الأربعاء، 26 أغسطس 2020

نبذة عن التصوف من كتابي عقائد الأشاعرة


قلت في كتابي عقائد الأشاعرة في حوار هادئ مع شبهات المناوئين:

أختمُ هذه الفقرة بما قاله الإمـام أبو بكر محمد بن إسـحاق الكلاباذي المتوفى سـنة 380، وهو من أعرف الناس بمذاهب الصوفيين ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، قال رحمه الله في وصف الصوفيين: "هم أشفقُ الناس على خلق الله وأكثرُهم طلبا للسنة والآثار وأحرصُهم على اتباعها".

أقول:

فمن لم يكن مِن أشفق الناس على خلق الله ومن أكثر الناس طلبا للسنة والآثار ومن أحرصهم على اتباعها وادعى أنه من الصوفيين فقوله باطل ودعواه كاذبة.

كما أختمُ هذه الفقرة بما قاله أحـد كبـار الصوفيين وهو الإمـام عبد الكريم بن هوازن القشيري المتوفى سـنة 465، فقد قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: "الصراط المستقيم: ما عليه من الكتاب والسنة دليل، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل، الصراط المستقيم ما شهدتْ بصحته دلائل التوحيد، ونبهتْ عليه شواهد التحقيق، الصراط المستقيم ما دَرَجَ عليه سلف الأمة، ونطقت بصوابه دلائل العبرة".

 ثم بما قاله أحـد كبـار الصوفيين وهو أبو حفص عمر بن محمد السَّـهرَوَردي المتوفى سنة 632، فقد قال رحمه الله: "كل علم لا يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهما أو معين على فهمهما أو مستند إليهما ـ كائنا ما كان ـ فهو رذيلة وليس بفضيلة، يزداد الإنسان به هوانا ورذالة في الدنيا والآخرة".

ثم بما قاله أحد كبار أئمة التصوف وهو السيد أحمد الرفاعي المتوفى سنة 578، فقد قال رحمه الله: "إذا رأيتم واعظا أو قاصًّا أو مدرسا فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلا ويقولون حقا، واطرحوا ما زاد، وإن أتى بما لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا به وجهه".

أقول:

فهذا كلام أهل التحقيق والرسوخ من الصوفيين، ومن قال بخلاف هذا فاضربوا به وجهه.

الاثنين، 18 مايو 2020

ماذا عن تكفير الإنسان حتى ولو قال شيئا دون قصد؟

* نقل بعض الناس سامحه الله عني كلاما في موضوع التكفير مما فهمه من كلامي،
 والذي ينقل بالمعنى فإنه قد يقع له شيء من تغيير المعنى وهو لا يدري.
وللتوضيح أقول:
قلت في كتابي الذي سميته بتكفير من لا يستحق التكفير: "مَن اعتقد اعتقادا يناقض ما ثبت
 ثبوتا قاطعا في الكتاب والسنة وعُلم من الدين بالضرورة فقد كفر، ومن فعل فعلا أو قال
 قولا يدل دلالة قاطعة على أنه صادر ممن يعتقد ذلك الاعتقاد فقد كفر". وأقول: هذا متفق
 عليه بين علماء الإسلام، ولا يخالف فيه منهم أحد.
* ـ هل هناك نقطة اختلف فيها العلماء مما يتعلق بهذا الموضوع؟، وما هي؟:
الجواب: نعم، وإليك البيان:
الفعل أو القول الذي ليس فيه دلالة قاطعة على أنه صادر ممن يعتقد اعتقادا يناقض الثابتَ
 ثبوتا قاطعا في الكتاب والسنة المعلومَ من الدين بالضرورة: قد يأتي به المسلم السفيه 
على وجه السفه، لا على وجه القصد للمعنى الكفري، وهذا لا يحكُم كثير من أهل العلم بكفر
 من أتى به، ولا يحكمون بخروجِه بذلك من دين الإسلام، وما ذلك إلا لانتفاء قصد المعنى
 الكفري من ذلك الفعل أو القول، وخالف فيه آخرون، وأنا مع أهل القول الأول.
وليس معنى ذلك أنه مباح وأنه مما يُتساهل فيه، لكن بين الكفر وبين الحرام فرق كبير جدا
 لا يغيب عن بال المسلم.
ومن اقتصر على نقل القول الثاني مقتصرا عليه وادعى اتفاق أهل العلم عليه فقد وهِم.
* ـ وهذه بعض النصوص من كلام الفقهاء القائلين بالقول الأول:
* نقل الفقيه المالكي الكبير محمد بن أحمد بن رشد الجد المتوفى سنة 520 عن محمد بن 
أحمد بن عبد العزيز العتبي المتوفى سنة 255 أنه قال في كتاب المستخرجة: [سئل مالك 
عن رجل نادى رجلا باسمه فقال "لبيك اللهم لبيك" أعليه شيء؟، فقال مالك: "إن كان
 جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه"].
قال ابن رشد في شرح هذا القول: "أما الذي قاله على وجه السفه ولم ير عليه مالك في
 ذلك شيئا فمعناه: الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له، ولا يُحمل على أحد أنه قال
 لأحد مجِدًّا معتقدا أنه إلهه إلا أن يقِر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا
 سكران". [البيان والتحصيل لابن رشد: 16/370 - 371 ].
وقال ابن رشد: "فلا يعْلم أحد كفر واحد ولا إيمانه قطعا إلا بالنص، أو بأن يظهر منه عند
 المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري بأنه معتقد
 لما يجادل عليه من كفر، إلا أنَّ أحكامه تجري على الظاهر من حاله، فمن ظهر منه ما يدل 
على الكفر حُكِم له بأحكام الكفر، 
ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حُكِم له بأحكام الإيمان". [البيان والتحصيل: 16/ 364].
* قال الفقيه المالكي الكبير القاضي عياض بن موسى اليحصبي المتوفى سنة 544 في كتابه
 الشفا: [أما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما
 يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه غيرَ قاصد للكفر والاستخفاف ولا عامدٍ
 للإلحاد: فإن تكرر هذا منه وعُرف به دلَّ على تلاعبه بدينه واستخفافه بحرمة ربه وجهله
 بعظيم عزته  وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وأما من صدرت عنه من ذلك الهَنَة الواحدة
 والفلتة  الشاردة ـ ما لم يكن تنقصا وإزراءً ـ فيُعاقب عليها، ويُؤدب بقدر مقتضاها وشنعة 
معناها  وصورة حال قائلها وشرح سببها ومقارنها، وقد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل
 نادى  رجلا باسمه فأجابه "لبيك اللهم لبيك"، فقال: إن كان جاهلا أو قاله على وجه سفه فلا
 شيء عليه]. قال القاضي عياض معلقًا على كلام ابن القاسم: "وشرْح قوله: أنه لا قتل 
عليه، والجاهل يُزجر ويُعلم، والسفيه يُؤدب، ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر".
 [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2/ 299 - 300]. ومعنى "اللهم":
 أي يا الله.

