الجمعة، 26 أكتوبر 2018

حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله"


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رب تمم بالخير، واختم لنا بالخير، بفضلك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
رُوي هذا الحديث من رواية أبي بكرة وعبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك:
ـ فأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن حنبل والدارمي والترمذي والبزار والطحاوي في مشكل الآثار من طرق عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله". ورواه ابن حنبل والطحاوي في مشكل الآثار والحاكم من طرق عن الحسن عن أبي بكرة به.
وروى ابن عدي في الكامل بسند صحيح عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد أنه قال: ربما حدث الحسنُ بالحديث أسمعه منه، فأقول يا أبا سعيد أتدري من حدثك؟!، فيقول لا أدري إلا أنه سمعته من ثقة، فأقول أنا حدثتك.
والظاهر أن الحسن البصري كان قد سمع هذا الحديث من علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تدليس الإسناد.
[علي بن زيد بصري ضعيف مات سنة 131، قال الترمذي في السنن: علي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره. عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة. الحسن البصري لم يثبت أنه سمع من أبي بكرة، وهو قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع]. فهذا الإسناد ضعيف.
ـ وأما حديث عبد الله بن بسر فرواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي والطبراني في مسند الشاميين وابن المقرئ والبيهقي من طريق معاوية بن صالح، وابنُ حنبل وأبو زرعة الدمشقي في الفوائد المعللة والطبراني في مسند الشاميين من طريق حسان بن نوح، والطبرانيُّ في مسند الشاميين من طريق محمد بن الوليد الزبيدي ومن طريق صبيح بن محرز، والخطيبُ البغدادي في تلخيص المتشابه من طريق عمر بن جُعْثُم، خمستهم عن عمرو بن قيس السَكوني، ورواه الضياء المقدسي في المختارة من طريق أبي أحمد الحاكم بسنده عن أرطاة بن المنذر، كلاهما عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟. فقال: "مَن طال عمره وحسن عمله".
[عمرو بن قيس السَكوني حمصي ثقة مات سنة 136 تقريبا. أرطاة بن المنذر حمصي ثقة مات سنة 162]. طريق أبي أحمد الحاكم عن أرطاة بن المنذر سنده جيد، فإسناد هذا الحديث صحيح عن عبد الله بن بسر.
ورواه علي بن الجعد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم في الحلية من طريق إسماعيل بن عياش، والطبرانيُّ في الأوسط من طريق الحارث بن يزيد السَكوني الحمصي، كلاهما عن عمرو بن قيس السَكوني عن عبد الله بن بسر المازني.
من هو عبد الله بن بسر؟ هل هو عبد الله بن بسر المازني أو غيره:
أكثر الرواة لهذا الحديث لم يذكروا عبد الله بن بسر منسوبا، فيحتمِل أن يكون هو المازنيَّ الحمصي، وهذا صحابي مات سنة 88 وهو ابن 94 سنة، وقال أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد مات سنة 96 وهو ابن مئة سنة، وقال الخطيب البغدادي في تلخيص المتشابه بلغ مئة سنة، ويحتمِل أن يكون هو النصريَّ الدمشقي، وهذا ذكره ابن عبد البر وابن حجر في الصحابة ولا تثبت صحبته، ويحتمِل أن يكون هو الحُبْرانيَّ، وهذا حمصي نزل البصرة مات قرابة سنة 135، وهو ضعيف.
إسماعيل بن عياش الذي قال هو المازني لا يُحتج به لما فيه من ضعف، وكذا الحارث بن يزيد السَكوني، فهو وإن ذكره ابن حبان في الثقات فقد قال فيه أبو حاتم مجهول. فإسناد هذا الحديث عن عبد الله بن بسر المازني ضعيف.
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن المبارك في الزهد وفي المسند عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به نحوه. [يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي مدني منكر الحديث متروك]. فهذا الطريق تالف.
ورواه ابن أبي شيبة وابن حنبل والبزار وابن حبان والبيهقي من ثلاثة طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". محمد بن إسحاق قد يدلس الإسناد ولم يصرح بالسماع، فهذا الطريق ضعيف.
ورواه ابن حبان من طريق محمد بن عثمان العقيلي عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق أنه قال حدثني محمد بن إبراهيم التيمي. [محمد بن عثمان العقيلي ذكره ابن حبان في الثقات وقال يغرب]. فهذا الطريق لا يُعتمد عليه.
ـ وأما حديث جابر فرواه عبد بن حُميد من طريق عبد الله بن عامر عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا". [عبد الله بن عامر القارئ مدني ضعيف في رواية الحديث، مات سنة 151].
