الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

أحاديث صيام يوم عاشوراء - نسخه جديده

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

وبعد، فقد وردت روايات كثيرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء، وهي بحاجة لبحث وتمحيص، فرأيت أن أتتبع ما رُوي منها في أهم مصادر السنة النبوية وأمحص طرقها سندا ومتنا، بتوفيق الله عز وجل.

وهذه الروايات تختلف ألفاظها باختلاف طرقها، ومنها الروايات السليمة ومنها الضعيفة والمعلولة، وأجعلها هنا في إجابات عن تساؤلات:

* ـ هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء؟.

* ـ هل عزم النبي صلى الله عليه وسلم على صيام اليوم التاسع في العام القابل؟.

* ـ هل كل الروايات التي صحت أسانيدها في صيام يوم عاشوراء قد صحت متونها كذلك؟، وهل صح أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك؟.

* ـ هل جعل النبي صلى الله عليه وسلم لصيام يوم عاشوراء اهتماما خاصا وفضلا خاصا؟.

وهأنذا أشرع في كتابة هذا البحث سائلا المولى تعالى العون والتوفيق:

 

* ـ هل أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء؟:

رُوي حديث الأمر بصيام يوم عاشوراء عن عبد الله بن عباس وأبي موسى الأشعري وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن مسعود وعائشة والرُبَيـِّع بنت مُعَوِّذ وعبد الله بن عمر ومعاوية بن أبي سفيان وجابر بن سمرة وعبد الله بن بدر الجهني وغيرهم:

* ـ فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والنَسائي في الكبرى وأبو نُعيم في المستخرج على صحيح مسلم من طريقين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال "ما هذا؟"، فقالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومُ نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى شكرا لله، ونحن نصومه تعظيما له. فقال: "فأنا أحق بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه.

من المعلوم أن ابن عباس لم يكن إذ ذاك مدركا بنفسه لمثل ذلك الحدث، حيث كان في السنة الرابعة من عمره تقريبا، لكن من المعلوم كذلك أن معظم مروياته هي عن كبار الصحابة، ومراسيلُ الصحابة الذين ثبتت صحبتهم مقبولة.

* ـ وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طريق طارق بن شهاب عن أبي موسى أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه، فقال: "نحن أحق بصومه". فأمر بصومه.

* ـ وأما حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فرواه البخاري ومسلم وابن حنبل من طرق عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع أنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أنْ أذنْ في الناس أنَّ من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء.

* ـ وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه البخاري ومسلم من طريق علقمة بن قيس النخعي أنه قال: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يَطعَم فقال الأشعث: اليوم عاشوراء!. فقال: كان يُصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترِك.

ورواه مسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن قيس أنه قال: دخل الأشعث بن قيس على عبد الله بن مسعود وهو يتغدى، فقال ابن مسعود: يا أبا محمد ادنُ إلى الغداء. فقال: أوَليس اليومُ يومَ عاشوراء؟!. فقال: هل تدري ما يوم عاشوراء؟!، إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان تركه.

* ـ وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه البخاري ومسلم وعلي بن الجعد وابن راهويه وابن حنبل والنَسائي في الكبرى والطبري في تهذيب الآثار وأبو عوانة والطحاوي والطبراني في مسند الشاميين من طرق عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرِض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر.

* ـ وأما حديث الرُبَيِّع بنت معوذ فرواه البخاري ومسلم وابن راهويه وابن حنبل من طرق عن خالد بن ذكوان عن الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ أنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من أصبح مفطرا فليتمَّ بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم".

* ـ وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فرواه البخاري وابن حنبل والبزار والطبريُّ في تهذيب الآثار من طرق عن نافع عن ابن عمر أنه قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان ترك.

وفي رواية أيوب والوليد بن كثير عن نافع عند البخاري ومسلم: كان عبد الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومَه.

ورواه ابن خزيمة والبخاري وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم من طرق عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليوم عاشوراء، فمن شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر".

* ـ وأما حديث معاوية بن أبي سفيان فرواه مالك والبخاري ومسلم من ثلاثة طرق عن ابن شهاب الزهري عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية يوم عاشوراء عام حجَّ وهو على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء، ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".

سنده صحيح، لكن فيه إدراج في المتن، فقد رواه النَسائي في السنن الكبرى من طريق صالح بن كَيسان عن ابن شهاب عن حُميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يخطب الناس بالمدينة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه". وإني صائم، معاوية يقول ذلك، فمن أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر. سنده صحيح، وفيه التصريح بأن هذا الجزء هو من قول معاوية.

* ـ وأما حديث جابر بن سَمُرة فرواه مسلم من طريق جعفر بن أبي ثور عن جده لأمه جابر بن سَمُرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده، فلما فـُرض رمضان لم يأمرنا ولم ينْهَنا ولم يتعاهدنا عنده. [جعفر بن أبي ثور ذكره ابن حبان في الثقات].

* ـ وأما حديث عبد الله بن بدر الجهني فرواه ابن حنبل وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والطبراني في مسند الشاميين من طرق عن معاوية بن سلام أنه قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: أخبرني بعجة بن عبد الله أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم يوما: "هذا يوم عاشوراء فصوموا". فقال رجل من بني عمرو بن عوف: يا رسول الله، إني تركت قومي منهم صائم ومنهم مفطر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليهم، فمن كان منهم مفطرا فليتمَّ صومَه".

ـ بعض هؤلاء الصحابة وغيرهم رُويت عنهم روايات تخرج عن فحوى الروايات المتقدمة، ولكنْ ما من شك في رجحان الروايات المتفقة على معنى واحد، وهو المذكور هنا.

ـ هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على صيام عاشوراء في شهر المحرم الذي أعقب وصوله للمدينة المشرفة، وهو في بداية السنة الثانية من الهجرة، لأن مَقـْدَمه المدينة كان في ربيع الأول من السنة الهجرية الأولى.

وكان ذلك الحرص لِما يحب من موافقة اليهود فيما لم يُنه عنه، فعمِل بما أخبر به اليهودُ عن نجاة موسى عليه السلام وقومِه وهلاكِ عدوهم في مثل ذلك اليوم، وكان ذاك منه صلى الله عليه وسلم تأليفا لقلوبهم، وإظهارا لوحدة المصدر في نبوة الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام.

ـ ليس من المهم بعد ذلك أن يتوافق صيام المسلمين لعاشوراء في العاشر من المحرم من السنة القمرية العَربية مع السنة القمرية العِبرية التي يُزاد فيها شهرٌ كل ثلاث سنوات مرة، لأن المهم هو إظهار الموافقة في أن المسلمين يشاركون اليهود في فرحتهم بنجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل وأنهم أولى بموسى منهم، وليس المهم تحديدَ يوم عاشوراء على التقويم اليهودي في السنين اللاحقة.

