الاثنين، 29 مايو 2017

أحاديث فضائل رمضان مما سئلت عنه في وقت قدوم رمضان

الحديث الأول:
حديث " شهر رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار"، وقال السائل: هل هو حديث منكر؟.
ـ هذا الحديث رواه ابن خزيمة وابن أبي الدنيا في فضائل رمضان والمحاملي في الأمالي وابن شاهين في فضائل رمضان وأبو الليث السمرقندي في تنبيه الغافلين والبيهقي في شعب الإيمان وفي فضائل الأوقات وقوام السنة في الترغيب والترهيب والواحدي في الوسيط من ثلاثة طرق عن علي بن زيد ابن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[علي بن زيد ابن جدعان بصري ضعيف مات سنة 131. سعيد بن المسيب مدني ثقة مات سنة 94. سلمان الفارسي صحابي مات سنة 36]. والظاهر أن سعيد بن المسيب لم يلق سلمان، فهذا الإسناد ضعيف.
ـ ورواه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان والعقيلي وابن عدي من طرق عن هشام بن عمار عن سلام ابن سوار عن مسلمة بن الصلت عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".
[سلام ابن سوار هو سلام بن سليمان بن سوار الخراساني المدائني سكن دمشق بآخره، وثقه عباس بن الوليد بن مزْيد، وقال أبو حاتم ليس بالقوي، وقال العقيلي لا يُتابع على حديثه، وقال ابن عدي منكر الحديث، فهو ضعيف ومات بعد سنة 210. مسلمة بن الصلت بصري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم متروك الحديث، وقال الأزدي: ضعيف الحديث ليس بحجة]. فهذا الإسناد تالف.
ـ هذا الحديث ضعيف الإسناد وليس فيه شذوذ، وهو يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ـ عندي ـ حديث حسن.

الحديث الثاني:
حديث "صوموا تصحوا"، وقال السائل: هل هو حديث ضعيف؟.
ـ هذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط والعقيلي من طريقين عن محمد بن سليمان بن أبي داود عن زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا".
[محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني صدوق فيه لين مات سنة 213. زهير بن محمد التميمي العنبري مروزي قدم الشام وسكن الحجاز صدوق وما رواه بالشام فهو بواطيل، مات سنة 162. سهيل بن أبي صالح مدني صدوق ساء حفظه فى آخر عمره، مات سنة 138]. فهذا الإسناد شديد الضعف.
ـ ورواه ابن عدي من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سافروا تصحوا وصوموا تصحوا واغزوا تغنموا". [نهشل بن سعيد الخراساني متروك الحديث متهم بالكذب]. فهذا الإسناد تالف.
ـ ورواه ابن عدي من طريق حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا تصحوا". [حسين بن عبد الله بن ضميرة مدني متروك الحديث متهم بالكذب]. فهذا الإسناد تالف.
ـ إسناده شديد الضعف، وذكره الصغاني في الموضوعات.

الحديث الثالث:
حديث "من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صم الدهر وإن صامه"، وقال السائل: هل هو حديث ضعيف؟.
ـ هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن راهويه وابن حنبل والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق أبي المطوِّس عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله". وعند بعضهم "عن ابن المطوس عن أبيه عن أبي هريرة"، وعند بعضهم "عن أبي المطوس عن أبي هريرة".
[أبو المطوس: قال يحيى بن معين: "اسمه عبد الله بن المطوس، أراه كوفيا ثقة". و قال البخاري: اسمه يزيد بن المطوس. فهو أبو المطوس وابن المطوس. وقال فيه ابن حبان: "رجل من أهل الكوفة يروي عن أبيه ما لم يُتابع عليه، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". المطوس ذكره ابن حبان في الثقات]. فهذا السند ضعيف.
قال الإِمام أحمد: لا أعرف أبا المطوس، ولا ابن المطوس. وقال: ليس يصح هذا الحديث.
ـ ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن واصل الأحدب عن مغيرة بن عبد الله اليشكري عن رجل عن ابن مسعود موقوفا به. ورواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن واصل الأحدب عن مغيرة اليشكري عن بلال بن الحارث عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[واصل بن حيان الأحدب كوفي ثقة مات سنة 120 أو 129. مغيرة بن عبد الله اليشكري كوفي وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات. بلال بن الحارث المزني مدني صحابي مات سنة 60]. فهذا إسناد جيد.
ورواه ابن أبي شيبة من طريق عمر ابن يعلى الثقفي عن عرفجة عن علي رضي الله عنه. [عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي كوفي ضعيف منكر الحديث. عرفجة بن عبد الله الثقفي كوفي ذكره ابن حبان في الثقات]. فهذا إسناد ضعيف.
ـ فالحديث ضعيف الإسناد، ولكنه رُوي بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله موقوفا عليه.