ورواه الحاكم والبيهقي من طريق أيوب بن سليمان بن بلال عن أبي بكر عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله به نحوه. [أيوب بن سليمان بن بلال مدني، وثقه أبو داود وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو الفتح الأزدي والساجي: يحدث بأحاديث لا يُتابع عليها. وضعفه ابن عبد البر، فهو صدوق فيه لين، مات سنة 224].
ورواه قوام السنة في الترغيب والترهيب من طريق عاصم بن علي عن أبي معشر عن محمد بن المنكدر عن جابر. [عاصم بن علي بن عاصم الواسطي صدوق فيه لين مات سنة 221. أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي مدني ضعيف واختلط بآخره، مات سنة 170].
وقال الدارقطني: اختُلف فيه على ابن المنكدر: فروي عن زيد بن أسلم وأبي معشر عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه عبد العزيز بن الماجشون عن ابن المنكدر مرسلا. قلت: فحديث جابر ضعيف الإسناد.
ـ وأما حديث أنس فرواه أبو يعلى من طريق سهيل عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "خياركم أطولكم أعمارا إذا سددوا". [سهيل بن أبي حزم بصري ضعيف مات قبل سنة 175]. فهذا الإسناد ضعيف.
ثم إنه لو لم يكن ضعيفا لما كان فيه حجة لمن يريد أن يحتج به، لأن البزار رواه في مسنده بالإسناد عينه بلفظ مغاير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخياركم؟!". قالوا: بلى. قال: "أحاسنكم أخلاقا".
* ـ هل تتقوى هذه الطرق الضعيفة ببعضها؟:
اشترط الإمام الترمذي رحمه الله في ترقية الأسانيد الضعيفة أن لا يكون الحديث شاذا، والمتأخرون يرون أن الحديث الذي تعددت طرقه وكان ضعفها ليس شديدا يرتقي لمرتبة الحسن، وأهملوا الشرط الثالث إهمالا تاما.
هل هذا الحديث فيه شذوذ؟:
آيات القرآن الكريم تربط الفضل ورفعة الدرجة بالعمل الصالح، فقد قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}.
هذا ما يقوله لنا ربنا عز وجل، أما الحديث المروي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فهو في واد آخر، إذ يُنسب لطلحة رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة فيما نُسب إليه: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
وهذا يعني أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وطال عمره فصلى عددا كثيرا من الصلوات وصام عددا كثيرا من الرمضانات هو أفضل عند الله تعالى ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد واستُشهد وكان أشد اجتهادا في العبادة!، وأنه أفضل من معظم الصحابة الذين استُشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم!، وأنه أفضل ممن بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة!. وهذا الحديث مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فضل طلحة رضي الله عنه وبشارته له بالجنة.
ـ ثم إن المعهود في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يربط الخيرية والأفضلية بطول العمر:
فمن ذلك ما رواه البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقا".
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".
ومن ذلك ما رواه محمد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟!: أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون".
ومن ذلك ما رواه ابن حنبل عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم من أطعم الطعام ورد السلام".
ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهرم، والهرم كِبَر السن:
فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار".
وروى مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود.
ـ الخلاصة:
حديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله" أسانيده ضعيفة، ولا تتقوى ببعضها لشذوذ المتن، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 8/ 10/ 1439، الموافق 22/ 6/ 2018، سوى بعض الإضافات اليسيرة، والحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

* من روائع الإمام البخاري رحمه الله: - 8 -


ـ روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من طريق شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحُد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة، تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة". ورواه بلفظ "إنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد". ورواه بلفظ "إنها طيبة، تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة".
المعنى المقصود هو أن المدينة المنورة نفت وأبعدت كتلة المنافقين الخبثاء عن أن يدخلوا في صفوف المؤمنين ويجاهدوا العدو معهم.
ـ اللفظ الأول "تنفي الخبث" رواه البخاري ومسلم وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن حنبل والترمذي وغيرهم من طريق جماعة عن شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهذا اللفظ هو الثابت، وهو الصواب، فرواه البخاري في الباب المناسب له، وهو باب {فما لكم في المنافقين فئتين} من كتاب تفسير القرآن.
ـ اللفظ الثاني "تنفي الرجال" رواه البخاري عن رجل واحد عن شعبة به، وهذا اللفظ ليس بعيدا عن المعنى إذا فُهم على معنى أنها تنفي الرجال الخبثاء، فرواه البخاري في باب المدينة تنفي الخبث من كتاب فضائل المدينة، وهو مناسب له كذلك.
فرحم الله الإمام البخاري ما أدق نظره في هذا التبويب!.
* ـ وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 14/ 2/ 1440، الموافق 23/ 10/ 2018، والحمد لله رب العالمين.