* ـ فمن قال بأن صيام يوم عاشوراء ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوقوف على كل هذه الروايات في الصحيحين وغيرهما فكلامه بعيد عن التحقيق.

* ـ هل عزم النبي صلى الله عليه وسلم على صيام اليوم التاسع في العام القابل؟.

روى ابن الجعد وابن أبي شيبة وابن حنبل والبيهقي وغيرهم من طريق عبد الله بن عُمير عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لئن عشتُ إلى قابل لأصومن التاسع". وإسناده جيد. ورواه الطبراني في الكبير من طريق طاوس عن ابن عباس كذلك، لكن بسند ضعيف، ويتقوى بالذي قبله.

وروى مسلم وأبو داود والبيهقي من طريق يحيى بن أيوب عن إسماعيل بن أمية عن أبي غطفان بن طريف المري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا كان العامُ المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". وهذا إسناد ضعيف، وفي المتن نكارة يأتي بيانها قريبا إن شاء الله، ولكن هذا الجزء من المتن صحيح.

والظاهر أن هذا كان في السنة الثانية من الهجرة بعد انقضاء عاشوراء، رغبة منه صلى الله عليه وسلم في مخالفة اليهود الذين يصومون اليوم العاشر فقط، وكان ابن عباس يؤكد على هذا المعنى، فقد روى عبد الرزاق وابن الجعد من طريقين أحدهما صحيح عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: "خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر".

الروايات المخالفة للروايات الثابتة التي تقدمت في صيام عاشوراء:

وردت روايات في حديث صيام عاشوراء تشتمل على بعض المعاني غيرِ الثابتة، فأستعرض منها في هذا المطلب بعض ما رُوي من حديث ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة:

* ـ حديث ابن عباس في صيام عاشوراء تقدم من رواية سعيد بن جبير عنه، وهو حديث صحيح، ولكن جاء عنه من طريق أخرى ألفاظ ليست بثابتة:

فقد رواه مسلم وأبو داود والبيهقي من طريقين عن يحيى بن أيوب عن إسماعيل بن أمية عن أبي غطفان بن طريف المري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العامُ المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[يحيى بن أيوب الغافقي مصري مات سنة 168، وثقه جماعة، وقال ابن سعد منكر الحديث، وقال ابن حنبل سيئ الحفظ، وقال النسائي في السنن الكبرى: عنده أحاديث مناكير. إسماعيل بن أمية مكي ثقة مات سنة 139. أبو غطفان بن طريف حجازي ثقة].

هذه الرواية سندها ضعيف، وفي متنها نكارة في مواضع، وهذا يدل على أن يحيى بن أيوب لم يكن ضابطا في روايتها:

الموضع الأول: قوله "حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى"!، وهذا بخلاف ما صح عن ابن عباس وأبي موسى، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فسأل عن ذلك فأجابوه، فصامه وأمر بصيامه، أي إنه حين رأى اليهود يصومونه شكرا لله صامه، وليس الحال أنه صامه فقيل له إنه يوم تعظمه اليهود!.

الموضع الثاني: إقحام لفظة النصارى في السياق، وهي ليست فيه.

الموضع الثالث: قوله "فلم يأت العام المقبل حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا يعني أنه عليه الصلاة والسلام لم يصم اليوم التاسع مع العاشر، وأنه لم يعزم على صيامه إلا قـُبيل وفاته!، وهذا بعيد، والأقرب أنه عزم على صيام التاسع مع العاشر في العام الذي يلي صيامه إياه في المرة الأولى، رغبةً منه في مخالفة اليهود الذين يصومون اليوم العاشر فقط، وأنه كان يصومه مع العاشر، وإذا كان ذلك كذلك فالظاهر أن هذه الكلمة "فلم يأت العام المقبل حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" مقـْحمة في النص.

* ـ حديث ابن عمر تقدم من رواية أيوب السختياني وسلمة بن علقمة ويحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان ترك. وتقدم من طريق أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليوم عاشوراء، فمن شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر". رواه البخاري وغيره.

هذه الرواية عن ابن عمر من الطريقين المذكورين رواية صحيحة، لتوافقها مع معظم الروايات الواردة عن الصحابة في قصة عاشوراء.

ـ لكن رواه البخاري ومسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل وغيرهم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية، فلما نزل رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء لم يصمه".

فإذا ثبت هذا عن ابن عمر وكان مراده من أهل الجاهلية هنا أنهم اليهود الذين سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهم لهذا اليوم بعد مقدمِه المدينة فهو صحيح المعنى، على غرابة في استخدام كلمة "أهل الجاهلية" للتعبير عن اليهود.

ـ ويبدو أن نافعا راويَه عن ابن عمر ذهب وهْمه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدَّث الناسَ بأن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء فحدَّث هو به جماعةً من الرواة كذلك!.

فقد رواه البخاري ومسلم وابن حنبل والدارمي وأبو داود وابن ماجه والبزار والنَسائي في الكبرى وغيرهم من طرق كثيرة عن نافع عن ابن عمر أنه ذكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومُ عاشوراء فقال: "كان يوما يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدَعْه"!.

ورواه مسلم وأبو عوانة من طريق أبي عاصم النبيل عن عمر بن محمد بن زيد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه قال: ذكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: "ذاك يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن شاء صامه ومن شاء تركه".

والذي في هذين الطريقين من رواية ابن عمر مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو سأل اليهودَ عن صومهم ليوم عاشوراء، فالرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكِر عنده يومُ عاشوراء فقال "كان يوما يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كره فليدَعْه" رواية معلولة!.

حديث عائشة تقدم من رواية خمسة عن الزهري عن عروة أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فـُرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وهذا صحيح.

وجاء عنها روايتان غريبتان:

ـ الرواية الأولى هي ما رواه مالك والبخاري ومسلم وابن أبي شيبة وابن حنبل من طريق هشام بن عروة، ورواه البخاري ومسلم وأبو عوانة والطحاوي في مشكل الآثار من طريق عراك بن مالك، كلاهما عن عروة عن عائشة أنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية!، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية!، فلما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فـُرض رمضان كان هو الفريضةَ وتـُرك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.

ولفظه من طريق عراك بن مالك أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرِض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء فليصمه ومن شاء أفطر".

ليس في هاتين الروايتين ما يشير إلى سبب صيام قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، ولا لسبب صيام النبي صلى الله عليه وسلم له كذلك!، ولم أجد وجها للربط بين قريش في الجاهلية وبين عاشوراء بسند صحيح، ولو كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية لكان النبي صلى الله عليه وسلم مخالفا لهم فيه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء في الجاهلية لكان صائما يوم رأى اليهود يصومونه ولمَا جاءت الرواية فيه "فصامه وأمر بصيامه".