* قال الفقيه المالكي العلامة ابن الشاط قاسم بن عبد الله الأنصاري المتوفى سنة 723
 رحمه الله تعالى رحمة واسعة: "كيف يلتبس الكفر بالكبائر؟! والكفر أمر اعتقادي والكبائر
 أعمال وليست باعتقاد، سواء كانت أعمالا قلبية أو بدنية". وقال: "إن كان السجود للصنم 
مع اعتقاد كونه إلها فهو كفر، وإلا فلا، بل يكون معصية إن كان لغير إكراه، أو جائزا عند
 الإكراه". [إدرار الشروق على أنواء البروق للعلامة ابن الشاط: 4/ 115].
* قال الفقيه المالكي الشيخ محمد بن الحسن البناني المتوفى سنة 1194 في مسألة وضع
 البصاق على المصحف: "أما إن بلَّ أصابعه لقصد قلب أوراقه فهو وإن كان محرما
 لا ينبغي أن يُتجاسر على القول بكفره وردته، لأنه لم يقصد التحقير الذي هو موجِب الكفر
 في هذه الأمور". [حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر سيدي خليل: 8/ 63].
 وقد نقل عنه الشيخ محمد عليش هذا الفرع باختصار مع هذا التعليل وأقره. [منح الجليل:
 9/ 206].
* قال الفقيه الحنفي الكبير محمد بن أحمد بن سهل السَرَخْسي المتوفى سنة 483 في مبحث 
تطليق السكران وارتداده: "لأن الردة تنبني على الاعتقاد". [المبسوط للسرخسي: 10/ 123].
* قال الفقيه الحنفي الكبير أبو بكر بن مسعود الكاساني المتوفى سنة 587 رحمه الله:
 "الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر في الحقيقة تكذيب، وكل ذلك عمل القلب". وقال
 رحمه الله: "الإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب، وإنما الإقرار دليل عليهما". 
[بدائع الصنائع: 7/ 178، 134].
* قال الفقيه الحنفي زين بن إبراهيم المعروف بابن نُجيم المتوفى سنة 970 في مبحث النية
 في الطلاق بعد ذكر عدة مسائل: "لا ينافيه قولهم إن الصريح لا يحتاج إلى النية، فظهر بهذا
 أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانة". [الأشباه والنظائر: ص 19]. رحمَ
 الله ابنَ نجيم رحمة واسعة.
* قال الفقيه الشافعي أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى سنة 429 نقلا 
عن الأصحاب: "السجود للشمس أو للصنم وما جرى مجرى ذلك: من علامات الكفر وإنْ
 لم يكن في نفسه كفرا إذا لم يضامَّه عقد القلب على الكفر، ومَن فعل شيئا من ذلك أجرينا 
عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا". [أصول الدين لأبي منصور البغدادي: 
ص 266]. الظاهر من قوله الأصحاب هنا: أي الشافعية والأشاعرة.
* قال الفقيه الشافعي الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 رحمه الله: "فإن قيل:
 السجود بين يدي الصنم كفر وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط فهل هو أصل
 آخر؟. قلنا: لا، فإن الكفر: في اعتقاده تعظيمَ الصنم، وذلك تكذيب لرسولِ الله صلى الله عليه
 وسلم والقرآنِ، ولكن يُعرف اعتقادُه تعظيمَ الصنم: تارة بتصريح لفظه، وتارة بالإشارة
 إن كان أخرس، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود حيث لا يحتمِل أن يكون السجود
 لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل عنه، أو غيرُ معتقد تعظيمَه، وذلك يعرف
 بالقرائن". [الاقتصاد في الاعتقاد: ص 160]. رحم الله الإمام الغزالي رحمة واسعة.
* قال الفقيه الشافعي إسماعيل بن أبي بكر ابن المقرئ المتوفى سنة 837 في كتابه الإرشاد:
 "الردة كفر مسلمٍ مكلفٍ، بنيةٍ، أو فعلٍ أو قولٍ باعتقاد". [انظر: فتح الجواد بشرح الإرشاد:
 2/ 298].
* قال عضد الدين الإيجي الشافعي المتوفى سنة 756 رحمه الله في كتابه المواقف في مسألة
 من رُئي أنه سجد للشمس: "لو عُلم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية
 لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله". وقال الشريف الجرجاني الحنفي المتوفى سنة 816 في
 شرح المواقف: "لو عُلم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية بل سجد لها
 وقلبه مطمئن بالتصديق لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله وإن أجْرِي عليه حكم الكفر في
 الظاهر". [المواقف للإيجي وشرحه للجرجاني: 3/ 532، 541].
* قال الفقيه الشافعي جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 رحمه الله في مبحث النية
"وتدخل أيضا في غير الكنايات في مسائل شتى، كقصد لفظ الصريح لمعناه".
 [الأشباه والنظائر: ص 44].
فقد أفصح رحمه الله تعالى رحمة واسعة عن أن النية لا يقتصر دخولها على مسائل الكنايات 
من الألفاظ، بل إنها تدخل كذلك في مسائل تتعلق باللفظ الصريح، ومن تلك المسائل اشتراطُ
 أن يقصد لافظُ الصريح به المعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ واعتـُبر أنه صريح فيه، وهذا
 يعني  أنه لو لم يوجد قصْد لفظ الصريح لمعناه لما وقع حكمه.
* نقلَ الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة 974 كلام عضد الدين الإيجي في
 المواقف الذي تقدم قريبا وكلام الشارح مع الإقرار. [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 348
 المطبوع في آخر كتاب الزواجر].
وقال ابن حجر الهيتمي كذلك في تعليل ما أفتى به على رجل من أنه يُخشى عليه من الكفر:
 "فعملنا بما دل عليه لفظه صريحا بواسطة القرينة المذكورة، وقلنا له: أنت حيث أطلقت هذا 
اللفظ ولم تؤول كنتَ كافرا، لتضمُّن لفظك تسميةَ الإسلام كفرا وإن لم تقصد ذلك، لأنا إنما
 نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصْدك وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن، لا
 الظاهر". [الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 19 بحاشية كتاب الزواجر].
* هذا ومن أراد المزيد من نقل أقوال الفقهاء وذكر الأدلة فليرجع إلى كتابي "تكفير من لا
 يستحق التكفير".
* الغريب في الأمر أن بعض من يرى ترجيح الرأي الآخَر ادَّعى الإجماع عليه!!، وكأن
 الإمام مالك بن أنس وسائر العلماء المذكورين وغيرَهم رحمهم الله تعالى ليسوا من علماء
 المسلمين ولا من أهل الغيرة على الدين!!.
* ـ حذف جزء من كلام القاضي عياض عند أحد الباحثين مما يتوقف عليه فهم المعنى:
قال أحد الباحثين: [تتمة فيما يتعلق بالردة: قال القاضي عياض: "الوجه الثاني لاحقٌ به في
 البيان، وهو أن يكون العامِد لِـما قال في جهته صلى الله عليه وسلم غيرَ قاصدٍ للسب و
الإزراء  ولا معتقدٍ له، لكنه تكلم في جهته صلى الله عليه وسلم بكلمة الكفر من لعْنِهِ أو
 سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفيِ ما يجب له مما هو في حقه صلى الله
 عليه وسلم نقيصة،  مثلَ أن ينسُب إليه إتيانَ كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة أو في حكم
 بين الناس، أو يغض  من مرتبته أو شرف نسبه أو وفور علمه أو زهده، أو يكذِّبَ بما اشتهر
 من أمور أخبر بها صلى الله عليه وسلم وتواتر الخبر بها عن قصد لرد خبره، أو يأتيَ بسفه
 من القول أو قبيح  من الكلام ونوع من السب في جهته وإنْ ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمَّه
 ولم يقصد سبه، فحكمُ هذا الوجه حكمُ الوجه الأول، إذْ لا يُعذر أحد في الكفر بالجهالة". اهـ، 
ونقل ابنُ حجر عبارته وقال "إذ المدار في الحكم بالكفر على الظواهر لا القـُصُود والنيات"]
. انتهى كلام الباحث.