الاثنين، 22 أكتوبر 2018

تعقيبات على كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب

بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ وبه أستعين


روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري". وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
وقف بعض الإخوة على ما كتبه الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله أحد شراح صحيح البخاري في القرن الرابع عشر الهجري في شرح هذا الحديث، فاستحسنه.
قرأت ما قاله الشيخ في شرح هذا الحديث فوجدت أكثره بخلاف ذلك تماما، سواء في ذلك ما قاله فيما يتعلق بشرح الحديث أو ما ذكره استطرادا، وشرعت في كتابة بعض التعقبات، ومنها تعقبات لغوية، إلا أن الأمر طال، فآثرت أن أقتصر على بعض ما أراه مهما.
* ـ قال الشيخ محمد أنور الكشميري المتوفى سنة 1353 في كتابه فيض الباري على صحيح البخاري في شرح هذا الحديث: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا. بقي الفصل بين الرِجلين: ففي شرح الوقاية أنه يفصل بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قول آخر: قدر شبر. قلت: ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بأن كانوا يفصلون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!، ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، كلفظ "فوق الصدر" عند ابن خزيمة، فإنه من توسعِ الرواة قطعا، لأنه لم يعمل به أحد من الأئمة، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع ويخترع كل يوم مسألة، فإنَّ توسع الرواة معلوم، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خفي، فاعلمه، وهذا الذي عرض للمحدثين، فإنهم ينظرون إلى حال الإسناد فقط، ولا يراعون التعامل، فكثيرا ما يصح الحديث على طورهم ثم يفقدون به العمل فيتحيرون، وكذلك قد يضعفون حديثا من حيث الإسناد مع أنه يكون دائرا سائرا فيما بينهم ويكون معمولا به فيتضرر هناك من جهة أخرى، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث، والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجل أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف، وعند أبي داود في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة "صف القدم ووضع اليد على اليد من السنة". قلت: ومراده استواء القدمين مع التجافي، فلا يبحثون عن إلزاق الكعبين أصلا، ولا يذكرون فيه إلا الصف، ثم في النسائي في باب الصف بين القدمين أن رجلا صف بين القدمين فقال له ابن مسعود رضي الله عنه "خالف السنة، لو راوح كان سنة". ومراده بعكس ما هناك، أي يضم بين قدميه، ولا يترك فرجة بينهما، وأراد بالمراوحة التفريج بين القدمين، فالصف عند أبي داود بعكس ما في النسائي فتنبه، فإنه ليس من المصطلحات ليلزم بالمخالفة، ولا تتوهم أن بين اللفظين تناقضا، فإنه يُبنى على تعدد المعنيين، فالصف بمعنى التفريج والاستواءِ سنة، وهو بمعنى الضم بينهما مخالف للسنة، وتلخص أن الصف بين القدمين سنة لا غير، لأنهم لا يذكرون ولا يتعرضون إلى غيره، فحسبهم قدوة].
* ـ أقول:
فهمَ الشيخ المؤلف رحمه الله من حديث "أقيموا صفوفكم" أن المراد تسوية الصفوف وتعديلها بعيدا عما يظهر مما قاله راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكلامه يدور حول هذا، وعليه فيه مؤاخذات، وهذه بعضها:
المؤاخذة الأولى:
تجاهل الشيخ سامحه الله ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث، ولذا فإنه لم يبين معنى الإلزاق في اللغة العربية!، واكتفى بما نقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله".
كلام ابن حجر هنا هو ما فهمه من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم"، لكن الراوي أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر عقب الحديث ما فهمه الصحابة منه وقال "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه"، ولا يصح أن نتجاهل ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة.
الإلزاق والإلصاق هما بمعنى واحد، وهو في لغة العرب أن يُقرن شيء بشيء حتى ينضم إليه دون فاصل بينهما.
كلمة "ألصق" معناها ظاهر معروف، وبها وبنحوها يفسرون الكلمات الغامضة المعنى، أما هي ونحوها فلا تكاد تجد لها تفسيرا في معاجم اللغة.
وددتُ لو أن المؤلف نظر في بعض الروايات الواردة في الصحيحين مما جاءت فيه كلمة الإلصاق ليتبين معناها، وهذه بعض النصوص الواردة فيهما لمن أراد أن يقف على معنى الإلصاق في اللغة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم فأدخلتُ فيه ما أخرِج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين". وفي رواية: "وأن ألصق بابه بالأرض".
جُرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعِيَته وهُشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وكان علي رضي الله عنه يختلف بالماء في المِجَن، فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته، فاستمسك الدم. وفي رواية: فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمَدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه.
قدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبيا فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.
