الثلاثاء، 24 يوليو 2018

حوار حول حديث من يجدد لها دينها 4 الحوار الرابع


ـ الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 والحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 رحمهما الله تعالى لهما جهد طيب في الجرح والتعديل، لكنهما ليسا من الأئمة في هذا الباب.
أئمة الجرح والتعديل هم الأئمة الحفاظ المتقدمون الذين كان الواحد منهم يُسأل عن راو من الرواة فيستعرض في الحال ما بلغه من أحواله ومروياته فيجيب حسبما ظهر له منها، أما المتأخرون فينظر الواحد منهم في أقوال السابقين ويختار ما يغلب على ظنه أنه القول الذي يلخص تلك الأقوال أو القول الذي يراه أرجح من غيره.
ـ لم أطالب أحدا بعدم ذكر كلمة "دكتور"، لكن أنا لا أستحبها لنفسي، أما غيري فقد لا يرى بها بأسا، ولكلٍّ وجهة.
ـ أستغربُ ممن يضع نفسه في صف المقدِّرين لعلم الحافظ ابن حجر ولكن كلام ابن حجر إذا جاء على غير هوى النفس انقلب مرفوضا!.
ذكرت في الحلقة الثانية من الحوار حول هذا الحديث كلام ابن حجر الذي لخص فيه رأيه في كتاب الثقات لابن حبان حيث قال: "هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه".
ما السبب الداعي لتجاهل هذا القول؟!، وإذا كان لم يعجبك أيها الباحث المسكين فبينْ أنه أخطأ في هذه المسألة وأنك لا تقبل قوله فيها مع ذكر الأسباب التي دعتك لذلك.
أما أن تترك المسألةَ معلقة وتهرب إلى غيرها فهذا معيب ولا يليق بطالب علم.
من الغريب حقا أن من لم يعجبه كلام ابن حجر يريد أن يرده بحمْله ـ بالهوى والتشهي ـ على أمر آخر فيقول "فهذا حكم عام ينطبق على الرواة الذين وجد العلماء فيهم جرحا وتعقبوا ابن حبان في ذلك"!.
والواقع هو أن ابن حجر قد أطلق القول في انتقاده طريقة ابن حبان في كتابه الثقات، ولم يكن كلامه عمن وجد العلماء فيهم جرحا، ولا عن الرواة الذين تعقب العلماء فيهم قول ابن حبان. ولكن قاتل الله الهوى كيف يهوي بصاحبه.
ـ بعد تصريح ابن حجر عن ابن حبان بأنه "المعروف بالتساهل في باب النقد" وبعد نقده لكتاب ابن حبان في الثقات وتعجبه منه تأتي مناقشة ابن حجر في أحكامه الجزئية في درجة الراوي، أما الذي ينكر الأصل ويتكلم في الفرع فالعمل العبثي قد يكون المراد منه إضاعة الوقت، وخاصة ممن تُذكر له الأدلة على صحة الأقوال فلا يجد عنها جوابا فلا يقبلها ولا ينفيها، ولكنه يمر معرضا عنها كأنْ لم يسمعها.
ـ أين الجواب عن الحديث الذي أعله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو زرعة وأبو حاتم والعُقيلي والدارقطني والحاكم وغيرهم؟!، أو إن هؤلاء لا يفهمون علوم الحديث؟!!.
وأين الجواب عن عدد من الأمور التي مرت ثم لم يجد المحاور المسكين إلا أن يتجاهلها وينتقل إلى غيرها. ما هذا العبث؟!!.
ـ أستغربُ ممن ينقل نصوصا عن العلماء المتأخرين دون أن يكون عنده علم بما إذا كانت متوافقة توافقا تاما مع أحكام الأئمة المتقدمين أو لا.
ـ إعلال المرفوع بالموقوف ليس على إطلاقه وليس حكما كليا، نعم، وهذا ما أشرتُ إليه من قبل، لكن الذي يهرب من مسألة إلى أخرى باستمرار ليس عنده وقت لقراءة ما يكتبه غيره ولا للتأمل فيه.
لقد قلت في الحوار الأول "وفي مثل هذا يرى الأئمة من المحدثين أن الرواية المرفوعة معلولة بالموقوفة لحصول الشك فيها، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم". قف عند هذا الاستثناء ولا تغفُل ولا تتغافل.
أي إن الأصل عند الأئمة هو إعلال الرواية المرفوعة بالموقوفة، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم، وأقول هذا ـ بفضل الله تعالى ـ عن دراسة، وليس رجما بالغيب، كما يفعل الجاهلون.
قلتُ من قبل: "أما إذا كنا أربعة أو خمسة مثلا وقال أحدنا طفنا ستة أشواط وقال الآخرون كلهم سبعة فما من شك في رجحان قولهم وأنهم حفظوا ما لم يحفظه الآخَر، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث". تأمل لتعلم لمَ لا يعل المحدثون الرواية المرفوعة بالموقوفة أو الموصولة بالمرسلة في بعض الأحيان.
مثال:
حديث "لا نكاح إلا بولي" رُوي بالوصل ورُوي بالإرسال، رواه ستة عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا، ورواه شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق السَبيعي عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ولهذا ـ ولقرائن أخرى ـ صحح البخاريُّ والترمذي والدارقطني الرواية التي جاءت بالوصل على الرواية المرسلة، وليس لمجرد أن من وصل الحديث معه زيادة علم. فتنبه. [انظر: الكفاية للخطيب البغدادي وسنن الترمذي والعلل الكبير للترمذي وعلل الدارقطني].
ـ الذي ينقل عن ابن حجر والبقاعي وابن دقيق العيد والعلائي والسخاوي أن المتقدمين يحكمون في مسألة الرفع والوقف حسب القرائن أقول له: كلامهم هذا فيه رد على من يحْكمون بتصحيح الرواية المرفوعة مطلقا، وهو في هذا الجانب صحيح، ولكن فيه قصور شديد، فالمسألة عند الأئمة المتقدمين ليست متساوية الطرفين، والأصل عندهم هو أنهم يعلون الرواية المرفوعة بالموقوفة إلا إذا كان عندهم قرائن بخلاف ذلك. [انظر: منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية].
ـ ذكرتُ في الحوار الثالث حول هذا الحديث أن الإمام النَسائي [بفتح النون] روى حديثا من طريقين عن حسين بن ذكوان، الأول من طريق خالد بن الحارث عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده موصولا، والثاني من طريق المعتمر بن سليمان عنه عن عمرو بن شعيب مرسلا، ليس فيه عن أبيه عن جده، وعلق قائلا: "خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب".
وإنما رجح النَسائي هنا رواية المعتمر بن سليمان وهي مرسلة على رواية خالد بن الحارث الذي هو أثبت منه وهي متصلة لأن المقام مقام إعلال. هذا لمن عنده معرفة بمقام الإمام النَسائي في علم الحديث.
لم يقف المعجب بنفسه عند هذا ويتساءلْ: لمَ كان ذلك كذلك؟!. ثم راح يرجح طريقة الحافظ زين الدين العراقي على منهج الإمام النسائي!.
عندما جاء الإمام مسلم إلى الإمام البخاري ليسأله عن علة روايةٍ قبَّل بين عينيه وقال: "دعْني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين وطبيبَ الحديث في علله"، وعندما سمع منه الجواب قال: "لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك". وهما إمامان من كبار الأئمة.
رحم الله أئمتنا الذين كانوا يعرفون قدر العلم.
والفرق في المقام العلمي في علم الحديث بين الإمام النسائي المتوفى سنة 303 وزين الدين العراقي المتوفى سنة 806 أكبر بكثير من الفرق بين الإمام البخاري والإمام مسلم.
والإمام النسائي لمن لا يعرفه هو الذي فضله الذهبي في سير أعلام النبلاء في معرفة الحديث وعلله ورجاله على الإمام مسلم وأبي داود والترمذي، وجعله في مصافِّ الإمام البخاري وأبي زرعة الرازي.
ثم يأتي من لا يعرف أقدار أهل العلم فيرجح طريقة الحافظ زين الدين العراقي على منهج الإمام النسائي!.
ـ أنا لا مانع لدي من الاستمرار في الحوار على هذه الصفحة، ولكن عددا من الإخوة اتصلوا بي وأوصلوا لي وجهة نظرهم بأن في هذا كفاية.
والله الموفق.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 10/ 11/ 1439، الموافق 23/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***


حوار حول حديث من يجدد لها دينها 3 الحوار الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب لي الأخ الدكتور الشيخ خلدون مخلوطة حفظه الله بخير وعافية تعقيبا على الحوار السابق حول هذا الحديث وهذا جوابي بما يبين وجهة نظري:
ـ الذي أراه في الحوارات والردود أن لا أكتب اسم المردود عليه إلا نادرا، وذلك فيما إذا وجدت ما يقتضي ذلك بإلحاح، لأن كثيرا من الناس يهمهم أن يشغلوا مجالسهم بأن فلانا رد على فلان، وأن فلانا قال له كذا ووصفه فلان بكذا، وقال فلان عن فلان كذا، وهم في كثير من الأحيان لا صلة لهم بالعلم ولا بما يقوله أي واحد ممن يرد ومن يُرد عليه.
ـ الراوي الذي ليس في مرتبة الثقة ولا الضعيف مستور.