الحديث الرابع:
حديث "إن لله عند كل فطر عتقاء من النار"، وقال السائل: هل هو حديث ضعيف؟.
ـ هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والبيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات عن أبي كريب محمد بن العلاء وغيره عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغُلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتِحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة". [أبو بكر بن عياش كوفي معمَّر صدوق ثقة فيه لين مات سنة 193]. هذا الإسناد لين.
ـ ورواه الطبراني في الكبير عن عبيد بن غنام عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن الحسن بن شقيق، ورواه البيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات من طريق الأعمش، كلاهما عن حسين بن واقد عن أبي غالب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله عز وجل عند كل فطر عتقاء من النار".
[عبيد بن غنام بن حفص بن غياث صدوق ثقة ولد سنة 211 ومات سنة 297. أبو بكر بن أبي شيبة ثقة إمام مات سنة 235. علي بن الحسن بن شقيق مروزي ثقة مات سنة 215. الحسين بن واقد مروزي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 159. أبو غالب بصري لين. أبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان صحابي نزل حمص مات سنة 86]. هذا الإسناد ضعيف.
ـ ورواه المخلص من طريق محمد بن حميد الرازي بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في رمضان تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُغل مردة الشياطين، وينادي مناد من السماء يا طالب الخير هلم، هل من تائب يُغفر له؟!، هل من سائل يُعطى؟!، ولله عز وجل عتقاء عند كل فطر كل ليلة، عتقاء من النار". [محمد بن حُميد الرازي حافظ متهم بالكذب مات سنة 248].
ـ فالحديث بمجموع الطريقين الأولين حسن.

الحديث الخامس:
حديث "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها، إن الجنة لتتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول"، وقال السائل هل هو حديث ضعيف؟.
ـ هذا الحديث رواه ابن خزيمة ـ وقال إن صح الخبر ـ والشاشيُّ وابن شاهين في فضائل رمضان من طريق جرير بن أيوب البجلي عن الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن يكون السنةَ كلها، إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أولُ يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش". الحديثَ.
[جرير بن أيوب البجلي منكر الحديث واتهم بالوضع. نافع بن بردة لم أجد له ترجمة]. فهذا الإسناد تالف.
ـ ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريق محمد بن بكار عن الهياج بن بسطام عن عباد عن نافع عن أبي مسعود الغفاري به.
[محمد بن بكار بن الريان بغدادي معمر صدوق ثقة مات سنة 238. الهياج بن بسطام هروي ضعيف مات سنة 177. عباد: هو عباد بن كثير، كما في أحد أسانيد تاريخ أصبهان لأبي نعيم وكما في تلخيص الموضوعات للذهبي، والظاهر أنه البصري المكي، وهو متروك الحديث مات قرابة سنة 145. نافع بن بردة لم أجد له ترجمة]. فهذا الإسناد تالف.
فسند هذا الحديث تالف، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.

الحديث السادس:
حديث "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"، وقال السائل هل هو حديث ضعيف؟.
رواه ابن أبي الدنيا والبزار والطبراني في الدعاء وفي الأوسط والخلال في فضائل شهر رجب والبيهقي في الدعوات وفي فضائل الأوقات من طرق عن زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس بن مالك أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
[زائدة بن أبي الرقاد بصري ضعيف منكر الحديث. زياد بن عبد الله النميري بصري لين]. فهذا الإسناد شديد الضعف.

