك لأنهم من معطلة أفعال الله سبحانه!، والحقيقة هي غير ذلك، وقد بين الحافظ ابن حجر ـ وهو الذي استعظم هذا المرويَّ واقشعر جلده منه ـ فقال: قال ابن الجوزي: "هذا لا يصح، وكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين".
فالاستعظام والاستنكار هو لما زاده ابن بطة في هذه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي "فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟. قال: أنا الله".
ففي هذه الزيادة تشبيه الخالق جل وعلا بالمخلوق تشبيها واضحا، حيث تتضمن أن موسى عليه السلام سمع صوت إنسان يتكلم معه من الشجرة، وأن ذلك الشخص الذي سمع موسى صوته ولم يره كان يتكلم كلاما عاديا وبلغة عادية هي اللغة العبرانية، وأن موسى سأله قائلا "مَن ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟"، فأجابه الشخص الذي ظنه عبرانيا بقوله "أنا الله".
ـ الحافظ ابن حجر مشهود له بالإمامة في العلم، فهو لا يجهل ولا ينكر أن الله جل وعلا كلم موسى عليه السلام، ولكن شتان بين إثبات صفة الكلام وبين إثبات صفة الكلام على وجه مخصوص.
بعض الناس يصفون الله تعالى بالصفات الواجبة له على وجه مخصوص يتصورونه هم ويسمون كل من لم يثبت الصفة على ذلك الوجه بأنه منكِر للصفة!، وهذا ظلم كبير، لأنه لا بد من الدليل على إثبات الصفة ولا بد من الدليل على إثبات الصفة بذلك الوجه المخصوص، وإلا فهو تحكم.
ـ الإيمان بأن الله جل وعلا كلم موسى عليه السلام لا بد منه لصحة الإيمان، لأنه ثابت بنص القرآن الكريم الذي لا يحتمل أي معنى آخر سوى أنه كلمه، فمن لم يؤمن بأنه كلمه فهو خارج عن دائرة الإيمان، ليس في هذا ذرة من شك. وهذا بإجماع أهل العلم.
لكن، كيف كان تكليمه تعالى للكليم عليه السلام؟:
قد تقول طائفة إن العقل البشري المخلوق لا يعلم الكيفية فنفوض العلم بها لله، ولكنا نعلم قطعا أنها ليست من جنس تكليم المخلوق للمخلوق، فكل رواية تتضمن تشخيص الكلام الإلهي بما يجعله من جنس تكليم المخلوق للمخلوق فهي ـ عندنا ـ مختلقة موضوعة.
وقد يجدون تفسيرا للتكليم ينزه مقام الخالق جل وعلا أن يكون تكليمه لبشر من خلقه هو من جنس تكليم مخلوق لمخلوق.
وقد تقول طائفة إن العقل البشري المخلوق لا يعلم الكيفية فنفوض العلم بها لله، ويأبون القولَ بأنها ليست من جنس تكليم المخلوق للمخلوق إباء شديدا، ويأخذون بكل ما يأتي من روايات تفسيرية ـ متساهلين في دراسة أسانيدها ـ حتى ولو كانت من جنس تكليم المخلوق للمخلوق، ثم يقولون نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تمثيل.
هل هذا التلخيص يعبر عن وجهتي النظر بدقة؟ وما الذي يضيفه أهل كل طائفة من توضيح أو تصحيح؟ فليس كل واحد ينطبق قوله على قول غيره تمام الانطباق دائما، وأين الصواب؟ وأين الخلل؟.
ـ وقبل هذا وذاك فإن هذا لا علاقة له مبدئيا بالبحث الحديثي الإسنادي الذي يفحص أسانيد الروايات لبيان ما صح مما لم يصحَّ، لكنه لا بد تاليًا من ربط الأقوال والمواقف بنتائج البحث العلمي، وإلا لكانت بالهوى لا بالدليل.
ـ أستغرب جدا ممن يربط بين استعظام واستنكار هذه الرواية والقطع ببطلانها وبين كونها مخالفة لعقائد من يستعظمها ويستنكرها، ويظن أن تلك العقائد قائمة على موازين المتكلمين أتباع ملاحدة الفلاسفة المشائين المعطلين للصفات الإلهية!.
ـ القول بأن الله جل وعلا ـ عند الأشاعرة ـ لا يتكلم بمعنى أنه ليس له كلام هذا غير صحيح البتة، وأتمنى أن يرجع الأخ الكريم إلى كتب الأشاعرة بحثا عن أسماء أئمة الأشاعرة القائلين بذلك القول إن كانوا قد قالوه حقا.
وينبغي أن يذكر لنا أسماء ثلاثة من العلماء القائلين بذلك على الأقل، فلا يكفي أن ينفرد واحد أو اثنان مثلا بقول فيُنسب إلى علماء المذهب قاطبة.
ـ أستغرب جدا ممن ينسُب للأشاعرة أنهم يقولون بأن كلام الله تعالى معنى واحد!. هذا ما لا أظن أن يقوله عالم أشعري قط.
على سبيل المثال فقد قال فخر الدين الرازي في تفسيره: "المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى". ولو كان يقول بأن كلام الله تعالى معنى واحد لما قال ذلك.
ـ أستغرب جدا ممن ينسُب للأشاعرة أنهم يقولون إن كلام الله تعالى ألهمه الله جل وعلا لجبريل فعبر عنه!، أو إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي عبر عنه!، وأن ما عبر عنه محمد صلى الله عليه وسلم من كلام الله تعالى فهو قرآن، وأن ما عبر عنه موسى عليه السلام منه فهو توراة، وأن ما عبر عنه عيسى عليه السلام منه فهو إنجيل!. هذا ما لا أظن أن يقوله عالم أشعري قط، بل لا يُعقل أصلا أن يقول عالم أشعري بمثل هذا الافتراء.
ولا أرى أصْل هذه النقول إلا أكاذيبَ ومفترياتٍ اختلقها الكذابون الأفاكون فسرتْ إلى بعض المتساهلين منا، ثم تناقلها بعض العلماء والباحثين.
ـ قال الباحث:
زيادة "مَنْ ذا العبرانيُّ الذي يُكَلِّمني مِن الشَّجرة ؟ قال : أنا الله" في أثر ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه لا تُوجِبُ الطَّعنَ في عدالةِ رَاوٍ عَدْلٍ وتكذيبه.
أقول:
ابن بطة له من التساهلات في رواية الحديث ما كشف عنه الإمام الحافظ الخطيب البغدادي، كما تقدم في ترجمته، وذكرتُ فيما تقدم أن خمسة من الأئمة ضعفوه، فهو ليس ثقة بإطلاق، وأقل ما يقال فيه أنه صدوق له أوهام.
أنا لا أطعن في عدالة ابن بطة رحمه الله ولا أكذبه، ولكن لعله أتِي من مزيد سلامة وغفلة.
هذا وقد قال ابن حبان في كتاب المجروحين في ترجمة عمرو بن عبيد: "ويكْذِب مع ذلك في الحديث توهما لا تعمدا". وقال في ترجمة عبيس بن ميمون: "كان شيخا مغفلا يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات توهما لا تعمدا، فإذا سمعها أهل العلم سبق إلى قلوبهم أنه كان المتعمدَ لها".
فمن عرَف هذا علم أن ما قلته في ابن بطة لا يوجب تكذيبه ولا الطعن في عدالته.
ـ قال الباحث عن حالة من يخاصمهم:
"مُعرضِينَ عن الوحي وحقيقتِه ، وكلامِ أئمَّة الإسلام".
أقول:
لا بد من ذكر دليل واحد على الأقل عند كل قضية يدعيها الإنسان، فأنت تعتقد هذا وربما يعتقد خصمك فيك ما تنسُبه إليه، ولا تتضح الأمور إلا بالدليل والبرهان، {قل هاتوا برهانكم}.
الشيطان لا يريد أن يلتقي المسلمون ويتحاوروا حوارا علميا هادئا بالحجج الواضحة المستندة إلى الأدلة، لئلا يقع الاتفاق أو التقارب، ولذا فكل من يأبى اللقاء والتحاور الهادئ ويعطله بأي صورة من الصور فهو ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ عون للشيطان على أهل الإيمان.
وإذا لم يكن المقام مقامَ الإدلاء بالحجج على أن أولئك الخصوم هم من المعرضين عن الوحي وحقيقته وكلامِ أئمة الإسلام فلا أرى من المناسب ولا من الجائز إلقاءَ التهم على الناس جزافا.
وإذا كان الباحث يريد بيان ذلك فليكتب كتابا عن المواقف التي أعرض خصومه فيها عن الوحي وحقيقته، وليذكرْ من هم أئمة الإسلام الذين يجب عليهم أن لا يخالفوهم، والمواقف التي خالفوهم فيها، بالأدلة والتوثيق.
* وفي الختام أقول للأخ الباحث: رُوي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال لمن سبه: "لا أمحو عنك شيئا مما قلتَ بأن أسبَّك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنتَ صادقا يأجرك الله بصدقك، وإن كنتَ كاذبا فالله أشد نقمة".
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 26/ 2/ 1437، الموافق 8/ 12/ 2015، والحمد لله رب العالمين.