أقول:
لا يشك من قرأ ما نقله الباحث من كلام القاضي عياض رحمه الله في أن القاضي عياضا قد
 خصص هذه الفقرة للوجه الثاني من الأوجه التي ذكرها، وأنه ذكر فيه مَن سب النبيَّ صلى
 الله عليه وسلم أو لعنه ونحو ذلك غير قاصد للسب والإزراء ولا معتقد له، وأن الحكم في هذا
 هو ذات الحكم المذكور في الوجه الأول، وأن التعليل هو أنه لا يُعذر أحد في الكفر
 بالجهالة، فمقتضى هذا هو أن القاضي عياضا رحمه الله يحكم بالكفر على من ذكره في هذا
الوجه، وما أظن أحدا يقرأ ما نقله الباحث يفهم منه خلاف هذا.
ولفهم كلام القاضي عياض رحمه الله لا بد من معرفة القدر الذي حذفه الباحث من كلامه
 مما يتوقف عليه فهم المعنى، وربما كان ذلك منه من باب الوهَم والنسيان:
لم يشر الباحث إلى حكم الوجه الأول الذي ذكره القاضي عياض من حيث التكفيرُ ليُعرف
 حكم الوجه الثاني الذي قال فيه إنه مثله!!، والذي قاله القاضي عياض رحمه الله في حكم
 الوجه الأول: "ووقع الخلاف في استتابته وتكفيره". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى
 للقاضي عياض: 2 / 214].
فعُرف من هذا أن الحكم في الوجه الأول عند القاضي عياض من حيث التكفير هو أنه وقع
 اختلاف في تكفيره، فإذا قال القاضي عياض في الوجه الثاني "فحكـْم هذا الوجه حكـْم الوجه
 الأول" فمعناه أن العلماء اختلفوا في تكفيره كذلك.
* إشكال في كلام القاضي عياض:
ذكر القاضي عياض رحمه الله أشياء صريحة في الكفر من السب والانتقاص، وذكر أن العلماء
 اختلفوا في تكفير مثل ذلك القائل دون أن يبين أنه فيما إذا كان لا يقصد معاني الألفاظ التي
 تلفظ بها، وهذا ـ وإن كان معلوما من السياق ـ فالأولى البيان، ولعله سها عن ذلك لطول
 العبارة، وأسأل الله الكريم أن يشملنا وإياه بواسع عفوه ومغفرته.
* كلام مهم جدا:
ذكرتُ في كتابي "تكفير من لا يستحق التكفير" أن اللفظ الصريح قد يُستعمل في صريح 
محْكم لا يحتمِل إلا وجها واحدا، وقد يُستعمل في صريح يحتمِل أن يقصد القائل به غير
 المعنى الذي يُستعمل فيه عادة، فمِن الأول أي الصريح المحْكم قول الرجل مثلا "محمد
 صلى الله عليه وسلم رجل عبقري جاء بأحكام وتشريعات أدت إلى رقي العالم لعدة قرون،
 ولكن هذا الزمن هو زمان العلم والحاسوب والشبكة العنكبوتية فلا بد من تعديل تلك 
الأحكام والتشريعات لاستمرار الرقي والتطور". وقلت فيه: فهذا كفر صريح وردة سافرة
 لا تحتمِل تأويلا، وكذا من قال إنه لا يؤمن بنبوة الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم عليهم 
الصلاة والسلام، أو قال إن قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام المذكورة في القرآن هي
 قصة وهمية خيالية، أو إن الجنة والنار ليس لهما حقيقة النعيم والعذاب وإنما يُراد بهما
 الترغيب  والترهيب فقط.
* وقلت فيه كذلك: [مِن الصريح المحتمِل قول بعض الناس "ينساك الموت"، وقول
 بعضهم "أنا لا أرحمك ولا أخلي الله يرحمك"، فهذه الكلمات ونحوها تحتمِل أوجها من
 التأويل].
* وقلت فيه كذلك: نقلَ ابن نجيم عن الفتاوى الصغرى: "الكفر شيء عظيم، فلا أجعل
 المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يُكفر". كما نقل رحمه الله عن الخلاصة وغيرها:
 "إذا كان في المسألة وجوهٌ توجب التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي أن
 يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير، تحسينا للظن بالمسلم". ثم قال ابن نجيم: "والذي تحرر:
 أنه لا يُفتى بتكفير مسلم أمكنَ حملُ كلامه على مَحْمِل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو
رواية ضعيفة". [البحر الرائق: 5/ 134 - 135]. وقد أخذ التمرتاشي قول ابن نجيم هذا 
واعتمده. [تنوير الأبصار المطبوع مع الدر المختار ورد المحتار: 3/ 297 - 298 طبعة
 بولاق الثالثة]. ونقل الحصكفي عن الدرر وغيرها مثل ما نقل ابن نجيم عن الخلاصة و
غيرها،  وأقره. [الدر المختار: 3/ 298]. ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم ما نقله عن
 الخلاصة وغيرها، وأقره. ونقل عنه قوله السالف الذي تحرر لديه، وأقره. 
[رد المحتار: 3/ 293]. 
كما نقل ابن عابدين في التعليق على عدم تكفير المسلم ولو لرواية ضعيفة عن خير الدين
 الرملي أنه قال: "ولو كانت الرواية لغير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما
 يوجب الكفر مجمعا عليه". وأقره. [رد المحتار: 3/ 298]. وقال شيخي زاده: "إذا كان
 في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه يميل العالم إلى ما يمنع من الكفر، ولا
 تـُرجح الوجوه على الوجه". [مجمع الأنهر: 1/ 696].
* وقلت فيه كذلك: قال الشيخ محمد عليش: "كيف وقد قالوا إن كان للتكفير تسعة وتسعون 
وجها ولعدمه وجه واحد فإنه يُقدم ولا يُفتى بالكفر". [فتح العلي المالك: 2/ 358].
* وقلت في ذلك الكتاب كذلك:
"ههنا مسألة مهمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الإيمان بالله تعالى ليس مجردَ معرفة 
نظرية بأن الله تعالى هو الرب الخالق العليم السميع البصير فحسب، ولو كانت المعرفة
 المجردة إيمانا لكان إبليس مؤمنا ولكان كثير من اللادينيين مؤمنين!، وهيهات، ولكن الإيمان
هو المعرفة مع الإذعان القلبي لله رب العالمين، ومن أذعن واستسلم لله تعالى بقلبه فلا بد
 أن يكون معظما لله، والذي ليس في قلبه تعظيم لله تعالى وملائكته وكتبه ورسله فليس
 بمؤمن، والاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان مناقض للإيمان، فمن ينطقُ
 بكلمة أو يأتي بفعل مع الاستهزاء بما يجب تعظيمه من أركان الإيمان فليس بمؤمن وهو
 كافر ظاهرا وباطنا".
ومما قلت فيه: "يجب الحذر الشديد من التسرع في تكفير المسلمين، لأن من كفر مسلما
 فقد باء بهذه الكلمة أحدهما، إن كان المَقول له كافرا فقد لاقت محلها، وإلا رجعت على القائل
 إذا لم يكن القائل متأولا".
ومما قلت فيه: "من قال قولا أو فعل فعلا يدل على كفر القائل أو الفاعل فإنه يُحكم عليه
 بالكفر،  فيُستتاب، فإن تاب فبها ونعمتْ، وإلا فإنه يُعامل معاملة المرتد، وهذا في الحكم
 قضاءً، وهذا  ميدان عمل القاضي، أما فيما بين المكلف وبين الله تعالى فإنه إن قصد بذلك
 القولِ أو الفعلِ  المعنى الكفريَّ الذي يدل عليه فقد كفر وخرج من الإسلام وإن لم يقصد به
 الخروجَ من الإسلام، إذ لا يُشترط لخروجِ المرء من الإسلام أن يقصد الخروجَ منه، بل
 المُشترَط هو أن  يقصد المعنى الكفريَّ، فإذا لم يقصد المعنى الكفري فجمهور العلماء لا
 يرون تكفيره، فإنما
 الأعمال بالنيات، وهذا في الحكم ديانة، وهذا ميدان عمل المفتي".
ومما قلت فيه: قال النووي في المنهاج: "الفعل المكفر ما تعمَّده، استهزاءً صريحا بالدين أو
 جحودا له كإلقاء مصحف بقاذورة وسجود لصنم أو شمس".
وقال الشيخ محمد أمين الكردي المتوفى سنة 1332 من مشايخ الشافعية: "تنقسم الردة إلى
 ثلاثة أقسام، الاعتقادات والأفعال والأقوال، وحاصل تلك العبارات يرجع إلى أن كل عقيدة
 أو فعل أو قول يدل على استهانة أو استخفاف بها مع القصد فهو ردة، وإلا فلا". [تنوير
 القلوب: ص 355].
* وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 22/ 9/ 1441، الموافق 15/ 5/ 2020، والحمد
 لله  رب العالمين.