الحديث السابع:
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الإفطار "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت"، وقال السائل هل هو حديث ضعيف؟.
ـ هذا الحديث رواه ابن المبارك في الزهد، ورواه ابن أبي شيبة وأبو داود في السنن وفي المراسيل والبيهقي من طريقين آخرين، كلهم عن حصين عن معاذ أبي زهرة أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وسلم إذا أفطر قال: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
[حُصين بن عبد الرحمن كوفي ثقة تغير حفظه في الآخر مات سنة 136. معاذ أبو زهرة ذكره ابن حبان في ثقات التابعين]. فهذا الإسناد مرسل، وهو ضعيف.
ـ ورواه الطبراني في الدعاء وفي المعجم الصغير والأوسط من طريق داود بن الزبرقان عن شعبة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك به.
[داود بن الزبرقان بصري نزل بغداد منكر الحديث واتهِم بالكذب]. فهذا الإسناد تالف.
ـ ورواه الطبراني في الكبير وابن السني في عمل اليوم والليلة والدارقطني من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن ابن عباس به.
[عبد الملك بن هارون بن عنترة متروك الحديث متهم بالكذب والوضع. أبوه هارون بن عنترة كوفي ثقة فيه لين مات سنة 142. جده عنترة بن عبد الرحمن الشيباني كوفي ثقة فيه لين]. فهذا الإسناد تالف.
ـ ورواه ابن سعد عن الفضل بن دكين عن شريك عن حصين عن هلال بن يساف عن الربيع بن خثيم أنه كان يقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت.
[شريك بن عبد الله النخعي كوفي، قال ابن حبان في الثقات: كان فى آخر أمره يخطئ فيما روى، تغير عليه حفظه، فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط، وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة. مات سنة 177. حُصين بن عبد الرحمن كوفي ثقة تغير حفظه في الآخر مات سنة 136. هلال بن يساف كوفي ثقة]. هذا السند لين، ولكن يُتساهل في إسناد مثل هذه الرواية في غير الأحاديث المرفوعة، والربيع بن خثيم كوفي ثقة من كبار التابعين.
فهذا الحديث ضعيف الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبدو أنه من قول التابعي الربيع بن خثيم رحمه الله.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 2/ 9/ 1438، الموافق 28/ 5/ 2017، والحمد لله رب العالمين.

الجمعة، 19 مايو 2017

حديث "إن في السنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ لا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ أو سقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا نزل فيه من ذلك الوباء".

حديث "إن في السنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ لا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ أو سقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا نزل فيه من ذلك الوباء".

ـ روى مسلم من طريق الليث بن سعد ومالكِ بن أنس وزهيرِ بن معاوية وسفيانَ الثوريِّ عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غطوا الإناء، وأوْكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكرَ اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم". ولم يذكر قتيبة في حديثه "وأغلقوا الباب".
الوِكاء هو رِباط القِربة، أوْكى يوكِي إيكاء: ربط فم القِربة بالوِكاء. الفويسقة: الفأرة.
وروى مسلم من طريق روح بن عبادة قال حدثنا ابن جريج أنه قال أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنحُ الليل فكفوا صبيانكم فإن الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعةٌ من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوْكوا قِرَبكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم". وعن ابن جريج أنه قال أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله، بنحوه، ومن طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن ابن جريج بهذا الحديث عن عطاء وعمرو بن دينار.
وروى مسلم من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية وسفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العِشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العِشاء".
الفواشي: جمع فاشية، وهي الماشية التي تنتشر من المال، كالإبل والبقر والغنم السائمة، لأنها تفشو، أي تنتشر في الأرض. فحْمة العِشاء: شدة سواد الليل وظلمته.
الروايات المتقدمة أسانيدها صحيحة.
ـ ثم رواه مسلم ـ في آخر الباب ـ وابنُ حنبل وأبو عوانة والبيهقي في الآداب وفي شعب الإيمان من طرق عن الليث بن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن القعقاع بن حكيم عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غطوا الإناء، وأوْكوا السقاء، فإن في السنة ليلةً ينزل فيها وَباءٌ لا يمر بإناءٍ ليس عليه غِطاءٌ أو سقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا نزل فيه من ذلك الوباء".
[جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري الأوسي المدني ذكره ابن حبان في الثقات، وقال مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال: قال أبو عبد الرحمن النسائي في بعض النسخ المعتمدة من كتاب الجرح والتعديل: مدني ثقة. وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: من كبار شيوخ الليث وثقاتهم. وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: ثقة من الثالثة. مات قرابة سنة 115. القعقاع بن حكيم مدني صدوق ثقة].
الحديث بهذا اللفظ الأخير ـ أي من طريق القعقاع بن حكيم عن جابر بن عبد الله ـ في سنده وقفة، ولو صح إسناد هذا الطريق فهذا اللفظ معلول، حيث روى ثلاثة آخرون من الثقات عن جابر رضي الله عنه الحديثَ بغير هذا اللفظ، وهذا كافٍ في إعلاله.
[انظر لشرح هذا الوجه من الإعلال: المطلب الأول من النوع السابع من القسم الأول من كتاب منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية].
ولا يصح إطلاق القول بأنه رواه مسلم، لأن مسلما إنما روى الحديث من الطرق الصحيحة بغير هذا اللفظ وأخَّر هذا إلى آخر الباب، وفي هذا إشارة منه إلى وقوع الخلل فيه، فهو ضعيف، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 21/ 8/ 1438، الموافق 18/ 5/ 2017، والحمد لله رب العالمين.