ربما أنت تريد نصا على ذلك من خلال كتب مصطلح الحديث، ولو كان عندي لذكرته، ولكن هذا لا يجعلني أتوقف، فأنا أكتب ما أراه حسبما فهمته من كلام العلماء، وفي هذه الحالة لن يقبل المحاور الآخر ذلك غالبا، ولا أطالبه بقبول كلامي، بل أقول لكلٍّ فهمه من كلام أهل العلم.
ـ لو وجدنا نصا لكلام عالم مقبول عند الأطراف المختلفة وأخذنا به ثم وجدنا قولا آخر لذاك العالم نفسه أو لغيره فماذا نعمل؟!.
ما أكثر ما نجد المختلفين يجد كل واحد نصا من كلام بعض أهل العلم ويتمسك به وبما هو عليه وينتهي الحوار بالخلاف كما بدأ بالاختلاف، حتى إننا لا نكاد نجد اثنين اختلفا في مسألة فتحاورا فوصلا إلى اتفاق. وهذا في الغالب، ووجدت في المقابل حالات أخرى وإن كانت نادرة.
أعيد وأؤكد: ولكلٍّ وجهة.
ـ نصيحتي هي أن الباحث أو المحاور إذا كان مجتهدا في المسألة التي يحاور فيها فليبحثْ وليحاور وليناقش حتى يصل إلى القول الذي يطمئن إليه من خلال الأدلة التي جرى إيرادها ومناقشتها، وإذا كان مقلدا فعليه أن لا يحاور ويناقش في الاستدلالات، وأن ينظر في العلماء السابقين واللاحقين فمن غلب على ظنه ـ بعد البحث والسؤال ـ أنه أعلم وأورع في العلم فيأخذ بقوله ويقول هذا يكفيني.
ـ الذهبي وابن حجر وسائر المتأخرين أرى أنهم مقلدون في موضوع الجرح والتعديل غالبا، ويلخصون أقوال الأئمة السابقين، ولهم اجتهادات في بعض الأحيان، وهذا لا ينفي أنهم علماء في بعض الجوانب، فيُستفاد من علومهم وتحريراتهم وتنقيحاتهم في الجملة، وإذا اجتهدوا في مسألة وأوْلَوْها عناية وجهدًا فهنا أقول إن لفلان اجتهادا في هذه المسألة، وينبغي أن لا ننسى أن عصورهم عصور تقليد. والله أعلم.
أحيانا يكون قول هذا العالم المتأخر قد ابتعد عن كلام السابقين الذي هو أوْلى بالقبول من قوله.
خذ هذا المثال من كلام ابن حجر:
لو نظرنا في ترجمة يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهمداني لوجدنا أنه الفقيه القاضي، وقد وثقه أبو حاتم والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه لين. فما الذي قاله فيه ابن حجر؟، قال: صدوق ربما وهم. ولو نظرنا في ترجمة لقمان بن عامر لوجدنا أنه وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. فما الذي قاله فيه ابن حجر؟، قال: صدوق. وكلا الراويين لم يرو لهما الشيخان.
الراوي الأول أعلى من الثاني بكثير، وكان نصيبه عند ابن حجر أنه صدوق ربما وهم، والثاني لم يوثقه سوى العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وكلاهما من المتساهلين في التوثيق، وقال فيه أبو حاتم: يُكتب حديثه. وكان نصيبه عند ابن حجر أنه صدوق، أي هو عنده أعلى مرتبة من الراوي الأول!.
ـ أظن أنني نقلت أقوالا في ذم التقليد، وليس في ذم المقلدة.
المقلد الذي أرى أنه يُذم هو من يقلد في كل شيء حتى إنه لا يدري في كثير من الأحيان مَن يقلد، وتختلط عليه مراتب الأقوال والقائلين فيضيع ويحتار.
ـ الدارقطني لم يذكر في الجزء الذي جمعه لأسماء الرواة الذين روى لهم البخاري مَن روى له البخاري في جزء أفعال العباد، بدليل أنه لم يذكر فيه شراحيل بن يزيد، لكنه ذكر شراحيل في القسم الذي خصصه لمن روى مسلم عنهم وإن كان قد روى له في المقدمة، لأن الكتاب واحد، وهو يجمع أسماء الرواة الذين روى لهم مسلم في هذا الكتاب.
- أنا لا أترك الموضوع إلى موضوع آخر إلا إذا كان الحوار قد خرج عن مساره.
كان الكلام حول مسألة توثيق شراحيل بن يزيد، وذكرتُ أن هذا الراوي ذكره ابن حبان في الثقات مجرد ذكر، ولم أجد أحدا من أئمة علماء الجرح والتعديل قد نص على توثيقه، وجاءت إشارة إلى مسألة الرواة المُتَكَلـَّم فيهم الذين روى لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما وأنهما رويا لهم فيما له متابعات أو شواهد.
وشراحيل بن يزيد ليس ممن روى له البخاري ولا مسلم في صحيحيهما، ولا هو من الرواة المتكلم فيهم، فأنا أستغرب جدا ممن يطالب "بذكر مرجع علمي واحد من الكتب التي ألفها العلماء في الرواة المتكلم فيهم وروى لهم الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما وانتقيا من أحاديثهم ما توبع لهم فيها أو جاءت شواهد تؤكد رواياتهم أنهم صرحوا أن من هؤلاء الرواة شراحيل بن يزيد"!. ما هذا؟!، لا أدري.
هل هناك كتب ألفها العلماء في مثل هذا الموضوع؟! أو إنك أيها الأخ الكريم تشير إلى الجزء الذي ألفه الذهبي في الرواة الثقات الذين تُكلم فيهم بما لا يوجب رد حديثهم؟!، وكأنك تريد أن تقول إنه لم يذكر فيه شراحيل!، وهذا لا علاقة له بهذا الراوي أصلا، لأنه ليس من الثقات ولا من المُتَكَلـَّم فيهم.
ثم إنه لو ذكره الذهبي في هذا الجزء أو لم يذكره فيه فإن هذا ـ عندي ـ لا يغير من الأمر شيئا.
الذي يهمني هو أن أعرف ما الذي قاله الأئمة النقاد في هذا الراوي، وأنا لم أجد فيه قولا عندهم سوى أن ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وهو من المتساهلين في التوثيق، وانظر كيف تعجب ابن حجر في مقدمة لسان الميزان من مسلكه في هذا الكتاب.
ـ أخي الكريم:
هذا ما أردت أن أقوله في توضيح أقوالي واختياراتي، فإن أصبتُ فبمحض فضل الله علي، وله الفضل والمنة، وإلا فمن عجزي وتقصيري، وأسأل ربي جل وعلا أن يمن علي بعفوه وغفرانه، وإذا ظهر لي أنني أخطأت في أمر ما فأسهل شيء عندي إن شاء الله أن أعترف بخطئي وأن أشكر الذي نبهني عليه وأن أدعو له.
حفظك المولى بحفظه، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 7/ 11/ 1439، الموافق 20/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***
ثم كتب الشيخ خلدون يقول:
نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في مقدمته لرسالة "ما لا يسع المحدث جهله" كلاما مهما عن الحافظ العراقي قاله في كتابه "إخبار الأحياء بأخبار الإحياء" في تخريجه لهذا الحديث، وذكر كذلك قاعدة مهمة عند الاختلاف في رفع الحديث ووقفه: قال الحافظ العراقي: [حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة ...." إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات، وعلى قول أبي داود "رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندارني لم يجز به شراحيل" قد تقرر في علمي الأصول والحديث أن الحديث إذا رفعه ثقة ووقفه ثقة فإن الحكم لمن رفعه على الصحيح، وسعيد بن أبي أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما: أنه لم يُختلف في توثيقه وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد منكر الحديث، الثاني: أن معه زيادة علم على من وقفه].
أقول:
* ـ كلام الحافظ العراقي رحمه الله المنقول هنا غير مقبول منه، لأنه يقول "قد تقرر في علمي الأصول والحديث أن الحديث إذا رفعه ثقة ووقفه ثقة فإن الحكم لمن رفعه"، ونسبة هذا الكلام لعلماء الحديث إن كان يعني به الأئمة الكبار من المحدثين فهذا غير صحيح، وهو بخلاف كلام البخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والنسائي والدارقطني وغيرهم، ومن أهم مسائل علم العلل إعلال المرفوع بالموقوف، ودونك كتاب العلل الكبير للترمذي الذي دوَّن فيه كثيرا من إجابات شيخه الإمام البخاري عن أسئلته، ودونك كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم الذي دون فيه إجابات والده أبي حاتم الرازي وإجابات أبي زرعة الرازي ودونك العلل للدارقطني وغيرها.
فهؤلاء هم الأئمة المرجوع لهم في علم الحديث.
ـ وهذا مثال يوضح منهج البخاري ومسلم رحمهما الله لمن يقدر هذين الإمامين حق قدرهما:
روى ابن جريج قال: حدثني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنْ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفِر له ما كان في مجلسه ذلك".
ورواه موسى بن إسماعيل عن وُهيب بن خالد عن سهيل بن أبي صالح عن التابعي الثقة عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي من قوله موقوفا عليه.
[عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي ثقة قد يدلس الإسناد ومات سنة 150، وصرح هنا بالسماع. موسى بن عقبة مدني ثقة مات سنة 141. سهيل بن أبي صالح مدني صدوق فيه لين تغير حفظه بآخره ومات سنة 138. ذكوان أبو صالح السمان مدني ثقة مات سنة 101. موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة مات سنة 223. وُهيب بن خالد بصري ثقة مات سنة 167 تقريبا وعاش 58 سنة. عون بن عبد الله بن عتبة كوفي ثقة مات سنة 115 تقريبا].
قال الإمام البخاري في التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط: "حديث وُهيب أولى".
وجاء الإمام مسلم إلى الإمام البخاري فقبَّل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين وطبيبَ الحديث في علله، حديثُ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس ما علته؟. فقال البخاري: "هذا حديث مليح، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله، هذا أولى". [تاريخ بغداد. الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي].
ولم يعترض مسلم على البخاري في هذا الإعلال، بل أقرَّ له بالتقدم في المعرفة وقال: "لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك". وأقر الخطيب البغدادي والخليلي بهذا كذلك ولم يعترضا بشيء.
انظر استفادة الإمام مسلم من الإمام البخاري رحمهما الله مسألة في إعلال رواية وتواضعَه الشديد له وحسْنَ ثنائه عليه. رحمة الله على أئمتنا العظام، رحمهم الله وأعلى مقامهم.
أقول: مَن وقف على الطريقين الثابتين عن سهيل بن أبي صالح وهو بعيد عن علم العلل فإنه يصححهما كليهما عن سهيل بن أبي صالح، ويقول لعل سهيلا سمع الحديث من أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن عون بن عبد الله من قوله، ويقول ربما كان سهيل يرويه مرة هكذا ومرة هكذا!!!. وهذه طريقة جمهور المتأخرين.
لكنْ من المستبعد ـ عند الأئمة الذين هم أئمة في هذا العلم ـ أن يكونَ سهيل قد سمع الحديث من أبيه يرويه عن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن عون بن عبد الله من قوله فيرويَه مرة هكذا ومرة هكذا، لأن مَن سمعه بمثل هذين الوجهين فإنه يرويه عادة إما بالوجهين كليهما مجموعين وإما بالوجه المسنَد وحده إذا أراد الاقتصار على أحدهما، وهذا يعني أن سهيلا قد سمع حديث كفارة المجلس بأحد الوجهين ولم يسمعه بالوجهين كليهما، وإذا كان ذلك كذلك فالاحتياط يوجب الاقتصارَ على ما فيه القدْرُ الأدنى، كما يوجب الحكمَ ـ بغلبة الظن ـ على ما فيه القدْرُ الأعلى بأنه خطأ، أي إنه يوجب تثبيتَ روايةِ مَن رواه عنه موقوفا على التابعي وتخطئةَ من رواه عنه مسندا. وهذه طريقة جمهور المتقدمين، ومنهم البخاري.
[ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إعلال حديث كفارة المجلس من رواية أبي هريرة لا يعني أنه معلول من طرقه الأخرى].
وهذه بعض أقوال الأئمة الآخرين في إعلال الرواية التي أعلها البخاري:
سئل الدارقطني في العلل عن هذا الحديث من طريق أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: [قال أحمد ابن حنبل: "حدَّث به ابن جريج عن موسى بن عقبة، وفيه وَهَم، والصحيح قول وُهيب". والقول كما قال أحمد].
وسأل ابن أبي حاتم أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: "هذا خطأ، رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفا، وهذا أصح".
وقال العُقيلي في كتاب الضعفاء الكبير عن طريق وهيب: "هذا أولى".
وذكر أبو عبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث حديث أبي هريرة هذا وقال: "هذا حديث من تأمله لم يشكَّ أنه من شرط الصحيح، وله علة فاحشة". وذكر قصة مجيء مسلم إلى البخاري واستفادتـَه علة هذا الحديث منه. ونقل ابن رجب في شرح العلل كلام الحاكم وأيده، وأقر ابن حجر إعلال الحديث في كتاب النكت.
وهكذا نجد الإمام أحمد والبخاري ومسلما وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيَّين والعُقيلي والدارقطني والحاكم وأبا يعلى الخليلي والخطيب البغدادي قد أعلوا الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة ووافقهم ابن رجب وابن حجر.
وههنا فائدة يعرفها من له صلة بكتب علل الحديث، وهي أن قول الحفاظ في باب الإعلال "هذا أصح" لا يعني أن ما يقابله صحيح، بل يعني أن المقابل له معلول، وظهر هذا جليا في قول أبي حاتم وأبي زرعة عن الطريق الراجح إنه أصح وعن مقابله إنه خطأ، ولم يقولا هذا أصح والآخر صحيح، وكذا في قول الإمام البخاري "حديث وهيب أولى" وقال عن مقابله معلول، فتدبر.
ولا بد هنا من وقفة تأمل:
لو لم يعلم الإمام مسلم بالرواية التي أعلَّ بها الإمام البخاري هذا الحديث من طريق أبي هريرة فالظاهر أنه كان سيحكم له بالقبول، بل لو لم يعلم الإمام البخاري نفسه بالرواية التي أعلـَّه هو بها فالظاهر أنه كان سيحكم له بالقبول كذلك، وهذا يرشدنا إلى ضرورة إعمال المنهج الذي ارتضاه هذان الإمامان وسائر كبار الأئمة النقاد رحمهم الله، وإلى جعْل هذا المنهج الذي ارتضَوه حاكما على أحكامهم الجزئية.
وحسب النص المنقول هنا عن العراقي فإننا يجب أن نقول للإمام أحمد ابن حنبل المتوفى سنة 241 وللبخاري المتوفى سنة 256 ولمسلم المتوفى سنة 261 ولأبي زرعة الرازي المتوفى سنة 264 ولأبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277 وللعُقيلي المتوفى سنة 322 وللدارقطني المتوفى سنة 385: لا نستطيع أن نأخذ بقولكم لأن عندنا من هو أعلم بالحديث منكم!.
وكذا يجب أن نقول ـ حسب ذلك النص ـ لمن بعدهم، ومنهم أبو عبد الله الحاكم المتوفى سنة 405 وأبو يعلى الخليلي المتوفى سنة 446 والخطيب البغدادي المتوفى سنة 463، ثم لابن رجب المتوفى سنة 795 ولابن حجر تلميذ العراقي المتوفى سنة 852.
الذي قاله العراقي المتوفى سنة 806 قاله قبله ابن الصلاح المتوفى سنة 643 والنووي المتوفى سنة 676، وسبقهم من القائلين به آخرون، لكنهم لا يُقارنون بالأئمة الكبار المتقدمين.
ـ أما مذهبي الذي أعتقده فهو أن الأئمة الذين شهد لهم علماء الأمة وأطبقوا على أنهم هم المرجوع إليهم في علم الحديث هم الأئمة المتقدمون.
ومن أراد أن يعرف مقام كل واحد من العلماء في العلم وأن ينزل الناس منازلهم فليقرأ تراجمهم.
* ـ أما كلام أهل الفقه والأصول في صحة الروايات وعدم صحتها فهذا منهم فضول، إلا من جمع بين الحديث والفقه، ولو أنصفوا لقالوا مثل ما قال الإمام الشافعي للإمام أحمد رحمهما الله: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني حتى أذهب إليه".
* ـ ثم قال الحافظ العراقي رحمه الله: "سعيد بن أبي أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين: أحدهما: أنه لم يُختلف في توثيقه، وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد منكر الحديث، الثاني: أن معه زيادة علم على من وقفه".
أقول:
سعيد بن أبي أيوب وثقه ابن معين، وقال ابن حنبل: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا.
وعبد الرحمن بن شريح وثقه ابن معين والعجلي، وقال ابن حنبل: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: منكر الحديث.
ولكن في باب الإعلال فإن رواية عبد الرحمن بن شريح هنا تعلُّ رواية سعيد بن أبي أيوب وإن كان عبد الرحمن دونه في المرتبة، وذلك لأن الخطأ في الروايات يكون غالبا برفع الموقوف ووصل المرسل، وليس العكس، لأن السند المرفوع والمتصل هو الجادة المسلوكة.
إن من مفاخر أئمة الحديث هذا الشيء العجيب في دراسة النفس الإنسانية ومعرفة أين يقع الخطأ، وكذا في التنبه إلى أن الجادة المسلوكة التي تتوارد عليها الروايات بصفة عامة تصبح أقرب إلى أن يذهب إليها ذهن الراوي فيخطئ في الرواية.
وهذا النوع من دقة الانتباه إلى وقوع الخطأ في الرواية يصعب أن تجده عند غير الأئمة الكبار من المحدثين، ولا يمكن أن يدركه اليومَ إلا من أوتِي حظا وافرا في الدراسات النفسية.
قد يستغرب البعيدون عن علم علل الأسانيد عند المحدثين كيف يتم ترجيح رواية عبد الرحمن بن شريح هنا على رواية سعيد بن أبي أيوب على الرغم من أن عبد الرحمن دون سعيد في المرتبة، لأنهم لا يقدرون مدى دقة المحدثين في التوقي عن الأخطاء التي قد تقع في الأسانيد والتي لا ينفك عنها البشر غالبا مهما أوتوا من قوة الحافظة.