"غزا نبي من الأنبياء، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله، فأبت أن تطْعَمه، فقال فيكم غلول، فلـْيبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصِقت يد رجل بيده، فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فبايعته، فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة، فقال فيكم الغلول".
وهذا يوضح معنى الالتصاق، ويشير إلى أنه اقتران شيء بشيء وانضمامه إليه دون فاصل بينهما.
المؤاخذة الثانية:
وقف الشيخ رحمه الله على كلام علماء النحو في أن حرف الباء للإلصاق وعلى مثال ذكروه وهو قولهم "مررت بزيد"، ووجد أن الذي يمر بزيد لا يُشترط فيه لصحة هذا القول أن يكون ملاصقا له بجسمه حال المرور به، وكأنه استنبط منه أن الإلصاق لا يُشترط فيه الملاصقة والانضمام بدون فاصل!، فقال: "ليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!".
وهذا خلل في فهم اللغة، لأن قولك "مررت بزيد" يعني التصاق المرور به، وليس التصاق المار به.
قال أبو الحسن ابن الوراق المتوفى سنة 381 في كتابه علل النحو: الباء للإلصاق، كقولك مررت بزيد، أي ألصقت مروري به.
المؤاخذة الثالثة:
إذا كان الشيخ قد فهم من حديث "أقيموا صفوفكم" الفهم الذي رآه فله ذلك، لكن كان عليه أن ينظر في طرق الحديث الأخرى، ومنها ما رواه البخاري من طريق آخر، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا صفوفكم، وتراصُّوا، فإني أراكم من وراء ظهري". تراصوا: انضموا وتلاصقوا.
وهذا يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم من إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ليس مما فهموه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم" فقط، بل من قوله كذلك "وتراصوا".
المؤاخذة الرابعة:
قال الشيخ في تأكيد عدم استحباب إلصاق المنكب بالمنكب: "وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا".
عزا الشيخ المعنى الذي فهمه من الحديث للفقهاء الأربعة، وأظنه يعني فقهاء المذاهب الأربعة، وهذا العزو غير صحيح، وهذه أقوال بعض علماء المذاهب الأربعة:
روى أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، سووا مناكبكم، تراصوا". ولم يعلق عليه بشيء.
وروى محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، وسووا مناكبكم، تراصوا". قال محمد: وبه نأخذ، لا ينبغي أن يُترك الصف وفيه الخلل حتى يسووا، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مجد الدين ابن الأثير المتوفى سنة 606 في كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي بعد ذكر حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت عندنا، وبهذا نقول.
وقال الخطابي المتوفى سنة 388 في كتابه أعلام الحديث: قوله "تراصوا" معناه تدانوا وتضامُّوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، ومنه قول الله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وقال ابن بطال المتوفى سنة 449 في شرح صحيح البخاري بعد ذكر عدة روايات ومنها "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه": هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام "تراصوا في الصف"، وهذه هيئة التراصِّ.
وقال الباجي المتوفى سنة 474 في المنتقى: تسوية الصفوف من هيئات الصلاة، وهو يتصل بمقام المأمومين من الإمام، فإذا كانوا عددا لزم فيهم إقامة الصفوف وهو تقويمها ونماؤها والتراص فيها.
وقال التوربشتي المتوفى سنة 661 في كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة: ومنه حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": أي تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَج. الفُرْجة: انفتاح بين شيئين.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم "أقيموا الصف في الصلاة": أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه.
وقال مظهِر الدين حسين بن محمود الزيداني الحنفي المتوفى سنة 727 في كتابه المفاتيح في شرح المصابيح: قوله "أقيموا صفوفكم": أي سووا وأتموا صفوفكم، "وتراصوا": أي ليقرُبْ كلُّ واحد منكم بجنب صاحبه بحيث تتصل مناكبكم، تراصَّ الشيئان إذا انضما ولزق أحدهما بالآخر.
وقال العيني المتوفى سنة 855 في عمدة القاري: قوله "وتراصوا" معناه تضامُّوا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، وأصله من الرص، يقال رص البناءَ يرصه رصا إذا لصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وأما ابن حجر فخالف الجمهور في هذه المسألة، حيث أورد احتمالا في معنى "تراصوا" يخرجها عن المعنى اللغوي، فقال في فتح الباري: قوله "وتراصوا" بتشديد الصاد المهملة: أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمِل أن يكون تأكيدا لقوله "أقيموا"، والمراد بِ "أقيموا" سووا.
المؤاخذة الخامسة:
قول الشيخ "أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا" غريب جدا مصادم للأحاديث الصحيحة التي تأمر بالتقارب والتراص في الصلاة، وكأنه يرى استحباب المباعدة!، لكن لا لدرجة أن يترك المصلون بين كل اثنين فراغا يسع رجلا ثالثا بينهما!!.