الأربعاء، 17 مايو 2017

جواب للأخ الشيخ الغيور على السنة والتراث


الأخ الكريم الشيخ الفاضل حفظك الله بخير وعافية
السلام عليكم ورحمة الله
سعدتُ بقراءة رسالتك الأخوية الودية التي أرسلتها إلي، فجزاك الله خيرا من أخ ناصح، وأكرمك المولى تعالى وأجزل لك المثوبة.
وهذا نص رسالتك وجوابي على فقراتها:
[فضيلة الشيخ صلاح سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[وأسعد الله أوقاتك بكل خير، وعافية، أما بعد:
[فأنا أقرأ كل ما يصلني منك، وأشكرك على ما تقوم به من جهد كبير، لكنني أسأل هل ترى فيما تقوم به من نقض بعض القضايا التي اتفقت عليها الأمة قديماً وحديثاً من فائدة إلا المعارك والإثارات التي تضر ولا تنفع؟!!
[تلقت الأمة الصحيحين بالقبول قديماً وحديثاً وكتبت كتب في ذلك وقعد علماء المصطلح قواعد وأفتوا فتاوى بشأن الصحيحين، فهل من الحكمة أن نرجع لمخالفة إجماع الأمة، ونأخذ بأقوال بعض المغمورين أو الحاقدين  أو الكارهين أو على الأقل تلتقي أقوالنا مع ما يرمون إليه.
[تعيد دراسة أسانيد درست من مئات السنين ولا تأت بجديد وتبني على ذلك نتائج لا تحتملها الدراسة.
[ضعفت لنا أحاديث فضائل الشام بسبب قول عامي يقول: لو لم تنتصر ثورة سوريا لكفر بالنبي "صلى الله عليه وسلم" الذي قال تلك الأحاديث، ثم الآن تضعف لنا حديث النبي "صلى الله عليه وسلم" الذي ورد في صحيح مسلم، وتزيد علينا مخالفة حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في سن زواجها ثم ترد على تصحيح وتحسين الألباني وتنتقد المستكثرين من الأخذ عنه، فما الفرق بينكما، وما الفائدة التي تقدمها للأمة؟!!].
أقول:
فضيلة الأخ الشيخ الغيور على السنة والتراث:
لم أضعف أحاديث فضائل الشام بسبب قول عامي يقول "لو لم تنتصر ثورة سوريا لكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال تلك الأحاديث"، وكان بحثي وتأليف كتابي في تضعيفها قبل ذلك بزمن، وعندما نقل لي أحد الإخوة تلك المقولة الآثمة أرسلت له كتابي ليحوله لذلك القائل، مؤملا أن يطلع عليه فيعلمَ ضعف أسانيد تلك الأحاديث وأن الذين صححوا أسانيدها هم من المتساهلين.
القضايا التي أوصلتني نتيجة البحث إلى نقضها ليست مما اتفقت عليه الأمة، وهي قد تثير معارك، لكنها بين من يبحث عن الدليل وبين الذين يقدسون مشايخهم ومذاهبهم ويرى كل واحد منهم أن ما قاله مشايخه وأهل مذهبه هو الحق المطلق ولو لم نجد له دليلا.
هذه المعارك إذا نظرنا إليها بنور البصيرة فهي تنفع ولا تضر، ألا ترى أن كثيرين من الطيبين يقفون الآن ومن قبل ومن بعد إلى جانب المجرم الفاجر السفاح الذي ينتهك زبانيته كل الحرمات ومنها حرمات المصونات العفيفات، وهم يتذرعون بحجة أن ذلك المجرم الفاجر لا يبوح بالكفر ولو كانت كل القرائن تشير إلى خلاف ذلك!، ثم ألا ترى أن كثيرين منهم يتجاهلون جرائمه وفجوره ولا يقفون في صفه ولا في الصف المقابل!، وذلك لأن دلالات عدد من النصوص الشرعية التي يتمسكون بها هي في الكتب التي لا يجوز المساس بها ـ عند طائفة من أهل العلم ـ تقول ذلك!. وقد وقف الكثيرون أمام أدلتهم حائرين، وربما دخل بعضهم في متاهات التأويل المتكلـَّف لرد تلك الدلالات، فجاءت الردود غير منسجمة مع دلالات النصوص الظاهرة الواضحة، غافلين عما في أسانيدها من علل.
معظم متون الأحاديث المروية في الصحيحين صحيحة ثابتة، ولكن هذا لا يعني أنها كلها كذلك.
أطلق أكثر العلماء القول بصحة أحاديث الصحيحين، لكن بعض الأئمة انتقدوا بعض الروايات فيهما، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري: "هذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتُها وحققتها وقسمتها وفصَّلتها، لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر".
هذا يعني أن فيهما بعض الروايات التي لم تصحَّ ولكنها نادرة، وأرى أن بيانها للأمة أولى من السكوت.
وبناء على ذلك فينبغي حمل تلقي الأمة لأحاديث الصحيحين بالقبول على الأكثر، وليس على الكل.