وهذا أحد الأمثلة من عمل الأئمة المحدثين في الإعلال:
روى النسائي في السنن الكبرى من طريق خالد بن الحارث عن حسين بن ذكوان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة من أهل اليمن أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبنتٌ لها في يد ابنتها مَسَكتان غليظتان من ذهب. الحديثَ. ورواه من طريق المعتمر بن سليمان عن حسين بن ذكوان عن عمرو بن شعيب أنه قال: جاءت امرأة ومعها ابنة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مَسَكتان. مرسلا. وعلق على اختلاف الروايتين حيث أعل الموصولة بالمرسلة فقال: خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب.
ـ الفرق بين عمل الأئمة من المحدثين وبين عمل المتأخرين هو كالفرق بين عمل كبار الأطباء الجِراحيين المتخصصين وبين تلامذة كلية الطب الذين بدؤوا يأخذون التقارير الطبية من أولئك لكتابتها وتنسيقها، ثم يجد كل واحد منهم نفسه غير قادر على الاستمرار فيتوقف مكتفيا بما هو عليه، على اختلافٍ بينهم في مقدار الدرجة التي استطاع أن يصل إليها.
ـ من أراد أن يوازن بين درجة الأئمة من المحدثين وبين درجة العلماء المتأخرين في الحديث فليرجع إلى تراجم هؤلاء وهؤلاء، ومن المتأخرين الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي من كبار شيوخ الحافظ ابن حجر رحمهما الله، وله ترجمة طويلة في الضوء اللامع، وسيجد أنه لم يبق في هذا الوقت من علم علل الحديث سوى شذرات يسيرة جدا.
حفظك المولى بعنايته ورعايته، وسامحني على الإطالة.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 8/ 11/ 1439، الموافق 21/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

حوار حول حديث من يجدد لها دينها 2- الحوار الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل البدء بالجواب فإني أشكر الإخوة الكرام جميعا حفظهم الله وبارك فيهم، راجيا أن لا يقول أحد عني كلمة دكتور، لأنني لا أحب هذه الكلمة الدخيلة، والأحب إلي أن يتحدث عني أي أخ كريم بالاسم الذي سماني به والدي رحمه الله.
ـ قال أحد الإخوة عني: "تضعيفه لشراحيل بن يزيد بحجة عدم الاكتفاء بتوثيق ابن حبان، ولم يأت بقول عالم قد صرح بتجريحه وتضعيفه".
أقول: هذا النقل عني هو خطأ محض، فالذي قلته في هذا الراوي هو "لم أجد فيه قولا لأحد أئمة الجرح والتعديل سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، وهذا لا يكفي في التوثيق". ولم أقل بتضعيفه، وبينهما فرق كبير، أي إنني لم أرَ أنه في مرتبة الثقة، ولم أضعفه ولم أقل عنه مجهول، فخلاصة حاله إذا لم يكن في مرتبة الثقة أن مروياته ليست في مرتبة القبول.
وهذا كما إذا وجد الباحث قولا في تضعيف راو فقال "هذا لا يكفي في التضعيف" ففهم منه بعضهم أن هذا توثيق وعزا لذلك الباحث أنه يوثقه!، وهذا غير صحيح.
لكن لو صرح عالم أو باحث بأن كل من لم أضعفه فهو عندي ثقة أو أن كل من لم أوثقه فهو عندي ضعيف فهذا يصح أن يُنسب إليه توثيق من لم يضعفه أو تضعيف من لم يوثقه.
قوله عني "لم يأت بقول عالم قد صرح بتجريحه وتضعيفه" مطالبة في غير محلها لأنني لم أقل بذلك.
وأقول: لا يجوز لأحد أن يقوِّل أحدا ما لم يقله.
ـ مسألة تساهل ابن حبان في كتابه الثقات قد يصعب على بعض الناس أن يعترف بها، فاسمع ما قال ابن حبان في مقدمة كتابه الثقات، قال: "العدل مَن لم يُعرف فيه الجرح، إذ الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده، إذ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم". وهو يعني بالعدل هنا من اتصف بالعدالة والضبط واستحق أن يُدرج اسمه مع أسماء الثقات.
أقول: لا يختلف اثنان في أن الجرح ضد التعديل، لكن إذا كان لك أن تقول إن "العدل مَن لم يُعرف فيه الجرح" فلِخصمك أن يقول إن المجروح مَن لم يُعرف فيه العدالة، وإذا تعارض الاحتمالان فالقول بأحدهما دون الآخر بدون دليل هو تحكم، وهو مرفوض شرعا وعقلا، والكلام بدون دليل غير مقبول عند العقلاء.
إذا كان الإنسان يتصور أن الأصل في الناس في عصور الرواية هو التدين والصدق فهل يستطيع أن يقول إن الأصل فيهم هو الضبط؟!، هذا غير صحيح، وإلا لم يقل مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله وهو يشير إلى المسجد النبوي الشريف: "لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو اؤْتُمِن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن".
ـ قد يظن بعض الناس أن ابن حبان أدلى بحجته حيث قال "إذ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم".
أقول: لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم، هذا صحيح، ولكنهم مكلفون بالبحث والتقصي وبذل الجهد لمعرفة ما إذا كان الراوي {ممن ترضون من الشهداء} أو لا، أما أن يقصّر الإنسان في البحث والتقصي وبذل الجهد ويقولَ لم يُكلف الناس معرفةَ ما غاب عنهم فهذا من العجز. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز والكسل.
ـ بعض الناس قد يرى أن كلامي غير مقبول، ولكلٍ وجهة، فاسمع قول ابن حجر رحمه الله إذ لعله يكون عندك مقبولا، فقد نقل في مقدمة لسان الميزان عن ابن حبان أنه قال: "الناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح". وعلق على ذلك بقوله: "هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه، فإنه يذكر خلقا ممن ينص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته فقال: العدل من لم يُعرف فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يُجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه، إذ لم يُكلف الناس ما غاب عنهم".
وإذا وصل الحال بابن حبان أن يذكر في كتاب الثقات مجهول العين فمن باب أولى أن يذكر فيه مجهول الحال.
فهل قول ابن حجر مقبول عند الإخوة المحاورين؟!.
ـ الذهبي وابن حجر وأمثالهما من المتأخرين ليسوا من الأئمة المجتهدين في الجرح والتعديل كشعبة بن الحجاج ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وابن حنبل والبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة، وهم من علماء الحديث المقلدين الذين يلخصون أقوال السابقين من غير تمحيص وسبر للروايات غالبا، فإذا وجدنا لأحدهم قولا وعندنا قرينة على أنه نتيجة بحث وتمحيص فهو مقبول.
من اختار لنفسه أن يكون مقلدا للمقلدين فله اختياره ولا أنازعه فيما رضيه لنفسه، أما ما أختاره لنفسي فهو تقليد الأئمة المجتهدين من المحدثين.
ـ لم أضعِّفْ شراحيل بن يزيد، ولم أقل كذلك إنه مجهول، فرَدُّ الأخ الباحث على من يقول إنه مجهول هو رد على من يتخيله الباحث في ذهنه، ولا أدري فعلا ما السبب الذي يدعو بعضَ الناس إلى أن يعيش في الخيالات.
ـ نقل الباحث عن الإمام البخاري أنه قال في التاريخ الكبير: "شراحيل بن يزيد المعافري سمع مسلم بن يسار عن أبي علقمة، روى عنه عبد الرحمن بن شريح وسعيد بن أبي أيوب". وعلق على ذلك بقوله: "فسكوته عن جرحه وتعديله لا يعني أنه مجهول، بل إن إقراره بالسماع من مسلم بن يسار ثم روايته له في الصحيح فهذا إقرار ضمني بتوثيقه". وأضاف قائلا: "وكذلك رواية الإمام مسلم له في صحيحه إقرار له بتوثيقه إقرارا ضمنيا".
أقول: دعوى أن هذا الراوي روى له الإمام البخاري أو الإمام مسلم في الصحيح هي دعوى باطلة مخالفة للواقع، لأن البخاري رحمه الله لم يرو له حديثا واحدا في صحيحه، وإنما روى له رواية واحدة في الجزء المسمى بخلق أفعال العباد، وهذا غير الجامع الصحيح ولا يأخذ حكمه، ولأن مسلما رحمه الله لم يرو له حديثا واحدا في صحيحه، وإنما روى له رواية واحدة في مقدمة الصحيح، والمقدمة غير الجامع الصحيح ولا تأخذ حكمه، ولهذا وضع أصحاب الكتب المصنفة في الرواة لمن روى له مسلم في مقدمة كتابه رمزا مختلفا عمن روى له في صلب الكتاب.
ولو رجع الأخ الباحث للرموز التي تضعها كتب أحوال الرواة مع اسم الراوي كتهذيب الكمال للمزي والكاشف للذهبي وتقريب التهذيب لابن حجر وغيرها لوجد بنفسه أن البخاري ومسلما لم يرويا لهذا الراوي في الجامع الصحيح.
قال المزي رحمه الله في مقدمة كتابه تهذيب الكمال: "علامة ما أخرجه البخاري في الصحيح خ، وعلامة ما أخرجه في كتاب أفعال العباد عخ، وعلامة ما أخرجه مسلم في الصحيح م، وعلامة ما أخرجه في مقدمة كتابه مق". ومثله في تهذيب التهذيب وتقريب التهذيب لابن حجر.