والثابت هو أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فسأل عن ذلك، فأجابوه، فصامه وأمر بصيامه، فالرواية التي فيها أن يوم عاشوراء كان يوما تصومه قريش في الجاهلية أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه في الجاهلية كذلك هي رواية شاذة.

ـ الرواية الثانية هي ما رواه البخاري وابن حنبل من طريقين عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان، وكان يوما تـُسْتر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه".

في هذه الرواية زيادة غريبة، هي أن يوم عاشوراء كان يوما تـُسْتر فيه الكعبة، وهي ضعيفة سندا ومتنا:

فأما السند ففيه محمد بن أبي حفصة، وهو وإن وثقه ابن معين وأبو داود فقد ضعفه النَسائي وابن عدي.

فإن قيل: إن هذه الزيادة لم يتفرد بها ابن أبي حفصة، وهي ثابتة عند البخاري من طريق عُقيل بن خالد كذلك!، لأن البخاري قال في صحيحه [حدثنا يحيى ابنُ بكير قال حدثنا الليث عن عُقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وحدثني محمد بن مقاتل قال أخبرني عبد الله - هو ابن المبارك - قال أخبرنا محمد بن أبى حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يُفرض رمضان، وكان يوما تُستر فيه الكعبة، فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه"].

فأقول: هذا كلامُ من لم يقف على منهج الإمام البخاري رحمه الله في إيراد الطرقِ المعطوفِ بعضُها على بعض، فيظن ـ تبعا لذلك ـ أنه يجوز عزوُ مثلِ ذلك المتن لكلا الطريقين المعطوفين، وهذا غير صحيح.

منهج الإمام البخاري رحمه الله في إيراده الطريقين المعطوفَ أحدُهما على الآخر هو أنه يأتي بالمتن على رواية الثاني منهما، وفي مثل هذا الحال يكون المتن من الطريق الأول بمثل اللفظ الذي جاء من الطريق الثاني أو بنحوه وإن لم يكن مطابقا له.

وقد تأكد لي أن اللفظ الذي جاء في هذا الحديث من طريق عُقيل بن خالد عن الزهري ليس فيه هذه الزيادة الغريبة، هكذا جاء في معرفة السنن والآثار للبيهقي، ونقل ابن حجر في فتح الباري عن المستخرج للإسماعيلي نحو ذلك حيث قال: [قال الإسماعيلي: "جمعَ البخاري بين رواية عُقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عُقيل ذكر الستر". ثم ساقه بدونه من طريق عقيل، وهو كما قال].

[هذا وقد وقفت من قبلُ على موضعين يدلان على أن الإمام البخاري رحمه الله إذا جاء بالرواية عن راويين وجمع بينهما فإنه يوردها على لفظ الثاني منهما وإن لم تكن رواية الراوي الأول مطابقة لها، وروايته لحديث عاشوراء هنا ـ مع مقارنتها برواية البيهقي في معرفة السنن والآثار وبرواية الإسماعيلي في المستخرج ـ هي الموضع الثالث، وهذا مهم جدا في معرفة مناهج المحدثين في إيراد الروايات].

ـ وأما المتن قي هذه الرواية وهو أن الكعبة كانت تـُكسى يوم عاشوراء فهذا غير ثابت عن عائشة رضي الله عنها، إذ من المعلوم أن أهل الجاهلية كانوا يكسون الكعبة، لكن هل كان ذلك يوم عاشوراء؟!، وما الرابط بين أهل الجاهلية وعاشوراء ليجعلوا كسوة الكعبة في هذا اليوم؟!، وما الرابط كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وزمن معاوية بينهم وبين عاشوراء سوى صيام هذا اليوم الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى اليهود يصومونه؟!.

هذا يجعلنا نشك في ثبوت هذه الرواية عن عائشة رضي الله عنها، ويؤكد لنا ضعف الرواية سندا ومتنا.

هل لهذه الرواية شواهد؟:

لها شاهد مرفوع رواه الأزرقي في أخبار مكة عن جده عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن أبيه عن خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء فقال: "هذا يوم عاشوراء، يوم تنقضي فيه السنة، وتـُستر فيه الكعبة، وتـُرفع فيه الأعمال، ولم يُكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم". [جد الأزرقي هو أحمد بن محمد بن الوليد الغساني الأزرقي مكي ثقة مات سنة 222. إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي مدني متروك اتـُّهم بالكذب، ووثقه الشافعي، ولم يجد ابن عقدة ولا ابن عدي في حديثه منكرا إلا عن شيوخ يحتملون، ومات سنة 184. أبوه محمد بن أبي يحيى الأسلمي مدني ثقة فيه لين مات سنة 147. خالد بن المهاجر حجازي تابعي ذكره ابن حبان في الثقات وروى له مسلم حديثا واحدا، ومات بعد سنة 90]. فهذا السند تالف.

وروى الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تـُكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج، حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمُص يوم التروية من الديباج، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار. [سعيد بن سالم خراساني نزيل مكة صدوق مات بعد سنة 190. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مكي ثقة من أتباع التابعين، قد يدلس الإسناد ويرسل، مات سنة 150]. فهذا السند ـ إذا كان المراد منه التحدث عن وقت حياة عائشة رضي الله عنها ـ فهو مرسل ضعيف.

وروى الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الكعبة القباطيَّ من بيت المال، ثم عثمانُ من بعده، فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت تُكسى الديباجَ يوم عاشوراء، وتـُكسى القباطيَّ في آخر شهر رمضان للفطر. [عبد الله بن أبي نجيح مكي ثقة مات سنة 132]. سعيد بن سالم لم يذكر المزي أنه روى عن ابن أبي نجيح، وقد مات بعده بستين عاما ولم يُذكر في ترجمته أنه من المعمَّرين، فالظاهر أن روايته عنه منقطعة، وقد وقفت على سَنَوَات وَفَيَات اثنين وعشرين راويا من شيوخه، وكانت وفَيَاتهم بين سنة 145 وسنة 184، فابن أبي نجيح أقدم وفاة من أقدم شيوخ سعيد بن سالم وفاة بثلاثة عشر عاما، وهذا يؤكد أنه لم يسمع منه، فالسند منقطع ضعيف.

ـ كل هذا يعني أن هذه الكلمة "وكان يوما تـُسْتر فيه الكعبة" مدرجة في النص، وأن وضع الكسوة على الكعبة يوم عاشوراء لم يكن في زمن عائشة رضي الله عنها ولا قبله.