الذين ينبغي أن نتلقى كلامهم بالقبول هم المجتهدون من علماء الأمة، أما المقلدون فلا شأن لهم بالخوض في غمار هذه المسائل.
أنا لا أخالف إجماع الأمة، لكن متى حصل هذا الإجماع؟!.
وهل انعقد الإجماع بدون الدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني والعُقيلي وأبي الفضل ابن عمار الشهيد والباجي؟!، وكيف غفل ابن حجر عن وجود هذا الإجماع؟!.
أنا لا آخذ بأقوال المغمورين والحاقدين والكارهين للتراث المجيد الذي قدمه أسلافنا رحمهم الله، ولكن بأقوال الأئمة الكبار الذين هم مصابيح هذا العلم.
إذا التقت نتائج بعض البحوث مع ما يقوله بعض الذين لا يقدرون تراث أئمتنا فهذا بسبب تقاعس أهل العلم عن متابعة البحث العلمي، فربما وجد بعض الناس ثغرات ينفذون منها.
عندما يجد الناس حديثا معزوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أُخِّرَ هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" ويصححه الناس ويسكتون عنه فلا بد أن نجد مَن يقول إنه مخالف للواقع المشاهَد، وأن نجد من يقول ـ بسبب ذلك ـ إن في الصحيحن أحاديث مكذوبة موضوعة.
وما ذاك إلا لغفلة أولئك المصححين للحديث بهذا اللفظ عن اللفظ الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجوك رجاء حارا أن تقرأ ما كتبه أخوك كاتب هذه الصفحات بعنوان "حديث إن يعش هذا الغلام"، وستجد فيه ما يثلج صدرك إن شاء الله.
وإن لم أكن قد أرسلته لك من قبل فتجده في هذا الموقع:  إدلبي نت  أو:      idlbi.net
بعض الدراسات التي قمتُ بها ـ بفضل الله وتوفيقه ـ لم أجد أنها دُرست من قبل، لا من عشرات السنين ولا من مئات السنين، وربما تجد فيها بعض الجديد المفيد، ولعلك تغير رأيك إذا قرأت البحث المشار إليه حول حديث "إن يعش هذا الغلام".
أرجو أن يتسع وقتك لقراءة كتيب "حديث كان الله ولم يكن شيء غيره"، وكتاب "منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية".
ضعَّفتُ حديث "إن أبي وأباك في النار" وإن كان قد رواه مسلم رحمه الله لأنني أراه معلولا بهذا اللفظ، ولأنني أرى ـ كما رأى غيري ـ أنه مخالف لكتاب الله عز وجل.
ضعفتُ الحديث الوارد في مقدار عمر السيدة عائشة رضي الله عنها وقت العقد ووقت الزواج ـ بالرغم من صحة سنده ـ لأنني أرى أنه شاذ، لمخالفته لعدد من القرائن التاريخية، وقد وصل عددها الآن عندي إلى عشرة قرائن.
وجدتُ عددا من الإخوة الذين يحاورون غير المسلمين قد فرحوا بهذا البحث عن مقدار عمر السيدة عائشة فرحا شديدا، لأنهم ـ كما أخبروني ـ كانوا يردون على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام وتمكنوا من الرد القوي المتين سوى الرد على هذه الشبهة.
فإذا وقفنا على عشرة قرائن تشير إلى وقوع وهَم في تلك الرواية فهل هذا من المحاسن أو المساوئ؟!.
رددتُ على تصحيح وتحسين الألباني رحمه الله وغفر له لبعض الأحاديث لأنه يشتغل في دراسة الأسانيد على المنهج التساهلي، وكانت النتيجة أنه حكم بتصحيح وتحسين كثير من المرويات الضعيفة، منها حديث أعله سبعة من كبار الأئمة النقاد، أحدهم الإمام البخاري رحمه الله!، وصحح حديثا في سنده راو اتهمه عدد من الأئمة بالكذب!.
فهل المطلوب مني أن لا أبين هذا للناس؟!.
الفرق هو أن أحد الرجلين يمشي على منهج الأئمة الجهابذة المتقدمين ومنه منهج الإمامين البخاري ومسلم وغيرهما في إعلال المرويات الحديثية وأن الآخر يمشي على مذهب الذين يتساهلون في دراسة الأسانيد ولا علم لهم بمنهج الأئمة في الإعلال.
الفائدة التي أقدمها للأمة ـ حسب اجتهادي ـ هي محاولة سد بعض الثغرات التي أرى أنه لا بد من تصحيح بعض المسار فيها، والتي أرى أن الأمة لن تنهض من كبوتها ما دامت متعثرة بسب تلك الثغرات، وما أقدمه هو ابتغاء الأجر والمثوبة من الله تعالى.
فإن أصبتُ فبتوفيق الله وله المنة والفضل، وإن أخطأتُ فمنه وحده العفو والمغفرة والأجر إن شاء الله.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 15/ 8/ 1438، الموافق 12/ 5/ 2017، والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء، 2 مايو 2017