رسالة لمن يخالطون الحكام الظالمين


قال الزمخشري في كتاب الكشاف والعهدة في النقل عليه: [ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: "عافانا الله وإياك ـ أبا بكر ـ من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمَك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله بما فهَّمك الله من كتابه وعلـَّمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}، واعلم أنّ أيسر ما ارتكبتَ وأخفّ ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي، بدنوّك ممن لم يؤدّ حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يُدخلون الشكّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمِنك أن تكون ممن قال الله فيهم {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً}؟!،  فإنك تعامِل من لا يجهَل، ويحفظ عليك من لا يغفـُل، فداوِ دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام"].
قال مقيده عفا الله عنه: إذا كان قد قيل هذا فيمن يخالط أولئك فما حال الذين يخالطون المجرمين الفجرة في زماننا ويزينون لهم ما هم عليه من البطش والفجور؟!.
نسأل الله السلامة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي.

الأحد، 25 أكتوبر 2015

من آداب البحث والمناظرة


عطاء بن أبي رباح من سادات التابعين يغضب إذا اعترض رجل رجلا وهو يحدث بحديث

قال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثني مهدي بن ميمون، قال: حدثني معاذ بن سعيد الأعور، قال: كنا عند عطاء فحدَّث رجل بحديث، فاعترضه رجل، فغضب عطاء فقال: "ما هذه الأخلاق؟!، ما هذه الطباع؟!، والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه ولعسى أن يكون سمعه مني فأنصِتُ إليه وأريه كأني لم أسمعه قبلَ ذلك". قال عمرو بن عاصم: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن المبارك فقال: لا أنزع نعلي حتى أذهب إلى مهدي بن ميمون فأسمعَه منه.


الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

حديث "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء"

 بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
ـ هذا الحديث رواه النسائي في السنن الكبرى والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والطبراني في الدعاء وابن السني والبيهقي في الأسماء والصفات وكذا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبزار بنحوه، من طرق عن أنس بن عياض عن أبي مودود عن محمد بن كعب عن أبان بن عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم فقالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح، وإن قالها حين يصبح لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يمسي".
[أنس بن عياض مدني صدوق ثقة فيه لين مات سنة 200. أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان مدني ثقة. محمد بن كعب القُرظي مدني ثقة مات سنة 118. أبان بن عثمان بن عفان مدني ثقة مات سنة 86 أو قبلها وقيل سنة 102. عثمان بن عفان رضي الله عنه قتل سنة 35].
أبان بن عثمان نفى الإمام أحمد سماعه من أبيه، ولكنه صرح بسماعه من أبيه في حديث "لا يَنكِح المحرم ولا يُنكِح"، كما في صحيح مسلم، فالظاهر أنه أدرك أباه وهو صغير وسمع منه قليلا.
والحديث رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن الحباب العكلي، ورواه أبو داود والنسائي في الكبرى بنحوه عن عبد الله بن مسلمة، قالا: حدثنا أبو مودود قال حدثني من سمع أبان بن عثمان قال حدثني أبي عثمان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال إذا أصبح وإذا أمسى ثلاث مرار بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يصبه في يومه ولا في ليلته شيء".
ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن أبي مودود أنه قال: "حدثني رجل عن رجل أنه سمع أبان بن عثمان". ورواه ابن أبي حاتم في علل الحديث عن أبيه عن حماد بن زاذان عن عبد الرحمن بن مهدي بنحوه. [حماد بن زاذان وثقه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان].
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام بن عبد المجيد الأصبهاني قال حدثنا أبو عامر العقدي قال حدثنا أبو مودود قال: "حدثني رجل قال حدثني من سمع أبان بن عثمان قال سمعت عثمان يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". [أحمد بن عصام بن عبد المجيد الأصبهاني ثقة ولد سنة 185 تقريبا وات سنة 272. أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو بصري ثقة مشهور مات سنة 204].
وروايات زيد بن الحباب وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر العقدي بخلاف رواية أنس بن عياض مما يوهنها ويعلها، لأن تلك الروايات تجعل الحديث عن مبهم وليس عن محمد بن كعب.
ونقل أبو حاتم الرازي في كتاب العلل عن عبد الرحمن بن مهدي أنه أنكر أن يكون الحديث عن محمد بن كعب القرظي وقال: أملى علي أبو مودود: "حدثني رجل عن رجل أنه سمع أبان بن عثمان عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وخلاصة الحال في هذا الطريق أنه معلول بإبهام أحد الرواة في سلسلة الإسناد، وقد أعله بهذا أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني، ولكنه يتقوى بطريق ابن أبي الزناد عن أبيه، كما سيأتي.
ـ والحديث رواه عبد بن حميد والنسائي في الكبرى من طريقين عن ابن أبي فديك عن يزيد بن فراس عن أبان بن عثمان عن عثمان به. [يزيد بن فراس مجهول].
ـ ورواه ابن حنبل عن سُريج بن النعمان، والدولابيُّ في الكنى والأسماء من طريق داود بن عمرو الضبي، وابنُ فيل في جزئه من طريق داود بن منصور ويحيى بن الطباع، والخرائطيُّ في مكارم الأخلاق من طريق سعد بن عبد الحميد، خمستهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن أبان بن عثمان عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ولفظه "من قال في أول يومه أو في أول ليلته بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضرَّه شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة".
[سُريج بن النعمان بغدادي صدوق ثقة مات سنة 217. داود بن عمرو الضبي بغدادي ثقة مات سنة 228. داود بن منصور نسائي سكن بغداد صدوق ثقة فيه لين مات سنة 223. يحيى بن الطباع كذا ولعله محمد بن عيسى بن نجيح ابن الطباع، فقد ذكر المزي ابنَ أبي الزناد في شيوخه، وهذا بغدادي ثقة ربما دلس الإسناد ومات سنة 224. سعد بن عبد الحميد بن جعفر مدني سكن بغداد صدوق فيه لين قيل مات سنة 219. عبد الرحمن بن أبي الزناد مدني وثقه جماعة وضعفه جماعة، فهو صدوق فيه لين، حديثه بالمدينة مقارب وببغداد مضطرب، ومات سنة 174. أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مدني ثقة مات سنة 131].
ورواه أبو داود الطيالسي ـ ومن طريقه البخاري في الأدب المفرد والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار ـ عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم أو مساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم إلا لم يضرَّه شيء". ورواه الحاكم عن أبي بكر بن أبي نصر الداربردي ـ وهو محمد بن أحمد بن محمد بن حاتم كما حققه الشيخ نايف بن صلاح المنصوري ـ عن أحمد بن محمد بن عيسى القاضي البرتي عن عبد الله بن مسلمة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه.
ـ والحديث بمجموع طرقه لا ينزل عن مرتبة الحسن، باللفظ الذي جاء في الروايات المتعددة المذكورة في صدر هذا البحث.
وأما الرواية التي جاءت بلفظ "في صباح كل يوم أو مساء كل ليلة" فهي غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 29/ 12/ 1436، والحمد لله رب العالمين.

الاثنين، 12 أكتوبر 2015

حديث "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها"

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين.
ـ هذا الحديث رواه ابن حنبل والبغوي وابن قانع كلاهما في معجم الصحابة عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن الوليد بن المغيرة المعافري عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".
[زيد بن الحباب كوفي ثقة فيه لين مات سنة 203. الوليد بن المغيرة بن سليمان المعافري مصري صدوق مات سنة 172. عبد الله بن بشر الخثعمي كوفي روى عنه شعبة والسفيانان وغيرهم وذكره ابن حبان في الثقات].
هذا الإسناد فيه مشكلة مما يشير إلى احتمال كبير في وجود خلل فيه، وهي رواية كوفي عن مصري عن كوفي!، ومثل هذا لا يجيء ـ حسبما وقفت عليه ـ في الروايات المستقيمة، وسيتبين الحل بإذن الله بعد تمام تخريج الحديث.
ـ ورواه البخاري في التاريخ الكبير والأوسط والبغوي وابن قانع كلاهما في معجم الصحابة والطبراني في الكبير وابن منده في معرفة الصحابة والحاكم وأبو نعيم في معرفة الصحابة، من طريق أبي كريب محمد بن العلاء وعبدة بن عبد الله الصفار وعثمان بن أبي شيبة وأبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي، أربعتهم عن  زيد بن الحباب عن الوليد بن المغيرة المعافري عن عبيد أو عبيد الله بن بشر الغنوي عن أبيه مرفوعا به.
ـ يتبين من النظر في هذه الروايات:
أن أبا بكر بن أبي شيبة وهِم في تسمية شيخ الوليد بن المغيرة إذ سماه عبد الله بن بشر الخثعمي، فجاءت الرواية في مسند ابن حنبل وإحدى الروايات في معجم الصحابة للبغوي ولابن قانع مشتملة على هذا الوهَم.
وأن الصواب تسمية ذلك الراوي بعُبيد أو عبيد الله بن بشر الغنوي.
عبد الله بن بشر الخثعمي كوفي، وعبيد الله أو عبيد بن بشر الغنوي مصري، فقد قال أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل: بشر الغنوي مصري. وقال: عبيد بن بشر الغنوي من أقران ابن لهيعة. وعبد الله بن لهيعة مصري مشهور.
وبهذا ينحل الإشكال الذي تقدمت الإشارة إليه، فهذا الإسناد ليس فيه رواية كوفي عن مصري عن كوفي، ولكنه من رواية كوفي عن مصري عن مصري، وهذا لا إشكال فيه.
وهذا الراوي عبيد بن بشر الغنوي ذكره ابن حبان في الثقات، ولم أجد راويا عنه سوى الوليد بن المغيرة، فالظاهر أنه مجهول، وقد صرح علي بن المديني بذلك فقال عن هذا الطريق: راويه مجهول. [تاريخ دمشق لابن عساكر: 58/ 36. تاريخ الإسلام للذهبي بتحقيق بشار عواد معروف في حوادث سنة 98: 2/ 1044].
فالحديث سنده شديد الضعف.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 27/ 12/ 1436، والحمد لله رب العالمين.

الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

بدع الاعتقاد في التجسيم والإرجاء




بدع الاعتقاد
في التجسيم والإرجاء

بقلم
صلاح الدين بن أحمد الإدلبي



بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
وبعد، فقد يسر الله تبارك وتعالى لي أن أقرأ قدْرا ولو ضئيلا مما كتبه بعض العلماء السابقين رحمهم الله تعالى، فوجدت بعضهم يحث في عامة كتاباته على اتباع الكتاب والسنة وينهى عن مخالفتهما ويحذر من البدع تحذيرا شديدا، ويجزيه الله تعالى على ذلك خير الجزاء، ولكنْ عنده ـ إلى جانب ذلك ـ بدع في الاعتقاد، وأرى أن من الواجب الشرعي بيانَ ذلك، نصحا للأمة، وإبراء للذمة.
ـ أقول بادئ ذي بدء: روى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". ورواه البخاري بنحوه. [صحيح مسلم: 4/ 1999].
ومن التوادِّ والتراحم والتعاطفِ البعدُ عن كل ما يفرق جماعة المسلمين ويقطـِّع أوصالهم، وهذا يتطلب منا الاجتماع على ما اجتمعنا عليه ومتابعة الحوار العلمي الهادئ فيما اختلفنا فيه، من باب "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