الخميس، 30 أبريل 2020

ن أسقط وجوب ركن من أركان الإسلام الخمسة فهو كافر

قال أبو منصور البغدادي عبد القاهر بن طاهر المتوفى سنة 429 من أئمة الأشاعرة في كتابه الفرق بين الفرق: "اتفق جمهور أهل السنة والجماعة على أصول من أركان الدين كل ركن منها يجب على كل عاقل بالغ معرفةُ حقيقته، ولكل ركن منها شعب، وفي شعبها مسائل اتفق أهل السنة فيها على قول واحد وضللوا من خالفهم فيها، وأول الأركان التي رأوها من أصول الدين إثبات الحقائق والعلوم، والركن الثاني هو العلم بحدوث العالم، والركن الثالث في معرفة صانع العالم وصفات ذاته، والركن الرابع في معرفة صفاته الأزلية، والركن الخامس في معرفة أسمائه وأوصافه، والركن السادس في معرفة عدله وحكمته، والركن السابع في معرفة رسله وأنبيائه، والركن الثامن في معرفة معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، والركن التاسع في معرفة ما أجمعت الأمة عليه من أركان شريعة الإسلام، والركن العاشر في معرفة أحكام الأمر والنهى والتكليف، والركن الحادي عشر في فناء العباد وأحكامهم في المعاد، والركن الثاني عشر في معرفة الخلافة والإمامة، والركن الثالث عشر في أحكام الإيمان والإسلام، والركن الرابع عشر في معرفة أحكام الأولياء ومراتب الأئمة الاتقياء، والركن الخامس عشر في معرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء، فهذه أصول اتفق أهل السنة على قواعدها وضللوا من خالفهم فيها، وفى كل ركن منها مسائل أصول ومسائل فروع، وهم يجمعون على أصولها وربما اختلفوا في بعض فروعها اختلافا لا يوجب تضليلا ولا تفسيقا".
ثم قال:"وقالوا في الركن التاسع المضاف إلى أركان شريعة الإسلام: إن الاسلام مبني على خمسة أركان: شهادة أنْ لا إله الا الله وأنَّ محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وقالوا من أسقط وجوب ركن من هذه الأركان الخمسة أو تأولها على معنى موالاة قوم فهو كافر".