حديث "إن أبي وأباك في النار" - updated

حديث "إن أبي وأباك في النار"

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار

* ـ هذا الحديث رواه ابن حنبل ومسلم وأبو داود والبزار وأبو يعلى وأبو عوانة وابن منده في كتاب الإيمان من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البُناني عن أنس بن مالك أنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟. فقال: "في النار". فلما رأى ما في وجهه قال: "إن أبي وأباك في النار". [حماد بن سلمة بصري ثقة فيه لين مات سنة 167]. فهذا الإسناد فيه لين.

حماد بن سلمة هو الإمام القدوة شيخ الإسلام، كما وصفه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد ذكره بعض الأفاضل ووثقه بإطلاق، ولا أرى ذلك، لأن خمسة من الأئمة النقاد زحزحوه عن مثل هذه المرتبة:

قال يحيى بن معين: "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن سمع منه نسخا فهو صحيح".

قلت: لفظة الأصناف كانوا يستعملونها أحيانا بمعنى المصنفات، أي إن نسخه التي كتبها عن شيوخه صحيحة، وأما مصنفاته التي صنفها ففيها اختلاف.

وقال ابن سعد في الطبقات: "قالوا وكان حماد بن سلمة ثقة كثير الحديث وربما حدث بالحديث المنكر".

ونقل أبو عثمان البرذعي عن محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري عن الإمام أحمد ابن حنبل أنه قال: "كان حماد بن سلمة يخطئ خطأ كثيرا".

وأقر ابن حبان أن حمادا كان يخطئ، وأن خطأه قد كَثـُر، وأن ذلك من تغير حفظه.

وقال البيهقي: "هو أحد أئمة المسلمين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه".

فهل هذا الراوي ثقة بإطلاق؟!!. هذا غير صحيح.

* وللحديث شواهد من حديث عمران بن حُصين وأبي رزين العقيلي وأبي هريرة:

ـ فأما حديث عمران بن الحصين فله طريقان:

الطريق الأول:

رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في المعجم الكبير من طريق داود بن أبي هند عن العباس بن عبد الرحمن عن عمران بن حصين أن أباه حصينا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلا كان يَقـْرِي الضيفَ ويصل الرحم مات قبلك وهو أبوك؟!. فقال: "إن أبي وأباك وأنت في النار". فمات حصين مشركا. وعند الطحاوي والطبراني: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبي وأباك في النار". فما مرت عشرون ليلة حتى مات مشركا.

هذا الطريق ضعيف جدا، فيه العباس بن عبد الرحمن وهو مجهول، وفيه أن والد عمران بن الحصين مات مشركا!، وهذا مخالف لروايتين تثبتان أنه أسلمَ وكلتاهما أصح من هذه الرواية:

إحداهما ما رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن رجاء السقطي عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بن يونس عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق زكريا بن أبي زائدة عن منصور بن المعتمر به نحوه كذلك، وهذا إسناد صحيح.

والثانية ما رواه الترمذي وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والبزار والروياني من طرق عن أبي معاوية محمد بن خازم عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين، وشبيب بن شيبة ضعيف.