ـ قال أحد الإخوة: "روى أبو داود الحديث من طريقين: الأول من طريق شراحيل بن يزيد عن أبي علقمة عن أبي هريرة، ثم ذكر أبو داود أنه رُوي من طريق عبد الرحمن بن شريح ولم يجزْ به شراحيل بن يزيد".
أقول: لا يُقال عن هذا الحديث له طريقان، لأن كِلا الطريقين عن شراحيل بن يزيد يمران به، أي تفردَ به شراحيل، والتعدد نقيض التفرد، فلا يجتمعان.
لكن نقول له طريقان عن شراحيل، ولا يُقال له طريقان بإطلاق.
ـ ثم قال الأخ الكريم: "الإمام أبو داود تكلم عن الطريق الثاني وضعَّفه، لكنه سكت عن الأول".
أقول: بل الإمام أبو داود تكلم عن هذا الحديث الذي ليس له إلا طريق واحد، مشيرا إلى أن الراوي الأول عن شراحيل روايته موصولة مرفوعة، وأن الراوي الثاني عن شراحيل روايته لم تتجاوز شراحيل، وإذا لم تتجاوزه فهي موقوفة عليه، وهي بذلك تعل رواية الراوي الأول عنه. [انظر: النوع الأول في إعلال الطريق المرفوع بالطريق الموقوف من منهج الإمام البخاري في كتابي منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية].
أنصح من لم يقرأ في كتب العلل التي تضمنت كلام الأئمة من علماء الحديث في إعلال المرويات قراءة وعْي وتمحيص فالأولى أن لا يتكلم في مسائل الإعلال.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من علم علل الأسانيد لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
ـ قول الراوي "عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه شيء من التردد في الرواية مع تغليب الظن أنها هي كذلك، ولو لم يقع للراوي شيء من التردد لمَا قال هذه الكلمة، فنحن نجد في الأحاديث المروية أن الراوي لا يقول "فيما أعلم" حيث لا تردد عنده.
وكلمة "فيما أعلم" ثابتة في ثلاثة من المصادر التي روت هذا الحديث، فلا يضرها أنها لم تُذكر في المعجم الأوسط للطبراني ومستدرك الحاكم.
ـ ثم قال الأخ الكريم: "قد صححه الحاكم فيما ذكر المناوي، وصححه العراقي مرفوعا، ورمز السيوطي إلى صحته، وأفاد بنحو هذا الإمام السخاوي".
أقول: تصحيح الحاكم رحمه الله ليس بمعتمد، وكذا تصحيح العلماء المتأخرين المقلدين، فهم لا يُقارنون بالأئمة المتقدمين، وشتان بينهما.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من الفرق بين المتقدمين والمتأخرين في العلم بالحديث الشريف لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
ـ ثم قال الأخ الكريم: "قوله أن شراحيل بن يزيد لم يوثقه غير ابن حبان، وقد أفدتُ أن الحافظين ابن حجر والذهبي قالا بتوثيقه، وهو من رجال الصحيح، وهذا يكفي في توثيق الرجل، لأنه لم يقل أحد بتضعيفه، فلو ضُعف من طرف آخر لقلنا يُنظر في توثيق ابن حبان، أمَا وقد وثقه ابن حبان وأقره ابن حجر والذهبي إضافة إلى أنه له ذكر عند البخاري ومسلم فهذه قرائن كافية في توثيق الرجل".
أقول: هذا الراوي لم يوثقه ابن حبان، ولكن ذكره في الثقات مجرد ذكر، والذي ذكره في الثقات أقل رتبة ممن ذكره ونص على توثيقه.
وقد بيَّض له البخاري وابن أبي حاتم وابن يونس في تاريخ مصر والذهبي في تاريخ الإسلام، أي لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الذهبي في الكاشف، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب صدوق. ووهم من قال وثقه ابن حجر.
الذهبي وابن حجر وأمثالهما من المتأخرين ليسوا من أئمة الجرح والتعديل.
ـ لقد وهم الأخ الباحث وهَما فاحشا إذ قال عن شراحيل بن يزيد "هو من رجال الصحيح"، وهذه الكلمة تعني أن البخاري أو مسلما روى له حديثا من روايته في الجامع الصحيح، فهذا الراوي ليست له رواية لا في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، فلا يصح أن يُقال عنه "هو من رجال الصحيح".
أقول: شكر الله لك، وجزاك الله خيرا.
وهذا الرجل وثقه مسلمة بن قاسم، ومسلمة نفسه مجروح، قال ابن الفرضي عنه في تاريخ علماء الأندلس: سمعت من ينسُبه إلى الكذب، وسألت محمد بن أحمد بن يحيى القاضي عنه فقال لي: لم يكن كذابا، ولكن كان ضعيف العقل. وضعفه الذهبي في المغني وفي ميزان الاعتدال، وقال في سير أعلام النبلاء: لم يكن بثقة.
هل الذي يقبل توثيق الذهبي لشراحيل بن يزيد يقبل تضعيفه لمسلمة بن قاسم وقولَه فيه ليس بثقة؟!. الله أعلم.
أما أنا فلا أقبل توثيقه هناك لأنه بناه على ما يبدو على ظاهر العدالة، وأقبلُ تضعيفه هنا لأنه بناه على ما يبدو على سبر أقواله التي قالها في الجرح والتعديل، ومن ذلك أنه قال في ميزان الاعتدال: "محمد بن إبراهيم بن المنذر، الحافظ العلامة أبو بكر النيسابوري، صاحب التصانيف، عدل صادق فيما علمتُ، إلا ما قال فيه مسلمة بن قاسم الأندلسي كان لا يحسن الحديث، ونسَب إلى العُقيلي أنه كان يحمل عليه وينسُبه إلى الكذب، ولا عبرة بقول مسلمة".
وبعد الوقوف على حال هذا الراوي فإن القصة المنسوبة للإمام أحمد في جعْله الإمامَ الشافعي ثانيَ المجددين لها إسنادان، قلت في الحوار السابق أحدهما تالف والآخر ضعيف، وأقول الآن راجعا عن القول السابق: بل أحدهما فيه نظر والثاني ضعيف.
ولو صحت هذه الحكاية عن الإمام أحمد فهذا لا يعني أنه يصحح الحديث الوارد فيها، وهو حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها".
ـ من القرائن التي تدل على أن الإمام أحمد لا يقول بصحة هذا الحديث كونه لم يروه في مسنده، وقد ذكر أبو موسى الأصبهاني في كتابه خصائص المسند عنه أنه قال: "إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمئة وخمسين ألفا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة". وهذا الحديث ليس فيه.
ـ الإسناد الذي فيه راو مجهول يراه بعض الناس ضعيفا فقط أو ضعيفا قابلا للانجبار، وقد يكون هذا صحيحا في بعض الحالات، لكنه في كثير منها ليس هو كذلك، فلا بد من توخي الحذر الشديد والرجوع إلى القرائن.
ولو سألني الإخوة الكرام أن أوضح لهم جانبا من خطورة روايات المجاهيل لأوضحت ذلك بمثال إن شاء الله.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 5/ 11/ 1439، الموافق 18/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***


الحوارات الأربعة حول حديث من يجدد لها دينها‎ - الحوار 1


حوار حول حديث من يجدد لها دينها:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه تعقيبات على ما علق به بعض الإخوة جزاهم الله خيرا عما كتبته في بيان تضعيف وإعلال حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" فأقول:
أيها الإخوة الكرام: جزاكم الله خيرا وحياكم الله جميعا وتقبل منكم صالح الأعمال وجعلنا جميعا من عباده الصالحين.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أيها الإخوة الكرام:
الذي يتكلم في مسائل العلم والأدلة والترجيح يجب أن يكون مجتهدا فيما يتكلم فيه، فيناقش في المسائل التي بلغ فيها رتبة الاجتهاد، وإلا فهو على خطر عظيم.
المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، أما الذي يتكلم في دين الله في مسألة لم يبلغ درجة الاجتهاد فيها فإنه إن أخطأ فوزره عظيم، لأنه يتكلم فيما لم يُؤذن له فيه.
فقد روى النسائي في السنن الكبرى وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن بُريدة بن الحصيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجلٌ عرَف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرَف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار".
أيها الإخوة الكرام:
إذا كنتم تريدون الرد فمرحبا بالردود العلمية، والعلم هو الصادر من مجتهد، لا من مقلد.
قال الفقيه الحنبلي القاضي أبو يعلى في كتاب العُدة في أصول الفقه: "التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم". [العدة في أصول الفقه: 4/ 1218].
وقال الإمام الغزالي في المستصفى: "التقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلـَّد، والمقلـِّد معترفٌ بعمى نفسه، وإنما يدَّعي البصيرة لغيره". [المستصفى للغزالي: 1/ 384. وفي طبعة أخرى: ص 162].
وقال الزركشي الشافعي: "التقليد لا يفيد العلم". [تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 4/ 623].
ونقل السيوطي عن القاضي عبد الوهاب من أئمة المالكية رحمهما الله أنه قال في كتابه المقدمات في أصول الفقه: "التقليد لا يثمر علما ولا يفضي إلى معرفة". [الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص 47 ـ 48].