القراءة على الشيوخ أو أخذ الإجازة لتحصيل اتصال السند



* ـ كثيرون من طلاب العلم اليوم يحرِصون على أن يكون عندهم إسناد متصل برواية الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أن العلماء الكبار كانوا يقرؤون كتب الحديث على شيوخهم بغية اتصال الإسناد، وأنهم كانوا إذا فاتتهم القراءة اكتفَوا بأخذ الإجازة من الشيوخ ليتصل الإسناد عن طريقهم.
نشطتْ حركة القراءة على الشيوخ والحصول على الإجازات منذ بضعة عقود من الزمان، إذ يشتري الراغبون في اتصال الإسناد لبعض كتب الحديث الشريف برسول الله صلى الله عليه وسلم نسخةً من السوق ليقرؤوها على شيخ عنده بها إجازة، أو كان قد حصَّل نسخة وقرأها على أحد شيوخه الذي كان له بها إجازة من أحد الشيوخ.
* ـ كان بعض الشيوخ ينص في الإجازة المقرونة بالقراءة أو غير المقرونة بها على أن هذه الإجازة على الشرط المعتبر عند أهل الحديث، والشرط المعتبر عند أهل الحديث لا بد منه حتى ولو لم ينصَّ المجيز في الإجازة على ذلك، كما سيأتي بعون الله.
لا بد هنا من أن نتساءل: ما الشرط المعتبر عند أهل الحديث؟:
* ـ قال الإمام الترمذي المتوفى سنة 279 رحمه الله في كتاب العلل الصغير الذي بآخر كتاب السنن: "القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله فيما يُقرأ عليه إذا لم يحفظ: هو صحيح عند أهل الحديث مثل السماع". [سنن الترمذي بتحقيق بشار عواد معروف: 6/ 246. شرح علل الترمذي لابن رجب: 1/ 499].
* ـ قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم المتوفى سنة 327 وهو ابن الإمام الحافظ أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277 رحمهما الله في كتابه الجرح والتعديل: سمعت أبي ذكرَ عبدَ الحميدِ بنَ إبراهيم فقال: "ذكِر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم عن الزُبَيدي، إلا أنها ذهبت كتبه، فقال لا أحفظها، فأرادوا أن يعْرضوا عليه فقال لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لان، فحدثهم بها، وليس هذا عندي بشيء، رجل لا يحفظ وليس عنده كتب؟!!". [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6/ 8].
* ـ قال الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم المتوفى سنة 405 رحمه الله في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل: "الطبقة الثامنة مِن المجروحين قومٌ سمعوا كتبا مصنفة من شيوخ أدركوهم ولم ينسخوا أسماعهم عند السماع، وتهاونوا بها إلى أن طعنوا في السن وسئلوا عن الحديث، فحملهم الجهل والشره على أن حدثوا بتلك الكتب من كتبٍ مشتراةٍ ليس لهم فيها سماع وهم يتوهمون أنهم في رواياتهم صادقون!". [المدخل إلى كتاب المجروحين للحاكم: ص 65].
قف عند قوله "مِن كتب مشتراة"، فقد كانوا يخافون من وقوع اختلافات بين النسخ، أما وقوع التحريف والزيادة فهي طامات.
ثم قال: "الطبقة العاشرة من المجروحين قوم كتبوا الحديث ورحلوا فيه وعُرفوا به فتلفت كتبهم بأنواع من التلف، فلما سُئلوا التحديثَ حدثوا بها من كتب غيرهم أو من حفظهم على التخمين، فسقطوا بذلك، منهم عبد الله بن لهيعة الحضرمي على محله وعلو قدره". [المدخل إلى كتاب المجروحين للحاكم: ص 67].
* ـ قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: "يجب على من كتب نسخة من أصلِ بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل، فإن ذلك شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 275].
قلت: إذا كان من الواجب على من كتب نسخة من أصل بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل وهو شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع فما حكم من يصحح الرواية بإجازة عن إجازة عن إجازة وهلم جرا وليس هناك نسخة الأصل ولا نسخة منسوخة عنها ليُقال هل هي معارَضة ومقابَلة بها أو لا؟!. لا شك في أن الرواية بمثل هذا لا تفيد شيئا من الاتصال.
* ـ روى الإمام الحافظ المعمَّر أبو عمر يوسف بنُ عبدِ الله ابنُ عبد البر المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم عن عبد اللّه بن عمر العمري أنه قال: "كنت أرى الزهري يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه ولم يُقرأ عليه فيقول له: أرويه عنك؟. قال: نعم".
وعلق ابن عبد البر على هذا فقال: "هذا معناه أنه كان يعرف الكتاب بعينه ويعرف ثقة صاحبه ويعرف أنه من حديثه، وهذه هي المناولة، وفي معناها الإجازة إذا صحّ تناوله ذلك". [جامع بيان العلم وفضله بتحقيق أبي الأشبال الزهيري: 2/ 1155].
وقال ابن عبد البر: "اختلف العلماء في الإجازة، فأجازها قوم وكرهها آخرون، وفيما ذكرنا في هذا الباب دليل على جوازها إذا كان الشيء الذي أجيز به معينا ومعلوما محفوظا مضبوطا وكان الذي تناوله عالما بطرق هذا الشأن، وإن لم يكن ذلك على ما وصفتُ لم يُؤمن أن يحدث الذي أجيز له عن الشيخ بما ليس من حديثه، وقد رأيت قوما وقعوا في مثل هذا، وما أظن الذين كرهوا الإجازة كرهوها إلا لهذا". ثم قال: "وتلخيص هذا الباب أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها يعرف كيف يتناولها وتكون في شيء معين معروف لا يشكل إسنادُه، فهذا هو الصحيح من القول في ذلك". [جامع بيان العلم وفضله بتحقيق أبي الأشبال الزهيري: 2/ 1158، 1159].
قلت: رحم الله الإمامَ الحافظ ابن عبد البر رحمة واسعة.
* ـ قال الإمام الحافظ القاضي عياض المتوفى سنة 544 رحمه الله في كتابه الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع في بيان أنواع تلقي الحديث عن الشيخ:
"الضرب الثاني: القراءة على الشيخ، وسواء كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتاب أو من حفظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله، ولا خلاف أنها رواية صحيحة". [الإلماع للقاضي عياض: ص 70]. ومن قرأها "أو كان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله" فقد وهِم.
قلت: أي لا بد لصحة القراءة على الشيخ من أن يكون الشيخ ممن يحفظ ما يُقرأ عليه أو يكونَ ممسكا بكتابه الذي سمع فيه من شيخه فيما إذا لم يكن يحفظ ما يُقرأ عليه، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فإن القراءة عليه هباء لا يُعتد بها عند أهل العلم.
ثم قال: "الضرب الثالث: المناولة، وهي أيضا على أنواع: أرفعها أن يدفعَ الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخةً منه وقد صححها فيقولَ للطالب هذه روايتي فاروها عني، أو يأتيَه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ أو بجزء من حديثه فيقفَ عليه الشيخ ويعرفـَه ويحققَ جميعه وصحته ويجيزَه له، فهذا كله عند مالك وجماعة من العلماء بمنزلة السماع". [الإلماع للقاضي عياض: ص 79].
ثم قال: "مِن المناولة أن يعرض الشيخ كتابه ويناولَه الطالب ويأذنَ له في التحديث به عنه ثم يمسكـَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذه مناولة صحيحة أيضا تصح بها الرواية والعمل، لكن بعد وقوع كتاب الشيخ ذلك للطالب بعينه أو انتساخه نسخةً منه أو تصحيحِ كتابه متى أمكنه بكتابه أو بنسخة وثق بمقابلتها به".  [الإلماع للقاضي عياض: ص 82 ـ 83].
ثم ذكر وجها من أوجه الإجازة المختلَف في صحتها وبيَّن صحته إذا تحقق فيه شرطان فقال: "الوجه الثاني: أن يجيز لمعيَّن على العموم والإبهام دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، كقوله قد أجزت لك جميع رواياتي أو ما صح عندك من رواياتي، فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقا، والصحيح جوازه وصحة الرواية والعملِ به بعد تصحيح شيئين: تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحة مطابقة كتب الراوي لها". [الإلماع للقاضي عياض: ص 91 ـ 92].
قلت: قف عند قوله "وصحةِ مطابقة كتب الراوي لها".
ثم روى القاضي عياض رحمه الله من طريق أبي ذر الهروي أنه قال: أخبرنا أبو العباس المالكي قال: "لمالكٍ شرط في الإجازة: أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز ثقة في دينه وروايته معروفا بالعلم، وأن يكون المُجاز من أهل العلم متسِما به حتى لا يضع العلم إلا عند أهله، وكان يكرهها لمن ليس من أهله". [الإلماع للقاضي عياض: ص 94 ـ 95].
[أبو العباس المالكي هو الوليد بن بكر بن مخلد الغمري، أندلسي سَرَقُسْطي ثقة مات سنة 392، قال عنه الحُميدي في جذوة المقتبس وابن عساكر في تاريخ دمشق: ألـَّف في تجويز الإجازة كتابا سماه كتاب الوجازة، وسمع منه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ وأبو ذر عبد بن أحمد الهروي].
ثم قال: "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال، في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل، إلا اشتراط العلم فمختلف فيه". [الإلماع للقاضي عياض: ص 95].
قلت: قف عند قوله "أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز"، وعند قولِه "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل".
ثم قال القاضي عياض: "الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه يجب أن لا يحدث المحدثُ إلا بما حفظه في قلبه أو قيده في كتابه وصانه في خزانته، فيكون صونُه فيه كصونه في قلبه، حتى لا يدخله ريب ولا شك في أنه كما سمعه، وكذلك يأتي لو سمع كتابا وغاب عنه ثم وجده أو أعاره ورجع إليه وحقق أنه بخطه أو الكتابُ الذي سمع فيه بنفسه ولم يرْتبْ في حرف منه ولا في ضبط كلمة ولا وجد فيه تغييرا، فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريبٌ أو شكٌّ لم يجز له التحديث بذلك، إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدَّث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخشى أن يكون مغيرا فيدخلَ في وعيد من حدث عنه بالكذب وصار حديثه بالظن، والظن أكذب الحديث". [الإلماع للقاضي عياض: ص 135].
ثم قال: "إذا صح الخبر والرواية كما قدمنا بالعرض أو المناولة أو الإجازة لم تضرَّ المسامحة في القراءة، إذ هي شيء زائد على جواز ما تقدم إذا صحت المعارضة بالأصول والمقابلة بكتاب الشيخ". [الإلماع للقاضي عياض: ص 142].
ثم قال: "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها، ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل وتكون مقابلته لذلك مع الثقة المأمون". [الإلماع للقاضي عياض: ص 158 ـ 159].
أقول:
قول القاضي عياض رحمه الله في القراءة على الشيخ "وسواء كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتاب أو من حفظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله ولا خلاف أنها رواية صحيحة": يعني أن الشيخ إذا كان في حال القراءة عليه لا يحفظ ما يُقرأ عليه ولا يمسك أصله فالرواية عنه بهذه القراءة غير صحيحة، وهذا إذا كان هو أصلا قد أخذ الرواية عن شيخه من أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل، فإذا لم يكن عنده أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل فالرواية عنه غير صحيحة من باب أولى. فتنبه، رعاك المولى.
وتأملْ قوله "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل".
وأقول: هذا هو الواجب على المسلم التقي في باب الرواية، وهو مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به، لأنه لا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل، فمن لم يكن يعلم ذا ولم يلتزم به في هذا الباب فعليه إصلاحُ ما تقدم منه وتداركُ ما فاته.