بدعة التجسيم
ـ قد يقع في كلام بعض العلماء شيء من البدع، والواجب التحذير من الوقوع فيها مع الدعاء لمن وقعت في كلامه بأن يجعلها المولى جل جلاله مغفورة في جانب حسناته، بفضله وكرمه.
والواجب على من يحبون ذلك العالم الذي وقع في كلامه شيء منها أن لا تأخذهم العزة فيرفضوا الحق ويستمسكوا بما لا دليل له، بل عليهم أن يقبلوا النصح ويتجنبوا البدع ويصححوا مسار الفئة التي هم فيها.
ومن المؤسف أن بعض المحبين المغالين ربما يجره استمساكه بما هو عليه إلى التغاضي عما في كلام شيخه والانتقال إلى إيرادِ ما وقع فيه غيره من أخطاء!، وهذا من الخلل في المنهج، لأن الذي يريد الحق ينبغي أولا أن يقر بحكم ما هو أمامه ثم ينتقلَ إلى مسألة أخرى إذا أحب، وهذا برهان محبة الحق بالإخلاص.
ثم عليهم بعد ذلك أن لا يبخلوا بالنصح والتسديد لسائر المسلمين، بالحث على اتباع السنن وإماتة البدع من أي فريق كان.
ـ والمراد هنا التمسك بالسنن المتفق عليها، والرجوع عن البدع المتفق على بدعيتها، وإشاعة روح الحوار حول المختلف فيه بغية الوصول إلى ظهور ما يؤيده الدليل.
والبدعة المذمومة هي كل أمر مستحدث في الدين ليس له دليل يدل على صحته من نصوص الكتاب والسنة ولا يندرج تحت نص من تلك النصوص.
ـ وكل عالم من علماء المسلمين قد يكون أصاب في أشياء وأخطأ في أشياء، فلا عصمة عندنا ـ معشر أهل السنة ـ لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل واحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا من اصطفاهم الله تعالى بالنبوة والرسالة.
ـ وقبل عرض بعض النبذ من بدع الاعتقاد التي وقعت في كلام أحد العلماء لا بد من الإشارة إلى أمر هام في غاية الخطورة، وهو بدعة اتخاذ عالم من علماء المسلمين حجة وميزانا يُوزن به غيره من العلماء، وقد وقع في هذا الأمر كثير من أتباعه الذين قلدوه على غير استبصار وكثيرٌ ممن قلدوا غيره كذلك.
وذلك أن الحجة ـ عند علماء المسلمين ـ هي في كلام الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وهما الميزان الذي تـُوزن به أقوال الناس وأفعالهم لتمييز ما فيها من خطأ وصواب.
والذي فعله كثير من أتباع ذلك الشيخ رحمه الله هو أنهم استبدلوا كلامه بكلام الله تعالى وكلامِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمعرفة ما إذا كان كلام أي عالم من علماء المسلمين خطأ أو صوابا فإنهم لا يقبلون بالرجوع إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله، ولا يرضَوْن إلا بأن تـُوزن الأقوال بما قاله هو، فمن وافق قولـُه قولـَه فهذا ـ عندهم ـ هو السنة وقولُ السلف وهو الصوابُ المقبول، وما خالف قولـَه فهذا ـ عندهم ـ هو البدعة وقولُ أهل الأهواء وهو الخطأ المردود!!.
فلمعرفة ما في كلام الطحاوي أو ابن حبان أو البيهقي مثلا من صواب فإنه يجب ـ عندهم ـ أن تـُعرض أقوال أي واحد من هؤلاء على كلامه!، فمن شهدت له نصوص ذلك الشيخ فعقيدته سليمة!، ومن لم تشهد له فهو مبتدع أو فيه شيء من البدع!، وربما حكم بعض الذين يظنون أنهم أهل الفرقة الناجية من أتباعه ـ اليوم ـ على بعض العلماء بأنه مبتدع وضال ومن أهل النار!، وربما قالوا هو من أهل النار الذين تنالهم الشفاعة فيُخرَجون منها ولا يُخلدون فيها!، وربما قالوا عنه مشرك أو فيه رائحة الشرك!، لا لشيء سوى أنه مخالف لذلك الشيخ في بعض مسائل العقيدة!!.
إنه خلل كبير في فهم العقيدة السليمة عند الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ يحكم ذلك الشيخ على الأشاعرة والماتريدية مثلا بأنهم مبتدعون، وقد أخذ مقلدوه هذه المقولة وتبنوها وأشاعوها، دون بحث ولا تمحيص، فمزقوا بذلك شمل الأمة وشتتوها، فخسرت ـ وما تزال تخسر كل يوم ـ من جراء ذلك ما الله به عليم، ومن العجيب الغريب أن بعض من يريدون البحث في تمحيص هذه المسألة لا يرجعون إلى كتب الأشاعرة والماتريدية أنفسهم، ويعتمدون بالدرجة الأولى على ما نقله خصمهم عنهم!.
وكلامي هذا لا يعني أن هذه المذاهب وأمثالها كلها صواب أو كلها خطأ، ولكن الذي أريده أمران:
أحدهما أن يتم توثيق الأقوال المردود عليها من كتب أصحابها وأهل مذاهبهم، لا من كتب مخالفيهم.
وثانيهما أن يُحتكـَم في مناقشتها لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه وما انبثق عنهما، لا إلى ما قاله الرجال.
ـ كثيرا ما يأتي ذلك الشيخ في كتبه ببعض الأقوال في العقيدة دون أن يذكر ما يشهد لصحتها من نصوص الكتاب والسنة الثابتة، وهو يردد مرارا وتكرارا أنه على منهج السلف وأنه لا يخرج عن أقوال السلف، وحيث إن فيها بعضَ ما يخالف منهج السلف وأقوال السلف فإنها بحاجة إلى مراجعة شاملة من قِبل أهل العلم المنصفين، بحيث يتم تأكيدُ ما له دليل يثبته، وتزييفُ ما عليه دليل ينفيه، والتوقفُ فيما ليس له لا هذا ولا ذاك.
وهذه بعض النبذ من كلام ذلك الشيخ ـ رحمه الله وغفر له ـ والتي أرى أنها مشتملة على خلل في العقيدة:
* 1 ـ أنكرَ الشيخ أن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ورأى قولَ ابنِ حزمٍ في كتاب مراتب الإجماع "وأن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه"، فعلـَّق قائلاً: "هذه العبارة ليست في كتاب الله، ولا تـُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين". [نقد مراتب الإجماع: 1/ 303].
أقول:
كلامه مخالف للحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره". [انظر إن شئت: كتاب حديث كان الله ولم يكن شيء غيره رواية ودراية وعقيدة بقلم صلاح الدين الإدلبي].
كما انعقد إجماع العلماء ـ على ما نقله ابن حزم ـ على القول بمدلول هذا الحديث الصحيح قبل أن يجيء ذلك الشيخ ويخرقَ الإجماع.
وهذه أسماء من وقفت على أقوالهم من العلماء القائلين بأن الله كان ولم يكن شيء غيره:
ـ يزيد بن هارون من شيوخ الإمام أحمد والمتوفى سنة 206.
ـ الإمام الكبير أحمد بن محمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي المتوفى سنة 241.
ـ الإمام الترمذي صاحب السنن المتوفى سنة 279، حيث ذكر في سننه قول يزيد بن هارون الذي تقدم قريباً ولم يذكر له مخالفاً ولا تعقبه بشيء.
ـ محمد بن جرير الطبري صاحب تفسير القرآن وتهذيب الآثار والمتوفى سنة 310.
ـ ابن خزيمة صاحب كتاب المسند الصحيح وكتاب التوحيد والمتوفى سنة 311، حيث روى الحديث في كتاب التوحيد بلفظ "كان الله ولا شيء غيره"، ولم يتعقبه بشيء.
ـ أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية المتوفى سنة 321.
ـ ابن حبان صاحب كتاب الصحيح وكتاب الثقات والمتوفى سنة 354.
ـ الآجري صاحب كتاب الشريعة المتوفى سنة 360، حيث روى الحديث في كتاب الشريعة بلفظ "كان الله ولا شيء غيره"، ولم يتعقبه بشيء.
ـ الفقيه الحنبلي ابن بطة صاحب الإبانة المتوفى سنة 387.
ـ القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب التمهيد والإنصاف المتوفى سنة 403.
ـ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى سنة 429.
ـ الفقيه الشافعي أبو محمد الجويني عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين والمتوفى سنة 438.
ـ الشيخ الزاهد أبو الحسن علي بن عمر القزويني المتوفى سنة 442.
ـ أبو نصر الوائلي السجزي عبيد الله بن سعيد المتوفى سنة 444، في رسالة الرد على من أنكر الحرف والصوت، والتي هي معتمدة عند ذلك الشيخ، ولعل قول السجزي في هذه المسألة هو من القسم الثابت عنه من تلك الرسالة، لقرينة التوافق مع أقوال غيره من أهل العلم.
ـ ابن حزم الأندلسي صاحب كتاب المحلى بالآثار والإحكام في أصول الأحكام ومراتب الإجماع والمتوفى سنة 456، ونقل عليه الإجماع.
ـ البيهقي صاحب السنن الكبرى وشعب الإيمان المتوفى سنة 458.
ـ القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء شيخ الحنابلة المتوفى سنة 458، وقد قال في كتاب المعتمد: "والحوادث لها أول ابتدأت منه، خلافاً للملحدة".
ـ ابن عبد البر الأندلسي صاحب كتاب التمهيد في شرح الموطأ المتوفى سنة 463.
ـ البغوي صاحب شرح السنة المتوفى سنة 516.
ـ أبو القاسم الأصبهاني إسماعيل بن محمد بن الفضل صاحب كتاب الحجة في بيان المحجة المتوفى سنة 535. وقال فيه: "مذهب أهل السنة والمقتدين بالسلف أن الله تعالى كان ولا شيء معه". وهو هنا ينقله عن أهل السنة دون أن يذكر فيه خلافا.
ـ القاضي أبو بكر بن العربي صاحب عارضة الأحوذي المتوفى سنة 543.
ـ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق المتوفى سنة 571.
ـ ابن الجوزي الحنبلي صاحب زاد المسير وكتاب الموضوعات الكبرى المتوفى سنة 597.
ـ الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 600، فقد قال: كان الله ولا مكان. ذكره عنه الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة والحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء وفي تاريخ الإسلام.
ـ الفقيه الحنبلي أحمد بن حمدان المتوفى سنة 695.
ثم جاء الشيخ المشار إليه ـ رحمه الله وغفر له ـ فأنكر أن يكون قد كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، مخالفا للحديث الصحيح ولكل أولئك الأئمة الأعلام دون أن نجد لهم مخالفا قبله، وهذا يعني أنه يقول بأن الله تعالى ليس منفردا بالوجود في الأزل!!، وأنه يقول بالقدم النوعي لبعض المخلوقات!!.
* 2 ـ يرى الشيخ أن الله تعالى يُقعِد نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم معه على العرش، فقد ذكر ـ مع الإقرار والتسليم ـ الأَثرَ الوارد في هذا عن مجاهدٍ رحمه الله من كتاب السُّنة لأَبي بكر بن أَبي عاصم، من روايته عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد أنه قال: "قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا: يُقعِده معه على العرش". ولم يذكر أنَّ ليثاً هذا هو ابن أَبي سُليم وأنَّه كان قد اختلط، ولم يتعقبه في المتن كما لم يتعقبه في السند. [الفتاوى الكبرى: 6/ 410. مجموع الفتاوى: 4/ 374. إقامة الدليل على إبطال التحليل: 5/ 88].