هل دخول كثير من الناس اليوم في مسائل العلوم الشرعية هو مجرد فضول منهم؟:
قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة: "شرْط المقلد أن يسكت ويُسكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحِجَاج، ولو كان أهلا له كان مُتـَّبَعا لا تابعا وإماما لا مأموما، وإن خاض المقلد في المحاجَّة فذلك منه فضول". [ونقله السيوطي مع الإقرار في كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض: ص 88. وفي الحاوي للفتاوي: 2/ 139، وفي طبعة أخرى: 2/ 110].
قد يقول قائل: أنا مقلد لأقوال من تعلمت منهم من أهل العلم.
أقول: يمكنك أن تنقل أقوال من يغلب على ظنك أنه من أهل العلم وتعمل بها، لكن ليس من حقك أن تتكلم في المفاضلة بين أقوال أهل العلم إذا لم تكن أنت في ذلك على علم، وإلا فستأتي يوم القيامة وقد أمسك من سفـَّهت أقوالهم بتلابيبك يخاصمونك لأنك تكلمت فيهم بغير علم، أما المجتهد فمعذور، وأما المقلد فموزور.
* ـ يقول بعض الإخوة المقلدين هكذا سمعت من شيوخي ويبني على ذلك ترجيح قول شيوخه على غيرهم!، وربما كان شيوخه أقصى ما عندهم دراسة الفقه على مذهب فقهي واحد، أو مع المقارنات الفقهية بين الأدلة التي يجدونها في الكتب أمامهم.
لكن: هل هم يعرفون الحديث بأسانيده وطرقه ويوازنون بينها؟!، وهل يعرفون علل الأسانيد ويميزون بينها؟!. الله أعلم.
* ـ ضمني لقاء قبل سنوات مع أحد كبار المشتغلين بالحديث الشريف في هذا العصر، من المشهود لهم بالتقدم في علم الحديث من كافة شرائح أهل العلم اليوم، وتدريسُه في عدد من الجامعات الإسلامية وكتاباته في علوم الحديث وإشرافه على الرسائل العلمية في غاية الاشتهار.
قرأ لي نبذة مما كان يكتب واستشارني ـ تواضعا منه ـ في ذلك.
كان كتابي منهج الإمامين البخاري ومسلم في إعلال المرويات الحديثية في يدي وكنت قد أهديته نسخة منه قبل ذلك، فقلت له: هل تسمح لي أن أقرأ نبذة من كلام الإمام البخاري في كتابه التاريخ الكبير؟!. فأذن لي، ففتحت الكتاب وقرأت منه فقرة، فاستغرب، واستوقفني وقيدها عنده في كراسة المهمات.
قلت له: هل تسمح لي أن أقرأ نبذة أخرى من كلام الإمام البخاري من كتاب العلل الكبير للترمذي؟!. فأذن لي، فقرأت منه فقرة، فاستغرب مرة أخرى، واستوقفني وقيدها عنده كذلك في كراسة المهمات.
هذا الشيخ الذي يُعد اليوم من كبار علماء الحديث ـ على الرغم من كثرة قراءاته وسعة اطلاعه ـ فاتته أشياء فيما يتعلق بعلم علل الأسانيد!، فما الظن بمن هم دونه وربما بمراحل كثيرة؟!.
أيها الإخوة الكرام:
المقلد إذا كان عاميا صِرفا فلا اعتداد بظنه أصلا، فقد قال الفقيه الحنفي ابن الهمام في فتح القدير: "العامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، لأن ميله وعدمه سواء". [فتح القدير شرح الهداية: 7/ 257].
وقال الفقيه الحنفي محمد بن حمزة ابن الفَنَري المتوفى سنة 834: "أما المقلد فلا اعتداد بظنه". [فصول البدائع في أصول الشرائع لابن الفنري: 2/ 328].
وقال الفقيه الشافعي المعمَّر أبو الطيب الطبري المتوفى سنة 450: "ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء، ولا أن يقول قولُ فلان أقوى من قول فلان، ولا حكْمَ لما يغلب على ظنه ولا اعتبار به". هكذا نقله عنه الزركشي في البحر المحيط مع الإقرار. [البحر المحيط للزركشي: 8/ 366، وفي طبعة أخرى: 4/ 591].
* ـ
ـ قال أحد الإخوة المعترضين على تضعيف الحديث: للإمام السيوطي رسالة في هذا الحديث، والحافظ ابن حجر تكلم عنه في الفتح وتكلم عن شروط المجدد.
أقول: لم يذكر الأخ الناقل هل صرح هذان العالمان بصحة الحديث أو جرى ذكره في كلامهما فقط.
وإذا ألف السيوطي رحمه الله في هذا الحديث رسالة فهذا لا يعني أن الحديث قد أصبح بذلك صحيحا، وكذا إذا تكلم عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري أو تكلم عن شروط المجدد.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث "لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون": قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد.
ثم قال ابن حجر: [ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائمَ بالأمر على رأس المئة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثَم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائمَ بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المئة هو المراد، سواء تعدد أم لا].
لكن يوجد فرق كبير بين الحديثين الواردين في كلام ابن حجر، فالحديث الصحيح في الطائفة المنصورة ليس فيه أن لهم ارتباطا زمنيا برأس المئين من السنين، أما الحديث الضعيف فيمن يجدد لهذه الأمة أمر دينها فإنه يربط التجديد برأس كل مئة سنة، ومن آثاره السيئة أنه يجعلنا نربط مسألة المجددين برأس كل مئة سنة، فنقول عمن كان له تجديد وكانت وفاته على رأس المئة أو نحوها إنه المجدد أو هو أحد المجددين ونستبعد من تلك اللائحة مَن لم تكن وفاته كذلك.
ـ قال أحد الإخوة: أشار البخاري إلى ضعفه في التاريخ الكبير.
أقول: لم أجد كلام البخاري عن هذا الحديث.
ـ قال أحد الإخوة: ضعف الحديث لا ينفي نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: ما الذي تريد أن تقوله؟!، كلامك يفيد أن كل ما لدينا من الأحاديث الصحيحة الأسانيد والضعيفة الأسانيد تُنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينها في الدرجة، وكأن كل ما عمله المحدثون من جهد في غربلة الأحاديث جهد ليس له كبير فائدة.
جهود أولئك الأئمة الأعلام التي كانت محط تقدير وإعجاب كل الفضلاء والمنصفين يأتي أناس اليوم يهونون من شأنها، وهي التي ميز بها الله عز وجل أهل هذا الدين عن أتباع سائر الأديان.
ولا أدري لمَ يقع اليوم نوع من الإشادة بالأحاديث الضعيفة وإلحاقها بمرتبة الأحاديث الصحيحة؟! ولمصلحة من؟!.
ـ قال أحد الإخوة عن كلامي: فيه وهَم ويحتاج إلى دراسة!.
أقول: كيف عرفتَ أن فيه وهَما قبل أن تتم الدراسة؟!.
ـ قال أحد الإخوة عن هذا الحديث: المعول عليه هو كلام الأئمة المحققين في صحة رفعه ونسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: مَن هم الأئمة المحققون عندك؟!، هل يُعد الإمام أبو داود منهم؟!، وهل تقبل بمنهج الإمامين البخاري ومسلم ومعهم أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وسائر أئمة علم الإعلال؟!، أو عندك من هو أعلم من هؤلاء جميعا؟!.
ـ قال أحد الإخوة: الحديث الضعيف قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: أظن أن الأخ الكريم لو فكر في كلامه هذا لمَا قاله، لأنه لو جاءك إنسان خاطبا ابنتك أو أختك فضعَّفه الناس بأنه لا يصلح لمَا قبلت الموافقة عليه، ولو جاءك إنسان بعد دفن والدك وقال لك إن والدك قال لي إذا أنا مت فائت ولدي فلانا ـ الذي هو أنت ـ فقل له بأنني لست راضيا عنه حتى يعطيك ألف دينار وكان هذا الإنسان يثني عليه جماعة ويضعفه جماعة لمَا وثقت بقوله ولمَا أعطيته شيئا، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نقل لك إنسان عنه رواية وضعفه علماء الجرح والتعديل فأنت تقبل روايته؟!!، بل تقول إنها حديث؟!، بل صار هذا عندك حجة تحتج به في أمور الدين وأحكام الحلال والحرام؟!، ما هذا؟!!. أتحتاط لنفسك في أمور دنياك ولا تحتاط لدينك؟!.
من الممكن أن تقول: إذا روى هذا الراوي الضعيف رواية فيها شيء من فعل الخير المندرج تحت أصل من أصول الشريعة فأنا سأعمل بهذا الأمر احتياطا، ولا يقع بهذا خلل في أحكام الشريعة، كقراءة آية الكرسي بعد الصلاة.
فإذا صحح حديثها بعض العلماء وضعفه بعضهم وقرأتَها فهذا الذي قال به العلماء من العمل بالضعيف في فضائل الأعمال ووضعوا له شروطا.
أما الحلال والحرام والروايات التي ينبني عليها أشياء تمس حال الأمة وأوضاعها وتصوراتها فالأمر مختلف جدا.
ـ قال أحد الإخوة: الحديث الشديد الضعف يُعمل به في فضائل الأعمال خلافا لابن حجر.