وأقول: رحم الله الإمامَ الحافظ عياض بن موسى رحمة واسعة.
* ـ قال الحافظ السِلَفي أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصبهاني المعمَّر المتوفى سنة 576 في كُتَيِّبه شرط القراءة على الشيوخ: "إما أن يكون الراوي عارفا بما يرويه عالما بالذي يؤديه أو غير عارف بذلك ولا عالم: فإن كان عالما وبحديثه عارفا فاستماعه إلى القارئ وإقراره بالمقروء عليه بقوله نعمْ أو ما في معناه مغْنٍ عما عداه، سواء كان القارئُ من أهل المعرفة بدقائق المحدثين أو لم يكن بها من العارفين أو قرأه من الأصل أو من الفرع المنسوخ منه، فإنه يعرف حديثه ويردُّ عليه الخطأ والتصحيف، وإن كان الراوي شيخا صحيح السماع إلا أنه لا يعرف حديثه فالاعتماد في روايته على المفيد عنه لا عليه، يقلده السامعون فيما يقرؤه وينتخبه بعد تيقنهم أنه ثقة عارف بحديث الشيخ، إلا أنه مع ذلك كله لا يستغني عن إعلام الشيخ حال القراءة أن الجزء عمن سمعه ومَن الذي به حدثه؟، وقراءتُه عليه من أصل سماعه أو من فرعه المنقول من الأصل المقابَل به: سيان، وكذلك قراءته عليه من الفرع المكتوب من الأصل قبل المقابلة وأحدُ الحفاظ المبرزين ينظر فيه ويضبط له حتى يصححه: بمثابة القراءة من الأصل أو الفرع المقابَل المصحَّح، إذ القصد من ذلك كله حصول السماع على وجه الصحة". [شرط القراءة على الشيوخ: ص 43 ـ 46].
وقال في كتابه الوجيز في ذكر المُجاز والمجيز: "اعلمْ أن الإجازة جائزة عند فقهاء الشرع وعلماء الحديث، قرنًا فقرنًا وعصرا فعصرا إلى زماننا هذا". [ص 53].
ثم قال: "في الإجازة كما لا يخفى دوامُ ما قد رُوي وصح من أثر، ويجب التعويل عليها والسكون أبدا إليها، من غير شك في صحتها، إذ أعلى الدرجات في ذلك السماعُ ثم المناولة ثم الإجازة، ولا يُتصور أن يبقى كل مصنَّف على وجه السماع المتصل ولا ينقطعَ منه شيء بموت الرواة وفقْد الحفاظ الوعاة، فيُحتاج عند وجود ذلك إلى استعمال سبب فيه بقاء التأليف، فالوصول إذًا إلى روايته بالإجازة فيه نفع عظيم، إذ المقصود به إحكام السنن المروية في الأحكام الشرعية وإحياء الآثار على أتم الإيثار، سواء كان بالسماع أو القراءة أو المناولة أو الإجازة، لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان، والتوقي من الزيادة والنقصان، وأنْ لا يُعول فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله ويُعول على قوله". [ص 54 ـ 55].
أقول:
قوله "لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان وأنْ لا يُعول فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله" يعني أن مِن شرْط صحة الرواية بالإجازة المبالغةَ في الضبط والإتقان في الجزء أو الكتاب الذي يجيز الشيخ للطالب أن يرويه عنه.
وهذا يقتضي أن يكون هناك من ذلك الجزء الحديثي أو الكتاب الذي يريد الشيخ أن يجيز للطالب روايته عنه نسخةٌ مسموعة مضبوطة متقنة متداوَلة بأيدي الشيوخ فيستعيضَ الشيخ عن القراءة بأن يجيز الطالبَ رواية ذلك الجزء أو الكتاب عنه.
ولو كان المراد غير هذا لكان اشتراطُ أن يكون السماع في القراءة على الشيخ من أصل النسخة المقروءة أو من فرع قوبل على ذلك الأصل وإباحةُ الإجازة دون مثل ذلك الاشتراط نوعا من العبث، فتدبر.
* ـ ذكر الإمام الحافظ محمد بنُ عبدِ الغني ابنُ نقطة البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 629 رحمه الله أحدَ الرواة في كتابه التقييد وقال عنه: "رحل إلى نيسابور، وسمع من القاضي أبي بكر أحمد بن الحسن الحيري، وكان سماعه منه صحيحا، غير أنه أفسد نفسه بكونه يتساهل بالتحديث من غير أصل". [التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ص 53 ـ 54].
قلت: فالشيخ الذي يحدث الناس من غير أصل ـ أي من غير نسخة متلقاة بالسماع أو من نسخة منقولة عنها ومقابَلة بها من ثقة عارف ـ فقد أفسد نفسه وأفسد الغرض الذي اجتمع لأجْله من يقرؤون عليه.
* ـ قال الإمام الفقيه عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 في كتابه معرفة أنواع علوم الحديث في النوع الثالث والعشرين وهو معرفة صفة من تُقبل روايته ومن تُرد روايته: "لا تُقبل رواية من عُرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن يحدث لا من أصل مقابَل صحيح، وهذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه". [ص 119].
ثم قال: "أعرض الناسُ في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بيَّنَّا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، فلْيُعتبرْ من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض، ولْيُكتفَ في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخطِّ غير متهَم، وبروايته من أصلٍ موافِقٍ لأصل شيخه". [ص 120].
ثم قال: "المناولة المقرونة بالإجازة لها صور: منها: أن يدفعَ الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابَلا به ويقولَ هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يملكَه إياه أو يقولَ خذه وانسخه وقابلْ به ثم ردَّه إلي أو نحوُ هذا، ومنها: أن يجيءَ الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضَه عليه فيتأملَه الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيدَه إليه ويقولَ له وقفتُ على ما فيه وهو حديثي عن فلان أو روايتي عن شيوخي فاروه عني أو أجزت لك روايته عني، ومنها: أن يناول الشيخُ الطالبَ كتابه ويجيزَ له روايته عنه ثم يمسكَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذا يتقاعد عما سبق، لعدمِ احتواء الطالب على ما تحمَّله وغيبتِه عنه، وجائز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابَل به على وجهٍ يثق معه بموافقته لِما تناولتْه الإجازة على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة، ومنها: أن يأتيَ الطالبُ الشيخَ بكتاب أو جزء فيقولَ هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته فيجيبَه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحققَ روايته لجميعه، فهذا لا يجوز ولا يصح، فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتمادُ على الطالب حتى يكون هو القارئَ من الأصل إذا كان موثوقا به معرفة ودينا". [ص 165 ـ 166].