وقد أكد على القول بهذا الاعتقاد في موضع آخر إذ يقول: "حديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش ثابت عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول". [درء تعارض العقل والنقل: 3/ 19].
أقول:
لم يذكر الشيخ أسماء السلف الذين كانوا يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول سوى الرواية عن مجاهد!، ولا مَن هم السلف الذين ينبغي أن تـُذكر أقوالهم في مقام ترجيح قول على قول.
إذا كان السلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى فمجاهد رحمه الله منهم لأنه من التابعين، ولكن لم يذكر لنا غيره لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباع التابعين، والسند إلى مجاهد رحمه الله لم يصحَّ عنه، فكان الواجب عدم إقحام الروايات الضعيفة في العقيدة.
ثم إن هذا المعنى يذكره أهل الكتاب الذين يجعلون مثل هذا المقام لسيدنا عيسى عليه السلام، ثم تسرب إلى بعض المسلمين فيما تسرب من الإسرائيليات، وهذه بعض نصوصهم في ذلك مما يسمونه الكتاب المقدس: ففيه: [لأن داود لم يصعد إلى السماوات، وهو نفسه يقول قال الرب لربي "اجلس عن يميني"]. وفيه: "من يغلبْ فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضا وجلست مع أبي في عرشه". وفيه: "وأما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله".
وكنت قد قلت في كتاب عقائد الأشاعرة في حوار هادئ: [ومما ينبغي أن يُعلم أن هذه عقيدة نصرانية ضالة، يقول بها النصارى في حق عيسى عليه السلام، فتسربت إلى بعض جهلة المسلمين، فنقلوها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الإنجيل المحرف الذي بأيدي النصارى هذا النص: "وبعدما كلمهم الرب يسوع رُفع إلى السماء وجلس عن يمين الله". إنجيل مرقس: 16/ 19].
ثم إن تفسير الآية الكريمة بهذا المعنى الذي تسرب إلى المسلمين من الإسرائيليات مخالف للتفسير الصحيح في معنى هذه الآية:
فقد روى البخاري من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحبس المؤمنون يوم القيامة، فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم، ...، فيأتون نوحا، ...، فيأتون إبراهيم، ...، فيأتون موسى، ...، فيأتون عيسى، فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، ...، فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمُنيه، فيحدُّ لي حدا، فأخرجُ، فأدخِلهم الجنة، ...، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن". ثم تلا هذه الآية {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. [صحيح البخاري: 9/ 131].
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثـًى، كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود". الجُثى جمع جُثية، وهي الشيء المجموع. [صحيح البخاري: 6/ 86].
وهذه بعض الروايات التي ذكرها السيوطي في الدر المنثور:
قال رحمه الله: [وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وسئل عنه أنه قال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي". وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} أنه قال: "مقام الشفاعة"]. [الدر المنثور: 5/ 324].
* 3 ـ يقول الشيخ بجواز التبعيض على الله تعالى، فقد وقف على بعض الآثار التي فيها القول عن الله تبارك وتعالى بأنه "أبدى عن بعضه"، فراح يثبتها ويدافع عنها، وقال: "وإنْ كان الإنكار لأنه لا يُقال في صفات الله لفظ البعض فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم، ذاكرين وآثرين". [الفتاوى الكبرى: 6/ 409. إقامة الدليل على إبطال التحليل: 1/ 435]. ويذكر هذا دون دراسة للأسانيد!.
كما نقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: "أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره، وإنه راجع إلى الذات، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا ما يخرجها عما تستحق، ولا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض". [الفتاوى الكبرى: 6/ 413. إقامة الدليل على إبطال التحليل: 5/ 95]. ولم يعترض عليه.
أقول:
لا يمتنع عنده أن نقول "أبدى عن بعضه"، وأنه "على ظاهره"، وأنه "راجع إلى الذات"، وأنه "على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض"، فتأمل واعجب!!.
والأثر المروي في هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في سنده عمرو بن عثمان الكلابي، وهذا ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. وقال عنه أبو حاتم الرازي: كان شيخاً أعمى بالرقة يحدث الناس من حفظه بأحاديث منكرة. وضعفه العُقيلي والدارقطني، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث. ومثل هذا الإسناد عنده ـ سامحه الله ـ حجة في العقيدة، وفي أقل الدرجات فهو عنده مما يُستأنس به في العقيدة!.
* 4 ـ لا يرى الشيخ مانعا من ذكر رواية فيها تشبيه كلام الله تعالى بالأصوات المخلوقة مع الإقرار، فقد قال: "قال أحمد: وحديث الزهري أنه قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعتـُه هو كلامك؟. قال: نعم، يا موسى، هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما تطيق، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمُتَّ. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك. قال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟!. قالوا: فشبهْه لنا. قال: أسمعتم الصواعق التي تقبـِل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله". [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 4/ 11. درء تعارض العقل والنقل: 1/ 377. 2/ 407. الفتاوى الكبرى: 6/ 431، 450. مجموع الفتاوى: 6/ 154].
وعلق الشيخ على هذه الرواية مؤيدا ومؤكدا [في الفتاوى الكبرى: 6/  450] فقال: "هو صريح في أنه كلمه بصوت، وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت". كذا، ويبدو أنه قد حصل تصحيف، ولعل النص أصله هكذا: "وبأدنى من ذلك الصوت".
ومن الجدير بالتنبيه هنا هو أن موسى عليه السلام ـ حسب هذه الرواية ـ لم ينكر على من طلبوا منه أن يشبه لهم الصوت، بل وشبهه لهم!.
أقول:
نسبة هذا الكلام للإمام أحمد رحمه الله غير ثابتة، والشيخ لا يتبع طريقة المحدثين بذكر سنده إلى المؤلف، ولكنه ينقل كلام الأئمة جازما ـ دون إسناد ـ موهما صحة العزو إلى المنقول عنه.
وهذا الكلام المنقول عن أحمد موجود في النسخة المنسوبة إليه والمسماة بالرد على الزنادقة والجهمية، وهي مروية من طريق أبي بكر عبد العزيز بن جعفر غلام الخلال عن أبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال عن الخضر بن المثنى عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه، والخضر بن المثنى ترجم له ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة بروايته عن عبد الله بن أحمد ورواية الخلال عنه فقط، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقال عنه الإمام ابن رجب الحنبلي في القواعد: "مجهول تفرد عن عبد الله بن أحمد برواية المناكير التي لا يُتابع عليها". ويرى الإمام الذهبي أن هذا الكتاب موضوع على الإمام أحمد. [انظر: سير أعلام النبلاء: 11/ 286]. فخضِر بن مثنى مجهول وتفرد برواية المناكير عن الإمام الثقة عبد الله بن أحمد، فروايته ضعيفة تالفة.
قال الذهبي في السير عن الرسالة التي كتبها الإمام أحمد لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: "فهذه الرسالة إسنادها كالشمس، لا كرسالة الإصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله، فإن الرجل كان تقيا ورعا لا يتفوه بمثل ذلك، ولعله قاله، وكذلك رسالة المسيء في الصلاة باطلة".
ومن الواضح أن كلمة "ولعله قاله" بهذه الصورة الواردة هنا في كلام الذهبي هي مقحمة في النص، مناقضة لما جاء قبلها من أن كتاب الرد على الجهمية المنسوب للإمام أحمد موضوع عليه.
ومن الغريب أن يضرب بعض الناس عن الحجة الواضحة صفحا ويتعلقوا بأن غير واحد من العلماء صححوا نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد، وهذا لا يفيدهم في هذا الموضع، فإن ثبت أنهم نصوا على تصحيحه فهناك فرق بين تصحيح نسبة أصل الكتاب وبين تصحيح نسبة النسخة التي وصلتنا.
ومن الغريب أن يتعلقوا بما نقله ابن القيم في كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية عن الخلال أنه قال "كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله بن أحمد وكتبه عبد الله من خط أبيه"، دون نص واضح صريح عما اشتمل عليه ذلك الكتاب الذي نقله الخلال من خط عبد الله بن أحمد!، ليُعرف هل كان فيه هذا الكلام أوْ لا؟.
ـ مرسل الزهري هذا رواه البيهقي في الأسماء والصفات، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن جرير بن جابر الخثعمي عن كعب الأحبار.
وهذا النص الإسرائيلي المصدر كله إيحاء بأن كلام الله تعالى وإسماعَه لموسى عليه الصلاة والسلام هو بصوت مادي قوي، تبلغ قوته قوة عشرة آلاف لسان، وأن الله تعالى قادر على أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت، وأنه يمكن تشبيهه!، وذلك أنه يشبه صوت الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة!، وقد صار عند من يستدل به ـ دون التفات إلى معرفة مصدره ونقـْد سنده ـ  حجة في العقيدة على الرغم من كونه من الإسرائيليات!.
وقد روى البيهقي نحو تلك الرواية من طريقين عن علي بن عاصم عن الفضل بن عيسى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سند هذه الرواية علي بن عاصم الواسطي، وهو ضعيف، وكان يخطئ ويصرُّ على الخطأ فاتهمَه لذلك عدد من الأئمة بالكذب، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وقد اتفقوا على تضعيفه، وقيل فيه منكر الحديث، وقيل فيه ليس بثقة. فهذا إسناد تالف.