أقول: من حق العالم أو الباحث أن يخالف ابن حجر إذا كان عنده علم وأبدى سببا مقْنعا للمخالفة، أما أن يقوله وليس عنده سبب مقْنع فهذا نوع من العبث، فليته بين لنا لمَ يخالفه في تلك المسألة. وإذا كانت المخالفة لبعض أقواله مع الأخذ ببعضها ليس مبنيا على علم فهذا يعني أن الذي يفعل ذلك يمشي مع الهوى.
ـ قال أحد الإخوة: ضعْف الحديث لا يعني رده وعدم قبوله.
الحديث الصحيح الإسناد يُعمل به ويُحتج به، وذلك بغلبة الظن في ثبوته، وليس بالجزم والقطع، إلا إذا تواتر نقله بالأسانيد الصحيحة بشرطها فإنه يُحكم له في هذه الحالة بالجزم والقطع على صحته.
أما الحديث الضعيف فليس ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بغلبة الظن، بخلاف الموضوع، فإنه ليس ثابتا على سبيل الجزم والقطع بذلك، وهذا هو الفرق بين الضعيف والموضوع، وليس الفرق بينهما ما تخيله بعضهم من أن الموضوع ليس ثابتا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يكون الضعيف ثابتا عنه!!.
ـ قال أحد الإخوة: هذا الحديث رُوي بطرق موصولة ضعيفة وهذا لا يعني أنه أصبح موقوفا، وقد حكم له المحققون من المحدثين بالرفع، وكلامهم أولى بالاتباع.
أقول: حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" رواه الأئمة من طريق واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له طرق، ومن ادعى أن له أكثر من طريق عنه فليأت ببينة، فهل يجوز الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهوى والتشهي؟!.
ومن العجيب دعوى أن المحققين من المحدثين قد حكموا له بالرفع!، وأن كلامهم أولى بالاتباع!، فمن هم المحققون من المحدثين الذين حكموا لهذا الحديث بالرفع؟!، ألا تبرز أيها الأخ الكريم أسماءهم وكتبهم؟!، أو ترى أن تقديم الدعوى دون دليل ولا برهان كافٍ للحكم بقبولها؟!.
ـ قال أحد الإخوة عني: أغفلَ اعتماد الحديث من قبل علماء الحديث وتصحيحهم.
أقول: لم يذكر الأخ الكريم أقوال علماء الحديث الذين يرى أنهم اعتمدوا هذا الحديث وصححوه، فإذا وجد بعض من يقولون بصحته من المتأخرين المقلدين الذين جاؤوا بعد عصر الاجتهاد فهل يرى أن قولهم مقدم على منهج كبار الأئمة المجتهدين في الحديث الشريف كالبخاري ومسلم وسائر أئمة علوم الحديث؟!.
ـ قال أحد الإخوة عني وعن هذا الحديث: أبسط الأمور أنه ضعَّفه لأجل شراحيل بن يزيد المعافري ولم يعتبر توثيق ابن حبان له توثيقا معتبرا.
أقول: هذا الكلام فيه خلل، لأني ضعفت الحديث لهذا ولأنه معلول بعلة الوقف على أحد الرواة، وهذا ما أعله به الإمام أبو داود.
وأما أنني لا أعد الراوي الذي ذكره ابن حبان مجرد ذكر في كتابه الثقات ثقة فعندي أدلة على ذلك، ويكفيك أن تقرأ في كلام الحافظ ابن حجر قوله في كتاب النكت على كتاب ابن الصلاح عن أحد الأحاديث: "أخرجه ابن حبان في صحيحه، وهو المعروف بالتساهل في باب النقد".
ـ ثم قال الأخ الكريم عن شراحيل بن يزيد: ذكره الدارقطني فيمن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاري، ووثقه الذهبي في الكاشف وقال ابن حجر صدوق، وأخرج له البخاري في أفعال العباد، وروى له مسلم في المقدمة.
أقول: أما ما ذكره الباحث عن الدارقطني فقد غره العنوان الذي وجده على النسخة، وهو "ذكْر أسماء التابعين ومَن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات عند البخاري ومسلم"، وهذه التسمية للنسخة خطأ، والصواب هو: "ذكْر أسماء مَن اشتمل عليه كتاب محمد بن إسماعيل البخاري الجامع للسنن الصحاح من التابعين فمَن بعدهم إلى شيوخه على حروف المعجم"، كما جاء في بداية هذا الجزء، ثم أتبعهم بذكر شيوخ مسلم في كتابه من التابعين فمَن بعدهم، أي إن الدارقطني جمع فيه أسماء من روى لهم البخاري ومسلم مجرد جمع، ولم يقل "ممن صحت روايته".
وأما الذهبي وابن حجر وغيرهما من المتأخرين فهم يلخصون غالبا أقوال الأئمة المتقدمين، وليسوا في مقام من تُقرن أقوالهم بأقوال أولئك، إلا إذا قامت قرينة على أن القول الذي قالوه هو نتيجة دراسة لهم.
وأما إذا روى البخاري من روايات راو في كتاب خلق أفعال العباد أو مسلمٌ في مقدمة كتابه الجامع الصحيح فهذا لا علاقة له بالتوثيق البتة.
لأن الراوي قد يروي له الشيخان أو أحدهما في الصحيحين ويكون قد ضُعف وأحيانا تضعيفا شديدا ولا يشفع له وجود بعض مروياته فيهما لتبرئة ساحته من التضعيف، فكيف بمن رويا له في غير الصحيحين؟!. ورواية مسلم للراوي في مقدمة كتابه أقل درجة مما لو روى له في أحاديث الكتاب.
وذكر بعض العلماء هنا جوابا إجماليا عن وجود روايات الرواة الضعفاء في بعض أحاديث الصحيحين، هو أن الشيخين قد انتقيا من حديث الراوي المضعَّف ما توبع عليه أو وُجد لروايته شواهد ترتقي بها من مرتبة الضعف إلى مرتبة القبول.
ـ نقل بعض الإخوة عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه ذكر حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" وأنه عقب عليه بقوله: فعمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى والشافعي على رأس المئة الثانية.
أقول: إذا صح السند إليه فهذا لا يعني أنه يصحح الحديث، لأنه ليس بممتنع أن يفرِّع العالم على قول يُنسب للنبي صلى الله عليه وسلم بسند لا يراه صحيحا وهو ثابت من قول بعض الصحابة أو التابعين أو أتباعهم.
كنتُ قد ضعفت إسناد هذه الحكاية عن الإمام أحمد وقلت: محمد بن أيوب بن يحيى بن حبيب لم أجد له ترجمة فهذا الطريق تالف. فنبهني أحد الإخوة جزاه الله خيرا إلى أن هذا الراوي قد انقلب اسم جده وأن الصواب هو أنه محمد بن أيوب بن حبيب بن يحيى، فبحثت عنه فوجدت أنه وثقه مسلمة بن قاسم، ولكن مسلمة مجروح، ومع ذلك فيبدو ـ لعدة قرائن ـ أنه لا بأس به.
ـ قال أحد الإخوة: المعتمد عند المتقدمين من المحدثين جواز نسبة الحديث الضعيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قسم من أقسام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في الكذب لأن فيه نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست نسبة شك وإنما نسبة ظن، والعلماء يروونه بالسند ويقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب الحديث زاخرة بذلك.
أقول: ما هذا المعتمد؟!، وهلا ذكرت أسماء هؤلاء الأئمة الذين اعتمدوه!، ونسبة الحديث الضعيف الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي نسبة شك وليست نسبة ظن، فهو مشكوك في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم.
لو عرفت أيها الأخ الكريم حقيقة هذا القول فما أظنك تقوله.
وقع في يدي كتاب كله مطاعن في ديننا ونبينا عليه صلوات الله وسلامه وفي سيرته وحياته، وكان اعتماد المؤلف على مرويات حديثية من أوله إلى آخره، معظمها أسانيدها ضعيفة، وما لم يكن ضعيف الإسناد يلوي عنقه كي يستدل به على المعاني المحرفة التي تناسب هواه.
فمعظم تلك المرويات التي جاءت بأسانيد ضعيفة على طريقتك مقبولة وتصح نسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!. هل تفرح بهذا؟!!.
لو وقع مثل هذا الكتاب في أيدي أبناء المسلمين غيرِ المحصَّنين بالفهم الصحيح لعلوم الحديث ومنهج كبار الأئمة في التصحيح لخرج كثير منهم من دين الله أفواجا، ويومئذ ستبكي ونبكي جميعا يوم لا ينفع البكاء وسنندم يوم لا ينفع الندم!.
من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن المنهج الصحيح ليس منهجا مستحدثا يقول به اليوم فلان أو فلان، ولكنه المنهج الذي أرسى دعائمه كبار الأئمة المتقدمين قبل أن يظهر مذهب المتساهلين في التصحيح.
ولو لم يكن هذا هو مذهبَ أولئك الأئمة المتقدمين ـ الذين يتغنى كثير من الناس اليوم بمحبتهم محبة عاطفية لا حقيقية ـ لقال أعداء الله إنه منهج ابتدعتموه لرد ما واجهناكم به ولم نجد له حضورا عندكم من قبل، ولكن الله جل وعلا يقيض لهذا الدين بتأييده وتوفيقه من ينافحون عنه ويردون كيد أعدائه.
ـ قال أحد الإخوة: إن العلماء عملوا بالحديث الضعيف في الأحكام، وهذا مبحث خلافي مع أهل الحديث.