قوله "إذا ظفر بالكتاب" أي إذا ظفر بكتاب الشيخ، أي نسخة الشيخ، كما هو ظاهر.
* ـ قال الحافظ عبدُ الرحمن بنُ أحمدَ ابنُ رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 795 رحمه الله في كتابه شرح العلل: [اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكونَ العالم حافظا لما يُعرض عليه أو يمسكَ أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظا، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظا ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بذلك العرض، ورخـَّص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ، وهذا إذا كان الخط معروفا موثوقا به والكتاب محفوظا عنده]. [شرح علل الترمذي لابن رجب: 509 ـ 512].
أقول: رحم الله ابن رجب رحمة واسعة.
* ـ هذا وقد ضعَّف الأئمة المحدثون عددا من الرواة بسبب روايتهم عن شيوخهم من نسخ غيرِ مقابَلة على الأصل، ومن أمثلة ذلك:
قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: ذكرَ أبِي محمدَ بنَ كثير المصيصي فضعَّفه جدا وقال: "سمع من معْمر باليمن، ثم بعث إلى اليمن فأخذها فرواها". وقال: "هو منكر الحديث". [العلل ومعرفة الرجال لابن حنبل رواية ولده عبد الله: 3/ 251]. ونقله عنه مع الإقرار: البخاريُّ في التاريخ الكبير والترمذي في العلل الكبير.
وقال ابن حبان في كتاب المجروحين: "عمر بن حفص أبو حفص العبدي كان ممن يشتري الكتب ويحدث بها من غير سماع، قال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس بشيء". [كتاب المجروحين لابن حبان: 12/ 55 ـ 56].
وانظر ـ على سبيل المثال ـ ما قالوه في إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس وعبد الله بن لهيعة وهشام بن عمار والوليد بن محمد المُوَقـَّري.
* ـ قد يقول قائل: هل لعدم تحقق ذلك الشرط المعتبر عند أهل الحديث أي أثر في نقل الأحاديث النبوية؟!.
أقول: نعم، لأننا إذا نقلنا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسخة مشتراة من السوق اعتمادا على الرواية بالإجازة التي لم يتحقق فيها الشرط المعتبر عند أهل الحديث وكان في تلك النسخة خلل ما لأنها غيرُ نسخة الشيخ وليست مقابَلة على نسخته: فنكون قد عرَّضنا أنفسنا للدخول تحت قوله صلى الله عليه وسلم "مَن كذب عليَّ"، وكذلك فيما إذا كان ذلك الشيخ قد روى عن شيخه بمثل ذلك، وكذا شيخه عن شيخ شيخه، وهلم جرا.
* ـ فإن قيل: كيف يتحقق الاتصال في أسانيد الأحاديث والروايات اليوم إذا لم نجد اتصال الرواية بالقراءةِ على الشيوخ أو الإجازةِ بالشرط المعتبر عند علماء الحديث؟.
قلت: اتصال الأسانيد اليوم هو بالاعتماد على الوجادة بشروطها، وذلك بما نجد من النسخ المخطوطة التي كتبها العلماء والوراقون الثقات الذين عُرفت خطوطهم وأثبت فيها الكاتب إسناده بالنسخة إلى المؤلف، مع التثبت من خط كاتب النسخة وصحة ذلك الإسناد.
وإذا لم يكن من المتيسر لكل طالب علم أن يراجع بنفسه المخطوطات فلا بد من الاعتماد على من رجع إليها وقابل نص الكتاب بالنسخ الموثقة إذا كان ثقة مأمونا.
وهذا هو الطريق الصحيح للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصور التي انقطعت فيها القراءة على الشيوخ بشرطها المعتبر عند أهل الحديث، وكذا الإجازة بالشرط المعتبر كذلك، وليس طريقَ القراءة والإجازة اللتين يعتمد عليهما كثير من طلاب العلم اليوم.
ومن آفات ذلك أن يقال عمن جمع شيئا من تلك الإجازات "العالم المسنِد"، أو "المحدِّث"!، وكذا أن يقال لمن يجيز غيره بمثل تلك الإجازات "المحدِّث المجيز"، ولمن يُجاز بها "المُجاز برواية الحديث"!.
وقد حصل هذا في غفلة عن الشروط المعتبرة عند أهل العلم المحققين، والمهزلةُ التي نشهدها اليوم ماثلة للعيان!.
* ـ من الممكن أن يُستأنس للوجادة بما رواه ابن عرفة في جزئه [19] واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة [5/ 995] والبيهقي في دلائل النبوة [6/ 538] والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وقوام السنة في الترغيب والترهيب، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم عز وجل؟!". قالوا: فالنبيون؟!. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!". قالوا: فنحن؟!. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟!، ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقومٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتب يؤمنون بما فيها".
إسناده ضعيف، وله شواهد عن عدد من الصحابة بين ضعيف وتالف، تحتمِل بمجموعها أن ترتقي لمرتبة الحديث الحسن، والله أعلم.
ـ أسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بحقائق ديننا، وبمنهج أئمتنا السابقين ومن سار على طريقهم، بلطفه ومنه وكرمه.
ـ وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 29/ 8/ 1441، الموافق 22/ 4/ 2020، والحمد لله رب العالمين.