ـ وههنا رواية رواها الأزرقي عن محمد بن يحيى عن الواقدي عن عبد العزيز بن المطلب عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: "كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخُسْرَواني، فلما كان ابن الزبير اتبع أثره، فكان يبعث إليه مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة، فكانت تُكسى يوم عاشوراء".

[محمد بن يحيى: يبدو أنه محمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزدي المعروف بالرواية عن الواقدي، وهذا بصري نزيل بغداد ثقة مات سنة 252. الواقدي محمد بن عمر مدني نزيل بغداد، وثقه جماعة واتهمه جماعة بالكذب، ويبدو أنه كان ثقة في التاريخ، لكنه في الحديث قد يضع الأسانيد، ومات سنة 207. عبد العزيز بن المطلب حجازي صدوق. إسحاق بن عبد الله: لم يأت في الرواية هنا مِن نسبهِ ما يميزه عن غيره، والراوي عنه مدني مات في خلافة أبي جعفر المنصور، أي بين سنة 136 و158، ولعله في آخر خلافة أبي جعفر، ويروي هو عن مدني مات سنة 117 تقريبا، فيظهر لي أنه إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، فإن يكنْه فهو مدني ثقة مات سنة 132]. فهذا السند لا بأس به في مثل هذه المسألة التاريخية.

ـ وهو لا يتعارض مع ما ذكرته من عدم ثبوت أن الكعبة كانت تُكسى يوم عاشوراء قبل النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمنه وزمن الخلفاء الراشدين وزمن معاوية.

ويبدو أن وضع الكسوة على الكعبة يوم عاشوراء حدث في عهد يزيد بن معاوية.

ـ فإن قيل: لمَ تقول عن هذا السند "لا بأس به في مثل هذه المسألة التاريخية" وربما لا تحتج بنظيره أو بما هو أقوى منه في مسائل تاريخية أخرى؟.

فالجواب أن القرائن التي تكتنف المسألةَ أيَّ مسألةٍ لها أثر كبير لا يجوز إغفاله في التوجيه والترجيح، فإثبات علاقة مثلا بين مشركي قريش وبين الصيام وصيام يوم عاشوراء تحديدا مسألة لا تأتي القرائن مؤيدة لوقوعها، بل لاستبعادها، ومثلها مسألة أن تكون كسوة الكعبة كانت في يوم عاشوراء كذلك.

وهنا تأتي التساؤلات التي تنبهنا إلى قرائن الأحوال: هل كان مشركو قريش يصومون؟!، وهل كانوا يصومون يوم عاشوراء تحديدا؟!، ولمَ يصومونه؟!، وهل كان صيامهم لهذا اليوم لو ثبت له علاقة بصيام اليهود؟!، وهل أوحى الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن وجه تلك الصلة خلال فترة العهد المكي؟!، وهل كانوا يعظمون يوم عاشوراء أو يبتهجون فيه فيكسون فيه الكعبة؟!، وهل كان شيء من ذلك من شريعة إبراهيم عليه السلام؟!، أو هل حصلت حادثة في يوم عاشوراء في عصر الرواية استغلها أناس وأشاعوا من أجلها شائعات أثرت على الرواة الذين ليسوا في الدرجة العليا من الضبط والإتقان؟!.

لهذا كله يجب التمييز بين روايات الرواة الثقات المتميزين في الضبط والإتقان وبين روايات الثقات الذين لا يتمتعون بتلك الدرجة من التميز، وبين رواية الراوي التي تأتي القرائن مؤكدة لثبوتها ورواية الراوي التي ليس لها قرائن مؤكدة. 

* ـ حديث أبي هريرة رواه ابن حنبل عن أبي جعفر عن عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن شبيل بن عوف عن أبي هريرة أنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا الصوم؟". فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرَّق فيه فرعونَ، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى شكرا لله تعالى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم". فأمر أصحابه بالصوم. [أبو جعفر المدائني محمد بن جعفر صدوق فيه لين مات سنة 206. عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي لين. أبوه مجهول. شبيل بن عوف كوفي ثقة]. فهذا السند شديد الضعف.

أول الحديث من بدايته إلى قوله "وغرَّق فيه فرعونَ" موافق لما رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن أصل الحديث صحيح، وذكْر نوح عليه السلام واستواء السفينة على الجودي في يوم عاشوراء مقـْحم عليه وليس بثابت، فالظاهر أن يد أحد الضعفاء قد عبثت به فأضافت له هذه الزيادة الغريبة، ولعل ذلك جاء من قِبل الراوي المجهول.

 

* ـ هل جعل النبي صلى الله عليه وسلم لصيام يوم عاشوراء اهتماما خاصا وفضلا خاصا؟:

* ـ روى البخاري ومسلم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والطحاوي من طريقين عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليومَ يومَ عاشوراء وهذا الشهر. يعني شهر رمضان. [عبيد الله بن أبي يزيد مكي ثقة ولد سنة 40 ومات سنة 126]. سنده صحيح.

قوله "ما رأيتُ" أي: ما علمتُ، وقد كان ابن عباس يوم أنْ صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وحَرَص عليه في الرابعة من عمره أو نحوها، ولكنه سمع معظم ما يرويه من الحديث من كبار الصحابة.

وهذا الحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عاشوراء كان في أول عاشوراء بعد الهجرة، أي في أوائل السنة الثانية، ثم فرِض صيام رمضان في تلك السنة وترِكت بعده شدة استحباب صيام عاشوراء، كما ثبت ذلك عن عدد من الصحابة.

* ـ روى مسلم والطيالسي وابن حنبل والترمذي وابن ماجه من طرق عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن مَعْبَد الزِمَّاني عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". [غيلان بن جرير بصري ثقة مات سنة 129. عبد الله بن معبد الزماني بصري ثقة مات بعد سنة 80. أبو قتادة الأنصاري صحابي مدني مات سنة 54].

قال البخاري في التاريخ الأوسط: "رواه عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء ولم يذكر سماعا من أبي قتادة". وقال في التاريخ الكبير: "روى غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة". وفي هذا إشارة إلى عدم ثبوت الحديث، لأنه يستعمِل مثل هذا يريد بذلك إعلال الرواية.

ورواه ابن حنبل وعبد بن حميد والنسائي في الكبرى من طرق عن أبي الخليل عن حرملة بن إياس عن أبي قتادة الأنصاري به نحوه. [أبو الخليل صالح بن أبي مريم بصري ثقة. حرملة بن إياس ذكره ابن حبان في الثقات].