شيء غريب جدا!.
كأن الشيخ يرى أن كل رجلين ممن خلف الإمام في الصلاة إذا اقتربا وتراصَّا وألصق كل واحد منهما منكبه بمنكب الآخر فصلاتهما مخالفة للسنة!، وأنهما إذا تباعدا بحيث لا يتركان بينهما فُرْجة تسع فيها رجلا ثالثا فصلاتهما غير مخالفة للسنة!، وهذا بخلاف ما ثبت في السنة وبخلاف ما كان يفعله الصحابة وبخلاف أقوال جمهور أهل العلم.
المؤاخذة السادسة:
قال الشيخ: "ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث".
أقول:
مراد الشيخ بلفظة التعامل هنا العمل، ولم يبين مرادَه: عمَلَ مَن يريد؟!، أيريد بالعمل عمل الصحابة والتابعين؟!، أو عمل الأئمة المجتهدين في عصور الاجتهاد؟!، أو عمل أئمة المذهب الحنفي؟!، أو عمل مشايخ الحنفية الذين أدركهم في أوائل القرن الرابع عشر الهجري؟!.
ثم إن العمل إذا كان مرويا عن الصحابة والتابعين بالسند فهذه الرواية لا يهملونها، وهي حديث موقوف أو مقطوع، وله مكانته في الاستنباط.
أما المسألة التي هي محل البحث هنا فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن الصحابة كان الواحد منهم يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، فهل عمل الصحابة عنده مقبول أو لا؟!.
يبدو أن مثل هذا العمل عنده غير مقبول حتى ولو عمل به الإمام الشافعي رحمه الله وأيده كلام كثير من أهل العلم الذين تقدم ذكر بعضهم في المؤاخذة الرابعة، ومنهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة وقال إنه قول أبي حنيفة.
المؤاخذة السابعة:
قال الشيخ: "والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة".
أقول:
إلزاق المنكب بالمنكب يقع به التراص، وإلزاق القدم بالقدم يقع به ترك الفرجة، فكلام الشيخ هنا متناقض.
المؤاخذة الثامنة:
قال الشيخ: "ثم فكر في نفسك ولا تعجلْ أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف".
أقول:
إذا فهمنا الحديث كما جاء في الحديث فهو أمر سهل جدا، ليس فيه سوى الاقتراب وترك الفرجة بين المصلي وبين جاره الذي هو من جهة الإمام، وإذا كان بعض من يدَّعون العمل بالحديث يشوهون صورة العمل به فلا يجوز أن يكون هذا مانعا من الأخذ به بالصورة السالمة من التشويه.
قوله "فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف" بعد ذكر إلزاق المنكب بالمنكب وإلزاق القدم بالقدم غير صحيح.
لا يجوز أن يُقال مثل هذا إلا عن الصورة المشوهة التي أحدثها بعض الناس.
من الصور المشوهة التي أحدثها بعض الناس أنهم لما وجدوا أن المصلي لا يمكنه أن يلزق منكبه بمنكب جاره من الجانبين جعلوا الاهتمام بإلزاق القدم بالقدم من الجانبين، فصار بعضهم يباعد بين قدميه مباعدة فاحشة ويلاحق جاريه من اليمين والشِمال لإلصاق القدم بالقدم!، بل والإلصاق الحقيقي لإلصاق الكعب بالكعب!، ويبدو أنهم لم يقرؤوا في كتب اللغة شيئا عن الإلصاق المجازي، ولو وقفوا عليه فربما كانوا ممن ينفون المجاز في لغة العرب!، وكثيرا ما يكون هذا مع الانشغال المتكرر بذلك في الصلاة.
ثم سرى هذا الحال إلى أن يتصور بعضهم أن السنة في قيام الإمام أو المنفرد للصلاة هي مباعدة القدمين عن بعضهما مباعدة شديدة تزيد عن مسافة ما بين منكبي الشخص!.
* ـ تلخيصا لما ينبغي فعله في هذه المسألة أقول:
يُسن للمصلي أن يلصق منكبه بمنكب جاره وقدمه بقدمه من كلا الجهتين، والذي أراه هو أن هذا لا يتحقق إلا إذا كان الآخرون حريصين على إقامة هذه السنة كذلك، فإن لم يكونوا حريصين فيُسن له أن يلصق منكبه بمنكب جاره من الجهة التي فيها الإمام وأن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، فإذا فعل الآخرون مثل ذلك اتصل الصف واستوى وسُدت الفُرج بين كل مصلٍّ وجاره.