أقول: العلماء في العصور الأولى لم أجد عندهم في علوم الحديث أو الفقه أو أصول الفقه جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف الإسناد في الأحكام، وما أظنه كان خلافيا.
العمل بالحديث الضعيف في الأحكام هو على قسمين، أحدهما أن يكون العمل به وبما انضم إليه من عملِ بعضِ الصحابة أو التابعين أو بما عضده من القياس مثلا، والآخَر أن يكون العمل به على انفراده دون أي معضد، وبينهما فرق كبير.
قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: "قال العلماء: الحديث ثلاثة أقسام، صحيح وحسن وضعيف، قالوا وإنما يجوز الاحتجاج من الحديث في الأحكام بالحديث الصحيح أو الحسن، فأما الضعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد، وتجوز روايته والعمل به في غير الأحكام كالقصص وفضائل الأعمال والترغيب والترهيب". تأمل حيث عزى النووي ما قاله للعلماء بإطلاق، لا لعلماء مذهب من المذاهب.
وقال ابن النجار الحنبلي المتوفى سنة 972 في كتابه شرح الكوكب المنير: "يُشترط في المجتهد أن يكون عالما بصحة الحديث وضعفه سندا ومتنا، ليطرح الضعيفَ حيث لا يكون في فضائل الأعمال، ويطرحَ الموضوع مطلقا".
وحُكي أنه قيل للإمام أحمد عن عمله ببعض الأحاديث: تأخذ بهذا الحديث وأنت تضعفه؟!. فقال: إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه. أي هو مما جرى العمل به عند علماء السلف.
فشتان بين العمل بالحديث الضعيف منفردا وبين العمل بما جرى عليه السلف ووافقه حديث ضعيف، فربما عمل الصحابة بشيء مما فهموه من روح الشريعة ومن مقتضى نصوصها واستمر عليه عمل مَن بعدهم، وفي هذه الحال قد يأخذ به الفقيه ويعمل بمقتضاه.
وربما سمع الراوي الضعيف هذا فوهِم فيه ونسبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي مثل هذا قد يظن من لا خبرة له بواقع الحال أن الفقيه يحتج بالحديث الضعيف في الأحكام، وليس كذلك.
ثم إن هذا لا يعني أن الحديث الضعيف صار بذلك ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو ثابت عمن عمل به من الصحابة والتابعين موقوفا عليهم، وذلك لا يكفي لتثبيت أنه مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.
ـ قال أحد الإخوة هنا: ثم إن الحديث الضعيف لو تعددت طرقه لصار حسنا لغيره وعندئذ تصبح نسبته أغلبية ظنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: الحديث الضعيف يصبح حسنا لغيره بتعدد الطرق مع أمر آخر ذكره الإمام الترمذي رحمه الله ولم يتنبه له المتأخرون. لكن ما علاقة هذا الكلام بالحديث الذي عليه مدار البحث هنا؟!، فهو حديث ليس له إلا طريق واحد.
ـ قال أحد الإخوة: ما ذكرتُه عن الحديث الضعيف هو الذي تلقيناه عن شيوخنا في الشام.
أقول: إذا كنتَ تلقيت هذا عن مشايخ الشام ـ حفظهم الله بخير وعافية ـ وأنت مقلد لهم لأنه غلب على ظنك أنهم أعلم وأورع في العلم من غيرهم فلك ذلك، ولكن في هذه الحالة ليس من حقك أن ترد به على غيرهم من أهل العلم وتلزمهم بما التزمت به في خاصة نفسك.
ـ قال أحد الإخوة: عند روايتك للحديث الضعيف ماذا تقول؟ ألا تقول "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟!، المحدثون كلهم هكذا يروونه.
أقول: الحديث الضعيف لا يبتدئ المحدثون فيقولون فيه "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بل يأتي هذا القول بعد ذكر الراوي الضعيف، وهذا مثال من سنن الترمذي:
قال الترمذي: حدثنا بشر بن معاذ العقدي البصري، قال: حدثنا أيوب بن واقد الكوفي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم". وعقب عليه بقوله: هذا حديث منكر، لا نعرف أحدا من الثقات روى هذا الحديث عن هشام بن عروة.
فأنت لا تقول فيه "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلا بعد ذكرك للراوي الضعيف أيوب بن واقد.
ولذا فقد نص العلماء المدققون كالنووي وغيره أنه لا يُقال في الحديث الضعيف الإسناد "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بل يُقال فيه "رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال"، ولمَّا نقل أحد الإخوة هذا عن النووي من كتاب المجموع لم يبدِ الأخ الآخر ما يشعر بالقبول، ولكل وجهة، وأخشى أن يكون الحوار عند بعض الناس هو من باب الانتصار للنفس والهوى، وليس من باب الانتصار للحق.
* ـ إعلال الحديث:
حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" رواه الإمام أبو داود السجستاني وأعله بالوقف على شراحيل بن يزيد المعافري، فسنده معلول.
ـ قد يقول لي قائل: اشرح لي وجه الإعلال عند أبي داود رحمه الله.
أقول: خلاصة قول أبي داود أن هذا الحديث رواه سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما يعلم الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، ورواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني عن شراحيل بن يزيد ولم يتجاوز به شراحيل، وفي مثل هذا يرى الأئمة من المحدثين أن الرواية المرفوعة معلولة بالموقوفة لحصول الشك فيها، إلا إذا جاءت قرائن تدعم رواية الرفع بحيث يترجح بها أنها ليست من قبيل الوهَم.
وهذا مذهب كبار الأئمة من المحدثين ومنهجهم ـ ومنهم البخاري ومسلم ـ قبل أن يتم هجر هذا المنهج والقضاء شبه التام على علم علل الأسانيد.
ـ قد يقول قائل: ألم يقل المحدثون زيادة الثقة مقبولة؟!.
أقول: قال الإمام البخاري رحمه الله ذلك في مناسبة خاصة، وقاله الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله في مناسبة خاصة كذلك، فظنه كثير ممن جاء بعدهم قاعدة مطـَّردة يمشون عليها، فصار منهج كبار الأئمة في علوم الحديث في واد ومنهج أكثر المتأخرين في واد آخر.
ـ قد يقول قائل: إذا كان منهج الإعلال المذكور هو منهجَ أئمة المحدثين فلمَ اختاروا هذا الطريق؟.
أقول: إذا كنا ونحن اثنان نطوف بالكعبة المشرفة ونحسُب الأشواط حُسبانا بأصابعنا مثلا واختلفنا فقال أحدنا لقد طفنا ستة أشواط وقال الآخر سبعة وكلانا لسنا على جزم ويقين فبقول أي واحد منا نأخذ؟!.
الأشواط الستة إذًا متفق عليها، والشوط السابع وقع فيه اختلاف وشك، فالقاعدة العقلية تقول لا بد من تثبيت القدر المتيقـَّن والبناء عليه، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث، فإذا اختلف راويان في الرواية فجعلها أحدهما موقوفة وجعلها الآخر مرفوعة فكونها موقوفة هو المتيقـَّن، وأما كونها مرفوعة فقد وقع فيه شك، وهنا يرجحون رواية الوقف ويعلون بها رواية الرفع.
أما إذا كنا أربعة أو خمسة مثلا وقال أحدنا طفنا ستة أشواط وقال الآخرون كلهم سبعة فما من شك في رجحان قولهم وأنهم حفظوا ما لم يحفظه الآخَر، وهذا ما يقوله أئمة علم الحديث، إذ يرجحون في مثل هذه الحالة صحة الرواية المرفوعة.
ومن المؤسف أن كثيرا ممن ينابذون أئمة المحدثين لا يعرفون مقامهم ولا يقدرونهم قدرهم، لأنهم لا يعرفون شيئا عن علوم الحديث المبنية على نظر علمي دقيق.
* ـ ملحوظة مهمة:
ـ يسأل بعضهم ما الذي يمكن أن يكون فيه تجديد في الدين إذا افترضنا صحة هذا الحديث؟.
أقول: إذا افترضنا صحة إسناد الحديث أو عدم صحة إسناده فمسألة التجديد ضرورية ولا بد منها، وهذا من المتفق عليه.
أما الدين الذي هو دين الله تعالى فهذا يجب المحافظة عليه ولا يجوز فيه التغيير ولا التبديل ولا التجديد، لكن إذا دخلت أشياء في الدين مع مرور الوقت وهي ليست منه فهذه يجب التحذير منها وإعادة الدين إلى صفائه ونقائه، وهذا هو التجديد المطلوب.
من المتفق عليه أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قام في خلافته بإبطال عدد من الأمور التي أدخِلت في الدين، ومنها رد الأموال التي أخِذت بدون حق من بيت مال المسلمين، وهذا من التجديد.
المختلَف عليه هنا هو: هل صح إسناد هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يصحَّ؟. أما عندي وحسب دراستي لإسناده فهو غير صحيح.
* ـ أيها الإخوة الكرام:
تسرني تعليقاتكم وحواراتكم، ولا تترددوا في المزيد، فالعلم رحم بين أهله، وكل منا قد يقول اليوم قولا فيستفيد من أخيه فيرجع عما كان قد قال، ورائدنا جميعا إن شاء الله البحث عن الحقيقة وقبولها والتمسك بها، وتقبل الله منكم وشكر سعيكم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 23 / 10/ 1439، الموافق 9/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.
***