* 5 ـ يرى الشيخ أن الأنبياء الذين هم صفوة الخلق يجوز أن تقع منهم الذنوب كبيرُها وصغيرُها في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة لكن مع امتناع أن يُقروا عليها!.
قال في حديثه عن أنبياء الله ورسله: "وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟، ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟، وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا؟، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والقولُ الذي عليه جمهور الناس ـ وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف ـ إثباتُ العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حُررت إنما تدل على هذا القول، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء"!. [الفتاوى الكبرى: 5/ 259. مجموع الفتاوى: 10/ 292 ـ 293].
أقول:
لم يبين الشيخ مَن هم المتنازعون في جواز وقوع الكبائر من الأنبياء؟!، ولا مَن القائلون بجواز إقرارهم عليها؟!، وما المراد بالآثار المنقولة عن السلف في هذه المسألة!.
ولا أدري مَن هم المعنيون بقوله "ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟"، هل هم من علماء المسلمين حقا؟!، وهل قال بعض علماء المسلمين بأن الرسل غير معصومين من الكبائر وهو معصومون من أن يُقروا عليها فقط؟!.
فالشيخ لا يقول بعصمة الأنبياء من فعل الذنوب صغيرها وكبيرها، والعصمة الثابتة لهم ـ عنده ـ هي العصمة من أن يقرهم الله تعالى على فعلها، فقط!.
والقول بعدم عصمة الأنبياء من الذنوب الكبائر هو ما اشتملت عليه أسفار اليهود المحرفة، فتأمل كيف تتسرب الإسرائيليات أحيانا فيغفل بعض الناس ويدونها!.
ـ هذا وقد تعرض الشيخ رحمه الله لهذه المسألة في موضع آخر، إذ سئل عن رجل قال إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر دون الصغائر فكفره رجل بهذه، فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟، وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقا؟، وما الصواب في ذلك؟.
فأنقل هنا مقتطفات من جوابه، قال: "ليس هو كافرا، باتفاق أهل الدين، ولا هذا من مسائل السب المتنازَع في استتابة قائله، بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله، مع مبالغتهم في القول بالعصمة وفي عقوبة الساب، ومع هذا فهم متفقون على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة، فضلا أن يكون قائل ذلك كافرا أو فاسقا، فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول". [مجموع الفتاوى: 4/ 319].
ثم قال: "وأول من نُقل عنهم من طوائف الأمة القولُ بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل".
ثم قال: "فمن كفـَّر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والاثني عشرية".
ثم قال: "فالمكفـِّر بمثل ذلك يُستتاب فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا، وكذلك المفسِّق بمثل هذا القول يجب أن يعزر بعد إقامة الحجة عليه، فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام، وأما التصويب والتخطئة في ذلك فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذه الفتوى".
من الغريب جدا أن يترك الشيخ الجواب عن السؤال الأساسي المسؤول عنه ويتكلم فيما هو من التوابع، وقد جاء كلامه في هذا الموضع يؤكد ـ بطريق الإشارة ـ قولَه السابق بعدم عصمة الأنبياء من فعل الكبائر والصغائر وقولَه إنهم معصومون من أن يُقروا على فعلها فقط، فقد قال "القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثرِ علماء الإسلام وجميع الطوائف وأكثرِ أهل الكلام وأكثرِ أهل التفسير والحديث والفقهاء"، وقال "لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"، ولم يقل "هو قول السلف"!.
ومن المعلوم أن قوله "بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثرِ علماء الإسلام" لا يعني موافقته على ذلك، وكذا قوله "لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول" لا يعني موافقته عليه كذلك، وخاصة مع إبهام الناقل، ولو قال "هو قول السلف" فهذا يعني الموافقة، ولكنه لم يقل ذلك.
وتأمل قوله "وأما التصويب والتخطئة في ذلك فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذه الفتوى".
فقد تكلم الشيخ في هذه الفتوى عن وجوب عقوبة "المُكَفـِّر والمُفَسِّق بمثل ذلك"، وأن أول من نُقل عنهم من طوائف الأمة القولُ بالعصمة مطلقا هم الرافضة، واستطرد في خلال الجواب إلى ذكر الإسماعيليين ونسبهم وكفرهم، ثم ختم الفتوى بأن موضوع التصويب والتخطئة وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذه الفتوى، مع أن السائل طلب الجواب ولم يطلب تفصيل القول فيه، وبخل على السائل بأن يقول له إن الأنبياء معصومون من الكبائر فقط أو من الكبائر والصغائر أو ليسوا معصومين من هذا ولا ذاك!.
ويبدو أنه ما كان يريد أن يصرح هنا بما في نفسه، وخلاصة ذلك أن كلامه في الموضع الثاني يؤكد ما قاله في الموضع الذي ذكرته في أول المسألة ولا ينافيه.
* 6 ـ قال الشيخ ناقلا عن عثمان بن سعيد الدارمي ـ مع الإقرار والاحتجاج ـ في معرِض حديثه عن الله تبارك وتعالى: "ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض؟!". [بيان تلبيس الجهمية: 1/ 568. 2/ 160. وفي الطبعة الأخرى: 3/ 113. 4/ 164].
أقول:
ذكْر هذا النص من كلام الشيخ يغني عن التعليق عليه، وينبغي التنبه إلى أن هذا النص الذي نقله الشيخ عن عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله هو من نسخة النقض على بشر المريسي، وفي سند النسخة من لم أجد له ترجمة، فالنسخة الموجودة من هذا الكتاب ليست ثابتة عن عثمان بن سعيد رحمه الله. [انظر: عقائد الأشاعرة وجولة جديدة من الحوار بقلم صلاح الدين الإدلبي: ص 127]. 
* 7 ـ يرى الشيخ أنه يجوز أنْ يُوصف الله تعالى بأنه لا جوف له، وأن من لوازم هذه الصفة أنه يستحيل عليه التفرق وأن يخرج منه شيء، ويقر الاحتجاج بهذا على أنه جسم، ولكنه يشير إلى أنه جسم مُصْمَت!.
فقد قال الشيخ سامحه الله: "والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة، قد يُظن أنها مختلفة، وليس كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدهما أن الصمد هو الذي لا جوف له، والثاني أنه السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج، والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة، والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين، والاشتقاق يشهد للقولين جميعا وهو على الأول أدل"!. [مجموع الفتاوى: 17/ 214 ـ 215. بيان تلبيس الجهمية: 1/ 511، وفي الطبعة الأخرى: 3/ 54 ـ 55].
وقال: [وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد "الذي لا جوف له"، وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه وأن يخرج منه شيء، إذ ذلك ينافي الصمدية، وهو ما احْتـُج به في أنه جسم مُصْمَت"]. [بيان تلبيس الجهمية: 1/ 48 ـ 49، وفي الطبعة الأخرى: 2/ 50 ـ 51].
أقول:
المُصْمَت: الذي لا جوف له، كالحجر مثلا، والمُصْمَت من الأقفال ونحوها: المبهم المُغـْمَض فتحه، والمُصْمَت من الألوان: الخالص الذي لا يخالطه غيره.
والقول بأنه له جوف أو لا جوف له: هذا من صفات الأجسام، والقائل بهذا أو ذاك غارق في بحر التجسيم.
الله تبارك وتعالى يصف نفسه بأنه الصمد، وبعض الناس يصفونه بأنه المُصْمَت، ويرون أن هذه من تلك!.
فيما تقدم من كلام الشيخ نجد أنه يجوِّز أن نصف الله تعالى بأنه لا جوف له، وأن هذا هو أرجح الأقوال عنده في تفسير اسم الله الصمد، وأن هذا القول مروي بالأسانيد الثابتة عن الصحابة رغم أنه لم يصحَّ عن أي واحد من الصحابة!، كما نجد عنده أن من لوازم هذه الصفة أنه يستحيل عليه التفرق وأن يخرج منه شيء، وكأنه ذرات مجتمعة لكنها غير قابلة للانفصال عن بعضها!، ثم هو يقر الاحتجاج بهذا على أنه جسم!.
وقوله "والاشتقاق يشهد للقولين جميعا وهو على الأول أدل" جناية كبيرة على اللغة العربية ومعاجمها، لأن مشتقات لفظ الصمد تدل على أن المعنى هو السيد الذي تـُصْمَد إليه الحاجات، وليس فيما ذكروا من اشتقاقات لفظة الصمد أي دلالة على معنى أنه لا جوف له البتة، فضلا عن أن تكون أكثر دلالة عليه.
وتفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له تسرب إلى بعض التابعين رحمهم الله وغفر لهم، على خلاف الاشتقاق اللغوي، ثم تمَّ إقحامه في كتب اللغة، ثم تمَّ ترجيحه ـ عند بعض الناس ـ على المعنى الذي يشهد له الاشتقاق!.
وقال الشيخ سامحه الله: "أما القول بأنه سبحانه مركب مؤلف من أجزاء وأنه يقبل التجزؤ والانقسام والانفصال فهذا باطل شرعا وعقلا، فإن هذا ينافي كونه صمدا، وسواء أريدَ بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة ثم اجتمعت أو قيل إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض، كما في بدن الإنسان وغيره من الأجسام، فإن الإنسان وإن كان لم يزل مجتمع الأعضاء لكن يمكن أن يُفرق بين بعضه من بعض، والله سبحانه منزه عن ذلك، ولهذا قدمنا أن كمال الصمدية له، فإن هذا إنما يجوز على ما يجوز أن يفنى بعضه أو يُعدم، وما قبـِل العدم والفناء لم يكن واجب الوجود بذاته ولا قديما أزليا، فإن ما وجب قِدمه امتنع عدمُه، وكذلك صفاته التي لم يزل موصوفا بها وهي من لوازم ذاته، فيمتنع أن يُعدَم اللازم إلا مع عدم الملزوم، ولهذا قال من قال من السلف الصمد هو الدائم وهو الباقي بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبـِل العدم لم تكن صمديته لازمة له بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدا، ولا تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه، وذلك محال، فلا يكون مستوجبا للصمدية إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمَه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصرْ صمدا بعد أن لم يكن، تعالى وتقدس، فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقا فجُمع وأنه مفعول مُحْدَث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته، وأما الخالق القديم الذي يمتنع عليه أن يكون معدوما أو مفعولا أو محتاجا إلى غيره بوجه من الوجوه فلا يجوز عليه شيء من ذلك، فعُلم أنه لم يزل صمدا ولا يزال صمدا، فلا يجوز أن يقال كان متفرقا فاجتمع ولا أنه يجوز أن يتفرق، بل ولا أنْ يخرج منه شيء ولا يدخلَ فيه شيء، وهذا مما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين". [مجموع الفتاوى: 17/ 297 ـ 298].