وذكَر له البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والدارقطني في العلل طرقا بإدخال مولى لأبي قتادة في الإسناد بين حرملة بن إياس وأبي قتادة، وروى النسائي في السنن الكبرى والبيهقي بعضها، وقال البخاري في التاريخ الأوسط: "حرملة بن إياس لا يُعرف له سماع ‏من أبي قتادة". ‏وحيث إن حرملة لم يصرح بالسماع من أبي قتادة ـ في الطرق الخالية عن الاسم المزيد ـ فلا بد من إثباته في الإسناد، وحيث إنه مبهم فالسند ضعيف.

فحديث أبي قتادة هذا سنده بكِلا طريقيه ليس بثابت، وهذه الفضيلة لصيام يوم عاشوراء غير ثابتة.

وهذا لا يعني أن الفضيلة لصيام يوم عرفة ليست ثابتة كذلك، فلها شواهد لا بد من دراستها.

* ـ استشهاد الإمامِ الحسينِ بن علي رضي الله عنهما في يوم عاشوراء:

لحكمة لا نعلمها فقد وقع مقتلُ سبطِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الإمامِ الشهيد الحسينِ بن علي رضي الله عنهما في يوم عاشوراء، وعلى هذا فإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك ـ يا ريحانة رسول الله ـ لمحزونون.

* ـ وقفتُ على روايات في بعض كتب الشيعة الإمامية تدل على أن وجوب صيام يوم عاشوراء أو استحبابه قبل نزول فرض صيام رمضان كان معروفا عندهم، وأنه صار متروكا بعد افتراض صيام رمضان، فربما كانوا يقولون بذلك قبل مقتل سيدنا الحسين رضي الله عنه وأصبح مكروها بعد ذلك لوقوع مقتله في مثل هذا اليوم.

ـ جاءت الروايات الثلاث التالية في كتاب الكافي للكُليني:

عن أبي الجارود أنه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "فرض الله عز وجل على العباد خمسا"، إلى أن قال: "ثم نزل الصوم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يومُ عاشوراء بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال". الحديثَ.

عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: "أما الصوم الذي صاحبُه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس وصوم البيض وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان وصوم يوم عرفة وصوم يوم عاشوراء، فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر".

عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "صومٌ متروك بنزول شهر رمضان، والمتروك بدعة".

ولكن أسانيد هذه الروايات عندهم ضعيفة، ولا أدري هل يقولون بأن تعدد طرقها يكسبها قوة أو لا.

 

* ـ خلاصة البحث:

ـ مشروعية صيام يوم عاشوراء واستحبابه، لصحة الأحاديث الواردة فيه.

ـ القول بأن هذا الحديث هو من وضع الأمويين ومن شايعهم كلام مجانب للصواب.

ـ كان صيام يوم عاشوراء مؤكدا تأكيدا شديدا في السنة الأولى من مشروعية صومه في أوائل السنة الثانية من الهجرة، ثم نُسخ الاستحباب الشديد بعدما أنزل الله عز وجل افتراض صوم رمضان في السنة نفسها، وبقي مطلق الاستحباب.

ـ رواية أن قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية ليست بثابتة، وكذا رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء قبل مقدمه المدينة.

ـ رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لئن عشتُ إلى قابل لأصومن التاسع" سندها جيد، وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، وهذا يعني أنهم صاموا اليوم العاشر من المحرم أولَ ما صاموا عاشوراء وأنهم كانوا بعد ذلك يصومون التاسع والعاشر.

ـ الرواية التي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" وأنه لم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفة الإسناد منكرة المتن. والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 26/ 1/ 1436، الموافق 19/ 11/ 2014، وأضفت بعض التنقيحات في 9/ 1/ 1442، الموافق 28/ 8/ 2020، والحمد لله رب العالمين.

 

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله 7


ـ روى البخاري في صحيحه من طريق حفصِ بنِ غياثٍ عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض".
وتابع حفصَ بنَ غياثٍ على روايته عن الأعمش بهذا اللفظ "ولم يكن شيء غيره" أربعةٌ من الرواة في عدد من مصادر السنة المشرفة.
ورواه خمسة من الرواة في عدد من المصادر عن عبدِ الرحمن بن عبدِ الله بن عتبة المسعودي وهو أحدُ أقران الأعمش عن شيخه جامع بن شداد به، مثل رواية الأعمش سندا ومتنا.
عبد الرحمن بن عبدِ الله بن عتبة المسعودي كان قد اختلط قبل موته، ولكن إسناده هنا صحيح، لأن ثلاثة من أولئك الرواة الخمسة عنه هم ممن نص أئمة الحديث على أن سماعهم منه كان قبل اختلاطه.
ـ ورواه البخاري من طريق أبي حمزة السكري محمدِ بنِ ميمونٍ عن الأعمش به بلفظ "كان الله ولم يكن شيء قبله".
وتابع أبا حمزة السكري على روايته عن الأعمش بهذا اللفظ راو واحد.
ـ لا يشك أحد وقف على طرق هذا الحديث المتقدمة ممن له إلمام بهذا العلم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدَّث به باللفظ الأول "كان الله ولم يكن شيء غيره"، لكثرة المتابعات لهذا اللفظ، وأن اللفظ المروي في الرواية الثانية "كان الله ولم يكن شيء قبله" هو من باب الرواية بالمعنى.
ـ الإمام البخاري رحمه الله أشار في صحيحه إلى صحة اللفظ المروي في الرواية الأولى، وذلك إذ روى هذه الرواية في باب ما جاء في قول الله تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} من كتاب بدء الخلق، وهو المناسب لها في كونها تنص على أن الله عز وجل بدأ الخلق ابتداء بعد أن لم يكن شيء، وروى الرواية الثانية في باب {وكان عرشه على الماء} من كتاب التوحيد، وهو مناسب لجزء آخر من الحديث.
ـ مَن لا يعرف منهج الإمام البخاري فإنه قد يقول إن البخاري روى في صحيحه أن النبي صلى الله عيه وسلم قال "كان الله ولم يكن شيء قبله" ويسكت على ذلك!، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه على أن البخاري رواه وأشار إلى ترجيح غيره عليه.
فرحمة الله على هذا الإمام الجليل محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، ما أدقَّ ملحظه.
ـ كنت قد ذكرت في كتابي "حديث كان الله ولم يكن شيء غيره روايةً ودرايةً وعقيدة" الذي كتبته قبل أكثر من ثمانية عشر عاما أسماء جماعة من العلماء الذين قالوا بأن الله عز وجل كان ولم يكن شيء غيره، منهم المحدث الثقة يزيد بن هارون المتوفى سنة 206 والإمام أحمد ابن حنبل المتوفى سنة 241 والإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 رحمهم الله تعالى، وخشيت أن أدرج معهم الإمام البخاري رحمه الله، لأنني لم أكن أدري في ذلك الوقت أن له هذا الملحظ الدقيق من خلال عناوين الأبواب في ترجيح اللفظ الذي يرى رجحانه.
واكتفيت فيه بقولي: [ويمكن أن يضاف إلى هؤلاء: الإمامُ البخاري، حيث اختار في كتاب بدء الخلق من صحيحه رواية "كان الله ولم يكن شيء غيره" دون الرواية الأخرى، مشيرا بذلك إلى أن الله تعالى ابتدأ الخلق بعد أن لم يكن، لأنه قد كان سبحانه ولم يكن شيء غيره].
وكانت تلك اللمحة هي الومضةَ الأولى التي بدأتُ منها التعرف على منهج الإمام البخاري في ترجيح اللفظ الذي يرى رجحانه، ولم أجزم بأن هذا هو منهج له إلا بعد أن وقفت على نبذة ثانية وثالثة.
والحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي له لولا أن هداني هو إليه، فهو بمحض فضله وكرمه وهدايته سبحانه وتعالى، وله الحمد والشكر.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 30/ 12/ 1439، الموافق 10/ 9/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الاثنين، 10 سبتمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله 6