واجتماع هاتين الروايتين على أن الحصين والدَ عمران مات مسلما دليل على ضعف الرواية التي تقول إنه مات مشركا ونكارتها، فالطريق الأول من طريقي هذا الشاهد تالف.

الطريق الثاني:

رواه ابن خزيمة في التوحيد عن رجاء بن محمد العذري عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين عن أبيه عن أبيه عن جده أن قريشا جاءت إلى الحصين وكانت تعظمه، فقالوا له: كلمْ لنا هذا الرجل فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم. فجاؤوا معه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حصين، إن أبي وأباك في النار".

[رجاء بن محمد العذري السقطي بصري صدوق ثقة مات بعد سنة 240. عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين بصري ضعيف مات قرابة سنة 175. أبوه خالد بن طليق قاضي البصرة ذكره الدارقطني في الضعفاء. أبوه طليق بن محمد بن عمران بن حصين ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: لا يُحتج به، ليس حديثه نيِّرا، حديثه عن عمران بن حصين مرسل. جده يظهر أنه الصحابي الجليل عمران بن الحصين]. فالطريق الثاني من طريقي هذا الشاهد ضعيف جدا.

فهذا الشاهد من رواية عمران بن حصين لا يُعتد به، لضعف إسناده جدا.

ـ وأما حديث أبي رزين فرواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة وابن أبي خيثمة في تاريخه من طريقين عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عُدُس عن أبي رزين العقيلي أنه قال: قلت: يا رسول الله أين أمي؟؟. قال: "أمك في النار". قلت: فأين من مضى من أهلك؟. قال: "أما ترضى أن تكون أمك مع أمي؟!".

[شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة مات سنة 160. يعلى بن عطاء طائفي نزيل واسط صدوق مات سنة 120. وكيع بن عُدُس والأصح أنه ابن حُدُس، من أهل الطائف، لم يذكر له المزي شيخا سوى أبي رزين ولا راويا عنه سوى يعلى بن عطاء، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه في مشاهير علماء الأمصار من الأثبات، وقال الجورقاني المتوفى سنة 543 في كتاب الأباطيل صدوق صالح الحديث، وقال ابن قتيبة غير معروف، وقال ابن القطان مجهول الحال، وقال الذهبي في الميزان لا يُعرف].

ابن حبان من المتساهلين في التوثيق، والجورقاني ليس من علماء الجرح والتعديل، فلا يُعتمد على قولهما، فالأصح في وكيع بن عُدُس ما قاله فيه ابن قتيبة وابن القطان والذهبي في الميزان، فهو ضعيف مجهول، فهذا الإسناد ضعيف.

ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه مسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل وأبو يعلى عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".

استدل بعضهم بهذا الحديث مع قول الله جل وعلا {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} على أن والدة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من المشركين وأنها من أهل النار، ولا حجة لهم في ذلك، فكون الآية الكريمة تتضمن النهي عن الاستغفار للمشركين لا يعني أن كل من جاء النهي عن الاستغفار له مشرك، لاحتمال أن يكونَ هذا النهي يشمل المشرك ومن لا يُعرف عنه إيمان ولا شرك، أو يشمل المشركَ الذي بلغته دعوة النبي بلوغا صحيحا والمشركَ الذي لم تبلغه الدعوة، فيكونَ الواجبُ الشرعي هو عدمَ الاستغفار لكل من لم يُعرف عنه الإيمان، سواء من عُرف عنه الشرك وقد بلغته الدعوة ومن عُرف عنه الشرك ولم تبلغه الدعوة ومن لم يُعرف عنه إيمان ولا شرك.

ووالدة النبي صلى الله عليه وسلم ووالده ما بلغتهم دعوة نبي بلوغا صحيحا، فقد قال ربنا جل وعلا {بل هو الحق من ربك، لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}.

وقال جل وعلا {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال سبحانه {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزِل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزِل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة}.

* ـ ثم إن حديث أنس الذي جاء بلفظ "إن أبي وأباك في النار" هو بهذا اللفظ معلول، فقد رواه البزار في مسنده وابن السني في عمل اليوم والليلة والضياء المقدسي في المختارة من طريق يزيد بن هارون، والطبرانيُّ في الكبير وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريق محمد بن أبي نعيم الواسطي، والبيهقيُّ في دلائل النبوة من طريق الفضل بن دكين، ثلاثتهم عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن ابن شهاب الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد رضي الله عنه أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟!. فقال: "في النار". فكأن الأعرابي وجد من ذلك فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟. فقال: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار". فأسلم الأعرابي بعدُ فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافرٍ إلا بشرته بالنار. [إبراهيم بن سعد ثقة حجة ربما حدث من حفظه فأخطأ، ومات سنة 185].