آثرتُ أن أنقل هذا النص بتمامه من كلام الشيخ للتعريف بنوع من طريقته في التحدث عن عقيدته، فهو قد يبين بطلان أمر واضح قطعي البطلان بتطويل وإعادة وتكرار، ويسكت عن قرينه الباطل رغم كونه واضحا قطعي البطلان كذلك، وكأنه يشير بذلك إشارة خفية إلى ما يعتقده من صحته، على الرغم من أن المقام يتطلب البيان، والسكوت في معرِض البيان بيان.
فهو يعلن بوضوح أن "القول بأن الله سبحانه مركـَّب مؤلـَّف من أجزاء وأنه يقبل التجزؤ والانقسام والانفصال فهذا باطل شرعا وعقلا، وسواء أريد بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة ثم اجتمعت أو قيل إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض".
وكأنه يشير بذلك إلى جواز أن يُقال عن الله سبحانه وتعالى إنه أجزاء مجتمعة وإنها لا تقبل التجزؤ والانقسام!!، لأنه لو كان قائلا باستحالة هذا على الله تعالى لقال "إن القول بأنه سبحانه مركب مؤلف من أجزاء فهذا باطل شرعا وعقلا" دون أن يضع لها قيودا، لكنه قيَّد بطلان ذلك بما إذا قال القائل "وأنه يقبل التجزؤ والانقسام والانفصال"!!.
وفي هذا التقييد إشارة واضحة منه إلى أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو أجزاء مجتمعة لكنه غير قابل للتجزؤ والانقسام والانفصال!، وأن الأجزاء لم تزل مجتمعة، أي لم تكن متفرقة ثم اجتمعت، وأنه لا يمكن انفصال بعضها عن بعض!!.
ويبدو أن كل هذا من أجل تسويغ القول بالتجسيم، فقد قال في بيان رأيه في أن التجسيم غير مذموم: "ولم يذمَّ أحد من السلف أحدا بأنه مجسم، ولا ذموا المجسمة". [بيان تلبيس الجهمية: 1/ 100، وفي الطبعة الأخرى: 2/ 105].
والقول عن الله تبارك وتعالى إنه جسم مُصْمَت هو قول الرافضي المشبِّه هشام بن الحكم. قال المطهر بن طاهر المقدسي في كتاب البدء والتاريخ في معرِض كلامه عن الله تبارك وتعالى: "وزعم هشام بن الحكم وأبو جعفر الأحول الملقب بشيطان الطاق أنه جسم محدود متناه، وقال هشام هو جسم مُصْمَت، ليس بمجوَّف ولا متخلخل". تعالى ربنا وتقدس عن هذا علوا كبيرا. [البدء والتاريخ: 1/ 85، 140].
* 8 ـ يرى الشيخ أن الله تعالى عالٍ على كل موجود وبعضُه أعلى من بعض!!، فقد قال في حديثه عن الله تبارك وتعالى: "فإن مقصودنا أن لا يكون غيرُه أعلى منه, بل هو عالٍ على كل موجود, ثم بعد ذلك إذا قدَّرْتَ أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه لم يقدحْ هذا في كماله, فإنه لم يَعـْلُ على شيء منه إلا ما هو منه, لا مِن غيره، وأيضا فإن مثل هذا لا بد منه، والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان، وأيضا فإن مثل هذا كمال في العلو، ولا يقدح في العالي أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن غيره عاليا عليه". [درء تعارض العقل والنقل: 3/ 293].
أقول:
فهو يتكلم عن الله جل وعلا وكأنه ذرات مجتمعة وبعضها أعلى من بعض، وأنه لا يعلو على شيء منه إلا ما هو منه!!، وتأمل قوله "ولا يقدح في العالي أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن غيره عاليا عليه". تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
* 9 ـ يذكر الشيخ بعض الروايات التي تشتمل على تشبيه الخالق جل وعلا بخلقه في معرض القبول والاحتجاج، ومن ذلك نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عن السماء والأرض في يد الله جل وعلا: "يقبـِض عليهما فما يُرى طرفاهما بيده". وفي لفظ عنه: "ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بيد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". ثم يقول الشيخ: وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث!. [مجموعة الرسائل والمسائل: 4/ 117].
أقول:
أما القول الأول المنسوب لابن عباس "يقبض عليهما فما يُرى طرفاهما بيده" فلم أقف عليه مرويا بسند، ووجدته في تفسير مقاتل بن سليمان البلخي بلا إسناد، قال مقاتل: قال ابن عباس: "يقبض على الأرض والسماوات جميعًا فما يُرى طرفهما من قبضته". [تفسير مقاتل بن سليمان: 3/ 139].
وإيراد هذا الأثر من تفسير مقاتل بن سليمان ـ وهو متهم بالكذب وبالتشبيه ـ وحشْرُه مع الصحاح ومحاولة تثبيته بقوله "وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث" أمر يدعو إلى العجب!.
وأما القول الثاني المنسوب لابن عباس فرواه الطبري في التفسير [20/ 246] من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم".
[معاذ بن هشام الدستوائي بصري مختلـَف فيه، وثقه عدد من الأئمة، ولكن كان يحيى بن سعيد القطان لا يرضاه، وقال فيه ابن معين: صدوق وليس بحجة. وقال فيه مرة أخرى: لم يكن بالثقة. وقال ابن عدي: ربما يغلط في الشيء بعد الشيء وأرجو أنه صدوق. وقال ابن حجر: صدوق ربما وهم. مات سنة 200].
فهذا السند لين، والمتن هو بكلام أهل الكتاب أشبه، فلا تصح نسبته لابن عباس، ومثل هذا لا يصلح للاحتجاج به في العقائد.
ورواه ابن أبي شيبة وابنُ منده في الرد على الجهمية وابنُ شاذان في كتاب تفسير مجاهد من طريقين عن حماد بن سلمة عن أبي سنان عيسى بن سنان عن وهب بن منبه أنه قال: " ما الخلق في قبضة الله إلا كخردلة ههنا من أحدكم".
[عيسى بن سنان شامي نزيل البصرة، ضعيف، مات بين سنة 141 وسنة 150 تقريبا].
فالظاهر أن أصل هذا القول هو من كلام وهب بن منبه حتى وإن كان الراوي عنه ضعيفا، لأن مثل هذا النقل عنه ليس مظنة الخطأ، ولا هو في محل وجوب مزيد الحذر والاحتياط، ولعله وصل بعد ذلك إلى معاذ بن هشام الدستوائي ـ وهو من الرواة غيرِ المتقنين ـ فانقلب عليه إسناده فرواه بالسند المتقدم عن ابن عباس.
* 10 ـ يرى الشيخ أن الذي يجب على كل مؤمن الإيمانُ به وإن لم يفهم معناه ليس مقتصرا على ما في الكتاب والسنة، وقال: "ما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمانُ به وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يُوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة". [الرسالة التدمرية ص 45. مجموع الفتاوى: 3/ 41].
أقول:
هذا يعني أن العقيدة الإسلامية ـ عنده ـ ليست مكتملة في الكتاب ولا في السنة!، وأن من يقتصر على العقيدة الثابتة فيهما ليس محققا للإيمان بكل ما يجب عليه أن يؤمن به!، لأن الشيخ يرى أن ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها يجب على كل مؤمن الإيمانُ به وإن لم يفهم معناه حتى وإن لم يكن منصوصا عليه في الكتاب والسنة!.
وهذا مخالف لقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم}، وإذا كانت العقيدة لم تكن قد اكتملت في ذلك اليوم فما الذي اكتمل؟!.
ومثل هذا يفتح بابا واسعا للأقوال التي لا دليل عليها من نصوص الكتاب والسنة فيُقالَ فيها إن هذا قول السلف!.
ولعل مما يجب الإيمان به ـ عنده ـ وإن لم يكن ثابتا في الكتاب والسنة ما تقدم من المسائل التي يقول عنها بأنها من مذهب السلف، ومن ذلك:
فعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأنه يوجد غيرُ الله معه في الأزل!، لأنه ينكر أن الله كان ولم يكن شيء غيره.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بمدلول الأثر ـ الذي يقبل الشيخ سنده ولا يعترض عليه ـ وهو المروي عن مجاهد بن جبر رحمه الله، والذي ورد فيه أن الله تعالى يُقعِد نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم معه على العرش!، فقد قال: "وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول"!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى "أبدى عن بعضه"!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى يتكلم بصوت مادي مسموع وأنه يمكن تشبيهه بصوت الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الأنبياء والرسل ليسوا معصومين عن فعل الصغائر والكبائر ـ باستثناء موضوع التبليغ عن الله تعالى ـ لكنهم لا يُقرون على ذلك.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى لا جوف له! وأنه جسم مُصْمَت!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى عالٍ على كل موجود، وبعضه أعلى من بعض!!.
وعلى مذهبه يجب أن يؤمن المسلم بأن الله تعالى يقبـِض على السماوات والأرض فما يُرى طرفاهما بيده!. تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.
ـ خلاصة البحث:
أن هذه الأقوال التي تقدمت هي من بدع الاعتقاد، وأنه يجب أن تـُجتنب.
وأنه يجب التريث في قبول أقوال الشيخ، وخاصة في العقيدة، بحيث يجب أن لا يُقبل من أقواله شيء إلا إذا أيده دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه.
وأنه لا يجوز قبول حكمه على أحد بالابتداع، إلا إذا كان ذلك مؤيدا بدليل من كتاب أو سنة ثابتة، لأنه هو نفسَه عنده أقوال بدعية، فقد يكون حكمه بذلك على غيره بسبب أنه يخالفهم في تلك المعتقدات.
ـ وفي ختام هذا المبحث أقول: لعل الشيخ كان يكتب ما يكتب وهو لا يقصد المدلولات الظاهرة من تلك البدع الاعتقادية، وأسأل الله تعالى المغفرة لي وله ولسائر المسلمين على حسن القصد وصلاح النية إن شاء الله.
ومن حقي على كل أخ عالم مخلص يظهر له في كلامي شيء من الخلل أن ينصحني بما هو الحق المؤيد بالدليل، فإن الدين النصيحة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في مجالس متباعدة، آخرها يوم الأحد 19/ 5/ 1434، الموافق 31/ 3/ 2013 سوى بعض الإضافات والتنقيحات. والحمد لله الذي بنعمته وعونه وتوفيقه تتم الصالحات.