ـ روى البخاري من طريق كُريب عن عبد الله بن عباس أنه قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فأصبح بذي الحليفة، ثم أهلَّ هو وأصحابه، ثم نزل بأعلى مكة عند الحَجُون وهو مُهِلٌّ بالحج.
وروى البخاري ومسلم من طريق طاوس عن ابن عباس أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعةٍ مهلين بالحج.
وروى البخاري ومسلم من طريق أبي العالية البرَّاء عن ابن عباس أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج.
ـ وروى البخاري من طريق عكرمة أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقلْ عمرة في حجة".
ـ الروايات الثلاثة الأُوَل من طريق كريب وطاوس وأبي العالية البرَّاء عن عبد الله بن عباس في أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل يوم إحرامه بحجة الوداع بالحج مفردا صحيحة ثابتة.
ـ الرواية المروية من طريق عكرمة عن ابن عباس عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم إحرامه بحجة الوداع وهو بوادي العقيق "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال صلِّ في هذا الوادي المبارك وقلْ عمرة في حجة" فيها جزآن:
الجزء الأول منها هو قوله "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال صلِّ في هذا الوادي المبارك"، وهو صحيح لا إشكال فيه.
أما الجزء الثاني منها وهو قوله "وقلْ عمرة في حَجة" فهذا ليس ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ لا يمكن أن يكون من رواية ابن عباس، لمخالفته للروايات الثلاثة الأُوَل الثابتة عنه والمصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أهلَّ بالحج مفردا.
ـ الإمام البخاري رحمه الله أشار في صحيحه إلى إعلال هذا الجزء من رواية عكرمة، وذلك إذ روى إحدى الروايات الصحيحة الثابتة وهي رواية طاوس عن ابن عباس في باب التمتع والإقران والإفراد، وهو المناسب لها في كونها تنص على أن إحرام النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان بإفراد الحج.
وروى رواية عكرمة في ثلاثة أبواب أخرى لا علاقة لها بموضوع الإفراد بالحج والتمتع والقِران، وهي باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العقيق واد مبارك، وفي باب من أحيى أرضا مواتا، وفي باب ما ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم وما أجمع عليه الحرمان مكة والمدينة وما كان بها من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الأبواب لها تعلق بالجزء الصحيح الثابت من تلك الرواية، أي بالوادي المبارك وادي العقيق، ولا علاقة لها بموضوع الإفراد بالحج والتمتع والقِران.
ـ مَن لا يعرف طريقة البخاري في صحيحه فإنه قد يقول إن البخاري روى أن النبي صلى الله عيه وسلم قال "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال صلِّ في هذا الوادي المبارك وقلْ عمرة في حَجة" ويسكت على ذلك!، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه إلى أن البخاري رواه وأشار إلى إعلاله.
فرحمة الله على هذا الإمام الجليل محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، ما أدقَّ ملحظه.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 29/ 12/ 1439، الموافق 9/ 9/ 2018، والحمد لله رب العالمين.


الخميس، 6 سبتمبر 2018

حديث "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"

بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العزيز الحكيم

حديث "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"
ولفظه في بعض طرقه "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن"