أما المصلي الذي يكون خلف الإمام ولو إلى آخر الصفوف فينبغي له أن يقف كما يقف الإمام، أي أن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، لأنه هو المعيار، وعلى الآخرين من كلتا الجهتين أن يقتربوا إلى جهته، وليس هو الذي يقترب إلى جهتهم، ـ والله أعلم ـ.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 5/ 2/ 1440، الموافق 14/ 10/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

الأربعاء، 17 أكتوبر 2018

كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب

بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ وبه أستعين



روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري". وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
وقف بعض الإخوة على ما كتبه الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله أحد شراح صحيح البخاري في القرن الرابع عشر الهجري في شرح هذا الحديث، فاستحسنه.
قرأت ما قاله الشيخ في شرح هذا الحديث فوجدت أكثره بخلاف ذلك تماما، سواء في ذلك ما قاله فيما يتعلق بشرح الحديث أو ما ذكره استطرادا، وشرعت في كتابة بعض التعقبات، ومنها تعقبات لغوية، إلا أن الأمر طال، فآثرت أن أقتصر على بعض ما أراه مهما.
* ـ قال الشيخ محمد أنور الكشميري المتوفى سنة 1353 في كتابه فيض الباري على صحيح البخاري في شرح هذا الحديث: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا. بقي الفصل بين الرِجلين: ففي شرح الوقاية أنه يفصل بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قول آخر: قدر شبر. قلت: ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بأن كانوا يفصلون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!، ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، كلفظ "فوق الصدر" عند ابن خزيمة، فإنه من توسعِ الرواة قطعا، لأنه لم يعمل به أحد من الأئمة، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع ويخترع كل يوم مسألة، فإنَّ توسع الرواة معلوم، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خفي، فاعلمه، وهذا الذي عرض للمحدثين، فإنهم ينظرون إلى حال الإسناد فقط، ولا يراعون التعامل، فكثيرا ما يصح الحديث على طورهم ثم يفقدون به العمل فيتحيرون، وكذلك قد يضعفون حديثا من حيث الإسناد مع أنه يكون دائرا سائرا فيما بينهم ويكون معمولا به فيتضرر هناك من جهة أخرى، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث، والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجل أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف، وعند أبي داود في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة "صف القدم ووضع اليد على اليد من السنة". قلت: ومراده استواء القدمين مع التجافي، فلا يبحثون عن إلزاق الكعبين أصلا، ولا يذكرون فيه إلا الصف، ثم في النسائي في باب الصف بين القدمين أن رجلا صف بين القدمين فقال له ابن مسعود رضي الله عنه "خالف السنة، لو راوح كان سنة". ومراده بعكس ما هناك، أي يضم بين قدميه، ولا يترك فرجة بينهما، وأراد بالمراوحة التفريج بين القدمين، فالصف عند أبي داود بعكس ما في النسائي فتنبه، فإنه ليس من المصطلحات ليلزم بالمخالفة، ولا تتوهم أن بين اللفظين تناقضا، فإنه يُبنى على تعدد المعنيين، فالصف بمعنى التفريج والاستواءِ سنة، وهو بمعنى الضم بينهما مخالف للسنة، وتلخص أن الصف بين القدمين سنة لا غير، لأنهم لا يذكرون ولا يتعرضون إلى غيره، فحسبهم قدوة].
* ـ أقول:
فهمَ الشيخ المؤلف رحمه الله من حديث "أقيموا صفوفكم" أن المراد تسوية الصفوف وتعديلها بعيدا عما يظهر مما قاله راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكلامه يدور حول هذا، وعليه فيه مؤاخذات، وهذه بعضها:
المؤاخذة الأولى:
تجاهل الشيخ سامحه الله ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث، ولذا فإنه لم يبين معنى الإلزاق في اللغة العربية!، واكتفى بما نقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله".
كلام ابن حجر هنا هو ما فهمه من قول النبي صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم"، لكن الراوي أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر عقب الحديث ما فهمه الصحابة منه وقال "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه"، ولا يصح أن نتجاهل ما نقله الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة.
الإلزاق والإلصاق هما بمعنى واحد، وهو في لغة العرب أن يُقرن شيء بشيء حتى ينضم إليه دون فاصل بينهما.
كلمة "ألصق" معناها ظاهر معروف، وبها وبنحوها يفسرون الكلمات الغامضة المعنى، أما هي ونحوها فلا تكاد تجد لها تفسيرا في معاجم اللغة.
وددتُ لو أن المؤلف نظر في بعض الروايات الواردة في الصحيحين مما جاءت فيه كلمة الإلصاق ليتبين معناها، وهذه بعض النصوص الواردة فيهما لمن أراد أن يقف على معنى الإلصاق في اللغة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم فأدخلتُ فيه ما أخرِج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين". وفي رواية: "وأن ألصق بابه بالأرض".
جُرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعِيَته وهُشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وكان علي رضي الله عنه يختلف بالماء في المِجَن، فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته، فاستمسك الدم. وفي رواية: فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمَدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه.
قدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبيا فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.
"غزا نبي من الأنبياء، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله، فأبت أن تطْعَمه، فقال فيكم غلول، فلـْيبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصِقت يد رجل بيده، فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك، فبايعته، فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة، فقال فيكم الغلول".
وهذا يوضح معنى الالتصاق، ويشير إلى أنه اقتران شيء بشيء وانضمامه إليه دون فاصل بينهما.
المؤاخذة الثانية:
وقف الشيخ رحمه الله على كلام علماء النحو في أن حرف الباء للإلصاق وعلى مثال ذكروه وهو قولهم "مررت بزيد"، ووجد أن الذي يمر بزيد لا يُشترط فيه لصحة هذا القول أن يكون ملاصقا له بجسمه حال المرور به، وكأنه استنبط منه أن الإلصاق لا يُشترط فيه الملاصقة والانضمام بدون فاصل!، فقال: "ليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعري، ماذا يفهمون من قولهم الباء للإلصاق، ثم يمثلونه: مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟!".
وهذا خلل في فهم اللغة، لأن قولك "مررت بزيد" يعني التصاق المرور به، وليس التصاق المار به.
قال أبو الحسن ابن الوراق المتوفى سنة 381 في كتابه علل النحو: الباء للإلصاق، كقولك مررت بزيد، أي ألصقت مروري به.
المؤاخذة الثالثة:
إذا كان الشيخ قد فهم من حديث "أقيموا صفوفكم" الفهم الذي رآه فله ذلك، لكن كان عليه أن ينظر في طرق الحديث الأخرى، ومنها ما رواه البخاري من طريق آخر، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا صفوفكم، وتراصُّوا، فإني أراكم من وراء ظهري". تراصوا: انضموا وتلاصقوا.
وهذا يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم من إلصاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ليس مما فهموه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقيموا صفوفكم" فقط، بل من قوله كذلك "وتراصوا".
المؤاخذة الرابعة:
قال الشيخ في تأكيد عدم استحباب إلصاق المنكب بالمنكب: "وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا".
عزا الشيخ المعنى الذي فهمه من الحديث للفقهاء الأربعة، وأظنه يعني فقهاء المذاهب الأربعة، وهذا العزو غير صحيح، وهذه أقوال بعض علماء المذاهب الأربعة:
روى أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، سووا مناكبكم، تراصوا". ولم يعلق عليه بشيء.
وروى محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه كان يقول: "سووا صفوفكم، وسووا مناكبكم، تراصوا". قال محمد: وبه نأخذ، لا ينبغي أن يُترك الصف وفيه الخلل حتى يسووا، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مجد الدين ابن الأثير المتوفى سنة 606 في كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي بعد ذكر حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت عندنا، وبهذا نقول.
وقال الخطابي المتوفى سنة 388 في كتابه أعلام الحديث: قوله "تراصوا" معناه تدانوا وتضامُّوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، ومنه قول الله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وقال ابن بطال المتوفى سنة 449 في شرح صحيح البخاري بعد ذكر عدة روايات ومنها "كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه": هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام "تراصوا في الصف"، وهذه هيئة التراصِّ.
وقال الباجي المتوفى سنة 474 في المنتقى: تسوية الصفوف من هيئات الصلاة، وهو يتصل بمقام المأمومين من الإمام، فإذا كانوا عددا لزم فيهم إقامة الصفوف وهو تقويمها ونماؤها والتراص فيها.
وقال التوربشتي المتوفى سنة 661 في كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة: ومنه حديث "أقيموا صفوفكم وتراصوا": أي تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَج. الفُرْجة: انفتاح بين شيئين.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم "أقيموا الصف في الصلاة": أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه.
وقال مظهِر الدين حسين بن محمود الزيداني الحنفي المتوفى سنة 727 في كتابه المفاتيح في شرح المصابيح: قوله "أقيموا صفوفكم": أي سووا وأتموا صفوفكم، "وتراصوا": أي ليقرُبْ كلُّ واحد منكم بجنب صاحبه بحيث تتصل مناكبكم، تراصَّ الشيئان إذا انضما ولزق أحدهما بالآخر.
وقال العيني المتوفى سنة 855 في عمدة القاري: قوله "وتراصوا" معناه تضامُّوا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، وأصله من الرص، يقال رص البناءَ يرصه رصا إذا لصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص}.