بدعة المرجئة والإرجاء
كثر الكلام عن الإرجاء والمرجئة في هذه الأوقات الصعبة في بلاد الشام، حيث يريد كثير من الناس أن يستبيحوا حرمات المسلمين بالقتل والجلد بدعوى أن هؤلاء ليسوا على السنة! وأنهم مرجئة!.
من بدع الاعتقاد التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصر السلف منذ وقت مبكر بدعة المرجئة، وهم فرقة من المسلمين الذين ابتدعوا في العقيدة، وهي من شر الفرق، وبدأ ظهورها في زمن التابعين، فأنكر عليها السلف والخلف أشد الإنكار.
قال ابن تيمية رحمه الله: "قال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث". أي بعد قيام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وجمعٍ كبير من سادات التابعين رحمهم الله على الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 82.
تدل النصوص المنقولة في ذم المرجئة على أنهم تمسكوا بنصوص الوعد وعطلوا نصوص الوعيد، وفسروا الإيمان المنجي من عذاب الله ـ تبعا لذلك ـ بأنه إيمان القلب وإن لم يكن معه عمل!، كأنهم يرون فعل المأمورات واجتناب المحظورات نافلة من النوافل!.
وهذه بعض النصوص التي تتبين فيها بدعتهم وإنكار الأئمة عليهم:
ـ روى ابن بطة في الإبانة الكبرى واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة من طريقين عن أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: حدثنا خالد بن حيان قال حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفورا شديدا، فحججتُ، فدخلتُ على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، فأخبرته أن قوما قِبَلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: "أوَليس الله عز وجل يقول {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}؟!، فالصلاة والزكاة من الدين". فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة!. فقال: "أوَليس قد قال الله فيما أنزل {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}؟!". قال: ثم قدمتُ المدينة فجلست إلى نافع، فذكرت له قولهم، قلت إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك. فنتر يده من يدي وقال: "من فعل هذا فهو كافر".
هذا وقد نقل ابن تيمية هذا النص عن ابن حنبل مع الإقرار.
[خالد بن حيان الرقي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 191. معقل بن عبيد الله العبسي حراني صدوق ثقة فيه لين مات سنة 166]. فالسند لا بأس به.
وعطاء بن أبي رباح من سادات التابعين بمكة، مات سنة 114.
قف عند قول أولئك المرجئة "إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين".
قد يقول قائل: إن نافعا كفرهم في هذا النص المنقول فهل هم كفار؟!. أقول: من كان عنده الحد الأدنى من الإيمان ولم يعمل حسنة قط فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه من دائرة الإيمان، ولكن الحد الأدنى من الإيمان يقتضي أن يكون في القلب تعظيم لله وخضوع لأمره وإن لم يتحقق العمل في الواقع، والذين كفـَّرهم نافع رحمه الله يظهر من طريقة جوابهم أنهم مستكبرون على الله تعالى وأنه ليس في قلوبهم تعظيم له ولا خضوع، فلهذا كفرهم.
ـ روى إسحاق بن راهويه في مسنده عن العلاء بن عبد الجبار عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أنه قال: يقولون إيمان فلان كإيمان فلان!، أترون إيمان فهدان مثل إيمان جبريل؟!. وكان فهدان رجلا متهما بالشراب. [العلاء بن عبد الجبار صدوق. نافع بن عمر الجمحي ثقة ثبت].
وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة مكي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 117.
ـ ومما يدل على استهانة المرجئة بأمر المعاصي ما رواه أبو داود الطيالسي والبخاري في صحيحه وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم عن شعبة عن زبيد اليامي أنه أتى أبا وائلٍ شقيقَ بن سلمة لما ظهرت المرجئة يشكو له الحال، فروى له أبو وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المؤمن فسق وقتاله كفر". قال ابن حجر في فتح الباري: وعُرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال كيف تكون مقالتهم حقا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟!.
وأبو وائل شقيق بن سلمة كوفي من ثقات التابعين وخيارهم، مات سنة 83.
ـ روى الطبري في تهذيب الآثار من طريق سلام بن أبي مطيع أنه قال: سمعت أيوب السختياني وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول: إنما هو الكفر والإيمان. وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: "أرأيتَ قول الله تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} أمؤمنون أم كفار؟!". فسكت الرجل، فقال له أيوب: "اذهب فاقرأ القرآن، فقلَّ آية في القرآن فيها ذكر النفاق إلا أخافها على نفسي". [سلام بن أبي مطيع بصري ثقة فيه لين].
يدل هذا النص على أهم مداخل الشبهة إلى فكر المرجئة، وهو توهمهم أن الاعتقاد هو أحد قسمين على معنى التمام والكمال!، فالمرء عندهم إما مؤمن تام الإيمان أو كافر تام الكفر، وحيث إن المؤمن المرتكب للمعاصي ليس كافرا تام الكفر فهو ـ عندهم ـ مؤمن تام الإيمان!.
وقد أشار أيوب بن أبي تميمة السختياني في جوابه إلى قولِ الله تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}، وقولِه تعالى {وآخرون مُرْجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}، وسأل أيوبُ ذلك القائلَ عن هؤلاء أمؤمنون هم أم كفار؟!، فلم يجد الرجل أمامه سوى السكوت، حيث إن في تلك الآيات القرآنية الكريمة النصَّ الواضحَ البين على أن الذين اعترفوا بذنوبهم وقد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا أولئك عسى الله أن يتوب عليهم، ولو كانوا كافرين لما دخلوا تحت المشيئة.
ـ قال الخلال في كتاب السنة: قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: فإذا كان المرجئة يقولون إن الإسلام هو القول؟!. فقال: "هم يصيِّرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان". قلت: فمن ههنا حجتنا عليهم؟. قال: نعم. [عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي ثقة مات سنة 274].
يظهر من هذا النص أن اعتراض الإمام أحمد رحمه الله على المرجئة هو لأنهم يصيِّرون أمر الدين كله واحدا ويجعلون المصدق بالدين مسلما ومؤمنا وعلى إيمان جبريل ومستكملَ الإيمان.
ـ روى الخطابي في كتاب الغنية عن الكلام وأهله من طريق إسحاق بن راهويه أنه قال: قدِم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العبَّاد، الظن أنه يذهب مذهب الخوارج، فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟. فقال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن، على كِبَر السن صرتَ مرجئا؟!. فقال: لا تقبلـُني المرجئة، المرجئة تقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة، ولو علمتُ أني قـُبلتْ مني حسنة لشهدتُ أني في الجنة. ثم ذكر عن أبي شوذب عن سلمة بن كهيل عن هُزيل بن شرحبيل أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح. [أبو شوذب عبد الله بن شوذب بلخي بصري مقدسي صدوق ثقة. سلمة بن كهيل كوفي ثقة مات سنة 121. هزيل بن شرحبيل كوفي ثقة مات قرابة سنة 85، وروايته عن عمر مرسلة]. وروى ابن راهويه في مسنده ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة نحوا من ذلك.
ـ قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: "الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حُرمت على من قال لا اله إلا الله". وقال: "المرجئة توهمت أن مرتكب الذنوب والخطايا كامل الإيمان".
ـ روى ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة عن سفيان الثوري أنه قال: اتقوا هذه الأهواء المضلة. قيل له: بين لنا رحمك الله. فقال: "أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل!، من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتـَل كذا وكذا!، مؤمنٌ وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة!". فهو ينكر عليهم قولهم "مؤمنٌ مستكمل الإيمان"!.
ـ قال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: [قالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار، قال ابن عَقيل: "ما أشْبهَ أن يكون واضعُ الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فالمرجئة ـ لمَّا لم يمْكنهم جحْدُ الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل ـ أسقطوا فائدة الإثبات، وهي الخشية والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شر طائفة على الإسلام"]. وقال ابن الجوزي: "وفي ذلك الزمان حدثت فتنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة".
ـ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: [فلهذا عَظـُم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: "لفتنتـُهم أخوفُ على هذه الأمة من فتنة الأزارقة". وقال الزهري: "ما ابتـُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء". وقال الأوزاعي: "كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان ليس شيء من الأهواء أخوفَ عندهم على الأمة من الإرجاء". وقال شريك القاضي: "هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله". وقال سفيان الثوري: "تركتِ المرجئة الإسلام أرق من ثوبٍ سابـِري"]. والسابـِريّ ضرْب رقيق من الثياب يُعمل بِسابور، موضعٍ بفارس.
وقال ابن تيمية: "قالت المرجئة على اختلاف فرقهم: "لا تذهِب الكبائرُ وترْكُ الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر".
وقال: "أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط: بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكَذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمالُ الصالحة ليست من الدين والإيمانِ ويكَذبون بالوعيد والعقاب بالكلية".
وقال: "المرجئة غلطوا من ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العملِ الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكلِ عليه والشوق إلى لقائه، والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة، والثالث: قولهم كل من كفـَّره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى".
* الشبهة التي جعلت بعض الناس يدخِلون مَن ليسوا من المرجئة في اسم المرجئة:
ـ المرجئة يقولون بأن المؤمن المرتكب للمعاصي مؤمن تام الإيمان، بمعنى أن فعل الطاعات وترك المعاصي هو نافلة من النوافل، ولذا فقد رد عليهم الأئمة وبينوا ضلالهم، وبينوا أن المؤمن المرتكب للمعاصي هو مؤمن ناقص الإيمان، وكان مما تمخضت عنه حركة الابتداع هذه والرد عليها ـ عند بعض المتحمسين للرد ـ أن من قال بأن العمل ليس جزء من الإيمان فهو مرجئ!!.
وربما يستندون لبعض الأقوال المروية عن بعض العلماء، ومن ذلك ما رواه الطبري في تهذيب الآثار عن ابن عيينة والفضيل بن عياض أن المرجئة يقولون إن الإيمان قول بلا عمل، وقد روى ابن أبي يعلى كذلك في طبقات الحنابلة ـ بسند فيه مجاهيل ـ عن أحمد ابن حنبل أنه قال: من زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ.
أقول: الذي أخرجَ العمل من دائرة الدين هو مرجئ، هذا مقطوع به، وآيات القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية طافحة بوجوب امتثال الأوامر واجتناب المناهي مع التحذير من عقوبة المخالف، والذي قال بأن العمل هو ركن أساسي في الدين وهو من الإسلام ومن ثمرات الإيمان وإن لم يكن جزء منه: فهذا ليس بمرجئ، والخلاف هنا في التسمية، إما أن نقول إن العمل جزء من الإسلام أو من الإيمان، ولكن القول بأن العمل جزء من الإسلام لا من الإيمان هو ما جاء في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عندما جاء ليعلم الناس دينهم.
* إذا عُلم هذا فإني لا أعلم أن أحدا من الأشاعرة أو الماتريدية يقول إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، أو إن حسناتِنا مقبولة وسيئاتِنا مغفورة، أو إن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الذي في القلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه، أو يكون تاما بدون العمل الظاهر، أو إن مرتكب الذنوب والخطايا كاملُ الإيمان على معنى أنه ينجيه من عذاب الله، كما لا أعلم أن أحدا منهم يكذب بالوعيد والعقاب الذي أعده الله للفساق، فمن قال عن الأشاعرة أو الماتريدية إنهم مرجئة ـ بالمعنى البدعي ـ فقد قال قولا باطلا واحتمل بهتانا وإثما مبينا.
فالحذرَ الحذرَ ـ أيها المؤمنون ـ من اتهام مَن هم بريؤون من بدعة الإرجاء بأنهم مرجئة، فمن اتهم أخاه بالابتداع وليس هو كذلك فإن وزر الاتهام راجع إليه.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وسائرَ المسلمين من البدع والأهواء المضلة المخالفة للهدْي النبوي الكريم، وأن يمن علينا بصدق الاتباع للكتاب والسنة، وأن يتوفانا على الإيمان الكامل بلا محنة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 10/ 1435، سوى بعض التعديلات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.