ورواه ابن ماجه، إلا أن شيخه وهِم في إسناده، حيث جعله عن يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. وقول بعض الباحثين عن هذا الحديث "وردَ من حديث سعد بن أبي وقاص وابن عمر بإسنادين صحيحين"، هو خطأ واضح، حيث إن له إسنادا واحدا فقط، إذ هو من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري، وكونه جاء من مسند صحابيين هو من باب اختلاف الرواية.

ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معْمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

ـ ورجح أبو حاتم الرازي في كتاب العلل والدارقطني في مسند سعد من كتاب العلل رواية معمر عن الزهري مرسلا على رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وأعلاه بالإرسال.

أقول: إن سلمنا لهذين الإمامين بأن هذه الرواية مرسلة فلا بد من أن تكون هي الراجحة من حيث المعنى، لأنها مؤيدة بالنص القرآني.

* ـ ثم لا بد هنا من وقفة حول اللفظ الذي ورد به الحديث، فقد اختلف لفظ الرواية على وجهين: أحدهما "إن أبي وأباك في النار"، وهو ما رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، والثاني "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، وهو ما رواه الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه مرفوعا أو عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

وحيث إن القصة واحدة والسياق واحد فلا بد أن يكون اللفظ واحدا، ويبدو أن اللفظ الثاني هو الأصح، لعدد من القرائن:

ـ منها أن الرواة إذا اختلفوا في جزء من الرواية فالأقرب أن الذي يسبق إلى الذهن هو من باب الوهَم، لذا فإنك تجد الأئمة النقاد إذا وقع اختلاف في سياقة الإسناد حكموا على ما جاء على الجادة بأنه خطأ وصوَّبوا ما جاء على خلاف الجادة، وكذلك ينبغي أن يكون النظر في المتون، فالذي جاء بالمتن على ما يسبق إلى الذهن هو أقرب إلى أن يُحكم على روايته بالوهَم ممن جاء به على ما يدِق فهمه، ولو كان الجواب باللفظ الأول "إن أبي وأباك في النار" لكان هو الواضحَ لإزالة ما في نفس السائل من الغضب والموجِدة، أما الجواب باللفظ الثاني ففيه الدقة البالغة، بحيث ينصرف ذهنه بادي الرأي إلى أن والد رسول الله هو كذلك، ولكنه لم يقل له ذلك، وإنما قال له "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار".

وإذا كان اللفظ واضحا فلا يجيء في الاستعمال أن يُنقل إلى ما يحتاج فهمه إلى نباهة، بخلاف العكس، وهذا يدل على أن الأصل هو اللفظ الذي رواه الزهري من مسند سعد بن أبي وقاص أو مرفوعا مرسلا، وأن لفظ رواية أنس مروي بالمعنى.

فالأقرب أن رواية هذا الحديث بلفظ "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" هي الأصح، وأن رواية صحيح مسلم للحديث بلفظ "إن أبي وأباك في النار" مرجوحة، فهي إذن معلولة بهذا اللفظ.

ـ ومنها أن اللفظ الموافق للآيات الكريمات في كتاب الله عز وجل هو الأقرب لأن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الثاني، بخلاف اللفظ المتعارض مع آيات القرآن الكريم، وهو رواية أنس رضي الله عنه.

والذي لا مناص عنه هو التمسك بالآيات الكريمات من كتاب ربنا عز وجل، والذي جاء على وَفقها لا شك أنه هو الثابت، وما جاء على خلافها لا شك أنه هو المرجوح، وهذا يؤيد ويؤكد ما ذكرته في إعلاله.

* ـ خلاصة البحث هي أن الحديث المروي في صحيح مسلم وغيره بلفظ "إن أبي وأباك في النار" روايته بهذا اللفظ مرجوحة، وأن الأصح هو الرواية بلفظ "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، والله أعلم.

ملحوظة:

وقف عدد من العلماء عند الحديث الوارد في صحيح مسلم بلفظ "إن أبي وأباك في النار"، وقالوا بأن والدي النبي صلى الله عليه وسلم هما في النار، منهم الإمام البيهقي المتوفى سنة 458 والإمام النووي المتوفى سنة 676 وغيرهما، وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم، وللمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد إن شاء الله.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 6/ 8/ 1438، الموافق 2/ 5/ 2017، سوى بعض التعديلات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.