رُوي هذا الحديث من رواية أبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وزيد بن أرقم وصهيب ومعاذ بن جبل وعائشة وأنس بن مالك وبريدة وقيس بن سعد بن عبادة وجابر بن عبد الله وابن عباس وغيلان بن سلمة وعصمة بن مالك الخطمي وسراقة بن مالك ومن مرسل ثعلبة بن أبي مالك:
* فأما حديث أبي هريرة فرواه الترمذي والبزار وابن حبان والبيهقي في السنن الكبرى من طريق النضر بن شميل وأبي أسامة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به مرفوعا. [محمد بن عمرو بن علقمة صدوق فيه لين وخاصة في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة]. فهذا الطريق لين.
ورواه البزار والحاكم وابن عدي من طريق سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. [سليمان بن داود اليمامي منكر الحديث].
* وأما حديث ابن أبي أوفى وزيد بن أرقم وصهيب فمداره على القاسم بن عوف:
فأما حديث ابن أبي أوفى فرواه أحمد وابن ماجه وابن حبان وابن صاعد في مسند ابن أبي أوفى والبيهقي عن إسماعيل ابن علية وحماد بن زيد عن أيوب السختياني عن القاسم بن عوف الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى به مرفوعا. [القاسم بن عوف كوفي لين مات قرابة سنة 115. عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه صحابي نزل الكوفة مات سنة 87]. فهذا إسناد لين.
وأما حديث زيد بن أرقم فرواه البزار والطبراني في الكبير وابن عدي من طريقين عن قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد بن أرقم مرفوعا به نحوه. فرجع هذا الطريق إلى طريق حديث ابن أبي أوفى.
وأما حديث صهيب فرواه الطبراني في الكبير من طريق النهاس بن قهم عن القاسم بن عوف الشيباني عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن صهيب مرفوعا به نحوه. [النهاس بن قهم ضعيف يروي المناكير].
* وأما حديث معاذ بن جبل فرواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والحارث بن أبي أسامة من طريقين عن الأعمش عن أبي ظبيان عن رجل من الأنصار عن معاذ بن جبل مرفوعا به نحوه. [أبو ظبيان حصين بن جندب كوفي ثقة مات سنة 90 تقريبا]. وفيه راو مبهم. فهذا الطريق ضعيف.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الرحمن بن شريك عن أبيه عن أبي خلف عن الحارث بن عَميرة الحارثي عن معاذ به. [عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي كوفي ضعيف. شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق تغير حفظه بعدما ولي القضاء ومات سنة 177. أبو خلف مجهول. الحارث بن عَميرة الحارثي الأزدي زبيدي قدم الشام والمدائن ومات سنة 62 تقريبا، ذكره ابن حبان في الثقات]. فهذا الطريق شديد الضعف. والصواب في رواية شريك أنها عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن قيس بن سعد بن عبادة، كما سيأتي في حديث قيس بن سعد.
* وأما حديث عائشة فرواه ابن أبي شيبة وابن حنبل عن اثنين عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [علي بن زيد ضعيف].
* وأما حديث أنس بن مالك فرواه أحمد والبزار والنسائي في الكبرى من طريق خلف بن خليفة عن حفص عن عمه أنس بن مالك به مرفوعا. [خلف بن خليفة صدوق وعُمِّر حتى اختلط].
ورواه الآجري في الشريعة عن الفريابي عن إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي عن عباد بن يوسف الكندي أبي عثمان عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس البكري عن أنس بن مالك مرفوعا به نحوه. [الفريابي جعفر بن محمد بن الحسن إمام حافظ ولد سنة 207 ومات سنة 301. إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي صدوق ثقة ولد سنة 152 ومات سنة 235. عباد بن يوسف الكندي أبو عثمان حمصي ليس بالقوي. أبو جعفر الرازي عيسى بن أبى عيسى صدوق ثقة فيه لين مات قرابة سنة 155. الربيع بن أنس بصري صدوق مات سنة 139]. فهذا الإسناد ضعيف.
* وأما حديث بريدة فرواه الدارمي والروياني وابن الأعرابي والحاكم من طريق حبان بن علي، ورواه الروياني عن محمد بن إسحاق الصاغاني عن محمد بن حميد الرازي عن تميم بن عبد المؤمن، كلاهما عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به مرفوعا. [صالح بن حيان ضعيف].
* وأما حديث قيس بن سعد بن عبادة فرواه الدارمي وأبو داود وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والبزار والطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير والحاكم، من طرق عن إسحاق بن يوسف الأزرق عن شريك بن عبد الله النخعي عن حُصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن قيس بن سعد بن عبادة به مرفوعا. [إسحاق بن يوسف الأزرق واسطي ثقة ولد سنة 117 ومات سنة 195، وكان ممن كتب عن شريك بواسط من كتابه. شريك كوفي صدوق فيه لين، تغير حفظه منذ ولي القضاء، وُلد سنة 90 ومات سنة 177. حُصين بن عبد الرحمن كوفي ثقة تغير حفظه لما كبر، ولد سنة 43 ومات سنة 136].
حُصين بن عبد الرحمن: روى البخاري ومسلم من طريق جماعة من الرواة عنه، والذين وقفت على تواريخ ولاداتهم منهم عشرة، وهي هذه: 83، 95، 97، 100، 104، 110 ثلاثة من الرواة، 111، 118، فشريك بن عبد الله النخعي الذي وُلد سنة 90 هو من أقدم الرواة الذين أدركوا حصينا، فالظاهر أنه أدركه قبل تغير حفظه، فهذا الطريق لا بأس به.
* وأما حديث جابر بن عبد الله فرواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر به مرفوعا. [إسماعيل بن عبد الملك ضعيف].
* وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني في الكبير عن العباس بن الفضل الأسفاطي عن أبي عون الزيادي عن أبي عزة الدباغ عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن ابن عباس به مرفوعا. [العباس بن الفضل الأسفاطي من الشيوخ الذين أكثر عنهم الطبراني، ترجم له ابن عساكر وذكر من الرواة عنه خمسة ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. أبو عون الزيادي محمد بن عون ذكره ابن حبان في الثقات. أبو عزة الدباغ الحكم بن طهمان ثقة فيه لين. أبو يزيد المديني وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه]. فهذا الطريق ضعيف.
* وأما حديث غيلان بن سلمة فرواه الطبراني في الكبير من طريق شبيب بن شيبة عن بشر بن عاصم الثقفي عن غيلان بن سلمة به مرفوعا. [شبيب بن شيبة ضعيف].
* وأما حديث عصمة بن مالك الخطمي فرواه الطبراني في الكبير من طريق الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي به مرفوعا. [الفضل بن المختار منكر الحديث جدا].
* وأما حديث سراقة بن مالك فرواه الطبراني في الكبير عن محمد بن الفضل السقطي وجعفر بن أحمد بن سنان الواسطي عن إبراهيم بن المستمر العروقي عن وهب بن جرير عن موسى بن علي عن أبيه عن سراقة بن مالك مرفوعا. [إبراهيم بن المستمر العروقي بصري صدوق مات قرابة سنة 245. وهب بن جرير بصري ثقة فيه لين مات سنة 207. موسى بن علي بن رباح اللخمي مصري ثقة فيه لين، ولد سنة 90 ومات سنة 163. علي بن رباح اللخمي الإفريقي المصري ثقة، ولد سنة 15 ومات سنة 114. سراقة بن مالك صحابي مشهور مات سنة 24]. السند منقطع بين التابعي والصحابي فهو ضعيف.
* وأما مرسل ثعلبة بن أبي مالك فرواه الآجري عن الفريابي أنه قرأ على أبي مصعب وكتب من أصل كتابه وقرأ عليه وهو ينظر في كتابه أن عبد العزيز بن أبي حازم حدثه عن يزيد ابن الهاد عن ثعلبة بن أبي مالك مرفوعا به نحوه.
[الفريابي جعفر بن محمد بن الحسن إمام حافظ ولد سنة 207 ومات سنة 301. أبو مصعب الزهري أحمد بن أبي بكر مدني صدوق ولد سنة 150 ومات سنة 242. عبد العزيز بن أبي حازم مدني صدوق ثقة ولد سنة 107 ومات سنة 184. يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد مدني ثقة مات سنة 139. ثعلبة بن أبي مالك القُرظي إمام مسجد بني قريظة، من كبار التابعين، كان سنه فوق العاشرة عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وثقه العجلي وذكره ابن حبان في ثقات التابعين]. فهذا الإسناد لا بأس به.
* ـ درجة الحديث: صحيح لغيره بمجموع هذه الطرق.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 24/ 7/ 1438، الموافق 20/ 4/ 2017، والحمد لله رب العالمين.


الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله ـ 5 ـ


ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله".
وروَى من طريق أبي معمر عبد الله بن سخبرة أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهدَ كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله". وهو بين ظهرانينا، فلما قبِض قلنا: السلام - يعني - على النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ الحديث بالرواية الأولى رواه الطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة وعلقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد النخعي وأبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من كبار أصحاب ابن مسعود، ورواه كذلك ابن أبي شيبة وابن حنبل من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولكنه مات أبوه وهو صغير.
وهؤلاء لم يذكر واحد منهم أن ابن مسعود قال له بعد رواية الحديث "فلما قبِض قلنا: السلام على النبي".
ـ الحديث بالرواية الثانية التي فيها هذه الزيادة من قول ابن مسعود "فلما قبِض قلنا السلام على النبي" رواها ابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاري وأبو يعلى والسرَّاج وأبو عوانة والبيهقي من طريق مجاهد عن عبد الله بن سخبرة عن عبد الله بن مسعود، وعند البخاري جاءت بزيادة كلمة "يعني" هكذا: "فلما قبِض قلنا السلام يعني على النبي"، ولكنها ليست موجودة في المصادر الأخرى.
ـ المشهور من روايات هذا الحديث أن أصحاب ابن مسعود كانوا يروونه للناس ويعلمونهم التشهد باللفظ الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ولا يذكرون فيه اختلاف اللفظ بين كونه في حياة رسول الله وكونه بعد وفاته.
وحيث إن عبد الله بن سخبرة الذي تفرد بتلك الزيادة لا يُقارن بأي واحد من أولئك الكبار من أصحاب ابن مسعود فالظاهر أنها غير ثابتة.
ـ الإمام البخاري رحمه الله أشار في صحيحه إلى إعلال هذه الزيادة، وذلك إذ روى الحديث بدون الزيادة في باب التشهد وباب ما يُتخير من الدعاء بعد التشهد في كتاب الصلاة، وفي مواضع أخرى، وروى الحديث مع الزيادة في باب مناسب لقوله "وكفي بين كفيه"، وهو باب الأخذ باليدين من كتاب الاستئذان.
ـ مَن لا يعرف طريقة البخاري في صحيحه فإنه قد يقول إن البخاري روى عن ابن مسعود أنه كان يقول في التشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وأنه كان يقول بعد وفاته "السلام على النبي ورحمة الله وبركاته"، وهذا لا ينبغي إلا مع التنبيه إلى أن البخاري رواه وأشار إلى إعلاله.
ـ إذا كان هذا القول المعْزو إلى ابن مسعود غير ثابت عنه فهذا لا يعني أنه ليس ثابتا عن غيره من الصحابة، فقد رواه مالك في الموطإ عن ابن عمر، ورواه عبد الرزاق عن ابن عباس وابن الزبير، ورواه ابن أبي شيبة وأبو طاهر المخلص والبيهقي عن عائشة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 23/ 12/ 1439، الموافق 3/ 9/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

حوار حول حديث من يجدد لها دينها - الحوار الخامس


ـ كتب أحد المحاورين حول حديث "إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها" كلاما طويلا بدا لي أن أعلق عليه وأبين وجهة نظري فيه.
كتبت بضع صفحات، وعندي كلام طويل جدا ونصوص كثيرة، ثم بدا لي أن من لم يقبل بمنهج الإمام البخاري ومنهج الإمام مسلم ومنهج الإمام النَسائي وتزكية الحافظ الذهبي للنَسائي فبأي شيء يقبل؟!. ومن لم يقبل كذلك بما قاله الحافظ ابن حجر!، فبأي شيء سيقبل؟!.
مسحت ما كتبته وتركت ما أردت أن أكتبه وقلت: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ـ في كلامه افتراءات لا شك أنه يعلمها، آثرت أن لا أخوض فيها، ووكلت رب العالمين، فهو الذي يأخذ لي حقي، وأفوض أمري إلى الله.
ـ حزنت لما آل إليه الأمر عند شريحة من طلاب العلم، حيث أصبح منهج كبار الأئمة مشكوكا فيه، بل مرفوضا!.
* ـ أريد أن أذكر ثلاثة نبذ في مسألة منهج الأئمة المتقدمين ومنهج من جاؤوا بعدهم في اختلاف الرواية رفعًا ووقفًا للاطلاع، لعل في ذكرها بعض الفائدة:
* ـ قال الترمذي في العلل الكبير: حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو عوانة عن أبي يعفور أنه قال: سألت أنس بن مالك عن المسح على الخفين فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عليهما. سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: أخطأ فيه قتيبة بن سعيد، والصحيح عن أنس موقوف. [قتيبة بن سعيد وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله وأبو يعفور العبدي ـ واسمه واقد ـ ثقات، وقال ابن حجر عن قتيبة: ثقة ثبت]. أي سأل شيخه الإمامَ البخاري محمدَ بنَ إسماعيل رحمه الله.
ملحوظة: إذا كانت الرواية عن أنس في المسح على الخفين معلولة فهذا لا يعني أن حديث المسح على الخفين غير صحيح من رواية صحابة آخرين، فهو صحيح ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم من رواية عدد من الصحابة الآخرين.
* ـ قال البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة أيوب بن خالد: [روى إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "خلق الله التربة يوم السبت"، وقال بعضهم "عن أبي هريرة عن كعب"، وهو أصح]. وحديث "خلق الله التربة يوم السبت" رواه مسلم في صحيحه.
* ـ حديث "من لم يجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" في سنده اختلاف، ورُوي بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالوقف على الصحابي:
فأما الرواية بالرفع فرُويت من طريقين فيهما ضعف عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، مع بعض الاختلافات اليسيرة غير المؤثرة في إسناد الرواية.
وأما الرواية بالوقف على الصحابي فرواها تسعة من الرواة عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أو عن حفصة رضي الله عنهم، مع بعض الاختلافات اليسيرة غير المؤثرة. ورواه مالك وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر موقوفا. فهذه الروايات في قمة الصحة.
كيف نظر العلماء إلى هذا الاختلاف في الرواية؟:
الأئمة الكبار من علماء الحديث الذين هم أئمة هذا العلم رجحوا أن النص المذكور هو من قول الصحابي، أي إن الحديث موقوف، منهم الإمام أحمد ابن حنبل والبخاري وأبو حاتم الرازي والترمذي والنسائي والدارقطني.
أما الذين ينظرون إلى ظاهر الإسناد ـ ولو في بعض الروايات دون المقارنة مع الروايات الأخرى ـ فرجحوا أن هذا النص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم ابن خزيمة والخطابي والحاكم والبيهقي وابن حزم وابن الجوزي والألباني.
وكل واحد منا يختار حسب المنهج الذي يغلب على ظنه أنه أصح.
أنا أتمسك بمنهج الأئمة المتقدمين، ولا أحيد عنه ولو كتب الباحثون مئات الصفحات من كلام غيرهم. ولكلٍّ وجهة.
* ـ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الهادي الأمين، وعلى زوجاته أمهات المؤمنين، والخلفاء الراشدين، وآل بيته الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 18/ 11/ 1439، الموافق 31/ 7/ 2018، والحمد لله رب العالمين.