وأما ابن حجر فخالف الجمهور في هذه المسألة، حيث أورد احتمالا في معنى "تراصوا" يخرجها عن المعنى اللغوي، فقال في فتح الباري: قوله "وتراصوا" بتشديد الصاد المهملة: أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمِل أن يكون تأكيدا لقوله "أقيموا"، والمراد بِ "أقيموا" سووا.
المؤاخذة الخامسة:
قول الشيخ "أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا" غريب جدا مصادم للأحاديث الصحيحة التي تأمر بالتقارب والتراص في الصلاة، وكأنه يرى استحباب المباعدة!، لكن لا لدرجة أن يترك المصلون بين كل اثنين فراغا يسع رجلا ثالثا بينهما!!.
شيء غريب جدا!.
كأن الشيخ يرى أن كل رجلين ممن خلف الإمام في الصلاة إذا اقتربا وتراصَّا وألصق كل واحد منهما منكبه بمنكب الآخر فصلاتهما مخالفة للسنة!، وأنهما إذا تباعدا بحيث لا يتركان بينهما فُرْجة تسع فيها رجلا ثالثا فصلاتهما غير مخالفة للسنة!، وهذا بخلاف ما ثبت في السنة وبخلاف ما كان يفعله الصحابة وبخلاف أقوال جمهور أهل العلم.
المؤاخذة السادسة:
قال الشيخ: "ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يؤخذ بالألفاظ، وليس الطريق أن يُبنى الدين على كل لفظ جديد بدون النظر إلى التعامل، ومن يفعل ذلك لا يثبت قدمه في موضع، فلا بد أن يُراعى مع الإسناد التعامل أيضا، فإن الشرع يدور على التعامل والتوارث".
أقول:
مراد الشيخ بلفظة التعامل هنا العمل، ولم يبين مرادَه: عمَلَ مَن يريد؟!، أيريد بالعمل عمل الصحابة والتابعين؟!، أو عمل الأئمة المجتهدين في عصور الاجتهاد؟!، أو عمل أئمة المذهب الحنفي؟!، أو عمل مشايخ الحنفية الذين أدركهم في أوائل القرن الرابع عشر الهجري؟!.
ثم إن العمل إذا كان مرويا عن الصحابة والتابعين بالسند فهذه الرواية لا يهملونها، وهي حديث موقوف أو مقطوع، وله مكانته في الاستنباط.
أما المسألة التي هي محل البحث هنا فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن الصحابة كان الواحد منهم يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه، فهل عمل الصحابة عنده مقبول أو لا؟!.
يبدو أن مثل هذا العمل عنده غير مقبول حتى ولو عمل به الإمام الشافعي رحمه الله وأيده كلام كثير من أهل العلم الذين تقدم ذكر بعضهم في المؤاخذة الرابعة، ومنهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة وقال إنه قول أبي حنيفة.
المؤاخذة السابعة:
قال الشيخ: "والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة".
أقول:
إلزاق المنكب بالمنكب يقع به التراص، وإلزاق القدم بالقدم يقع به ترك الفرجة، فكلام الشيخ هنا متناقض.
المؤاخذة الثامنة:
قال الشيخ: "ثم فكر في نفسك ولا تعجلْ أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضا، فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف".
أقول:
إذا فهمنا الحديث كما جاء في الحديث فهو أمر سهل جدا، ليس فيه سوى الاقتراب وترك الفرجة بين المصلي وبين جاره الذي هو من جهة الإمام، وإذا كان بعض من يدَّعون العمل بالحديث يشوهون صورة العمل به فلا يجوز أن يكون هذا مانعا من الأخذ به بالصورة السالمة من التشويه.
قوله "فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف" بعد ذكر إلزاق المنكب بالمنكب وإلزاق القدم بالقدم غير صحيح.
لا يجوز أن يُقال مثل هذا إلا عن الصورة المشوهة التي أحدثها بعض الناس.
من الصور المشوهة التي أحدثها بعض الناس أنهم لما وجدوا أن المصلي لا يمكنه أن يلزق منكبه بمنكب جاره من الجانبين جعلوا الاهتمام بإلزاق القدم بالقدم من الجانبين، فصار بعضهم يباعد بين قدميه مباعدة فاحشة ويلاحق جاريه من اليمين والشِمال لإلصاق القدم بالقدم!، بل والإلصاق الحقيقي لإلصاق الكعب بالكعب!، ويبدو أنهم لم يقرؤوا في كتب اللغة شيئا عن الإلصاق المجازي، ولو وقفوا عليه فربما كانوا ممن ينفون المجاز في لغة العرب!، وكثيرا ما يكون هذا مع الانشغال المتكرر بذلك في الصلاة.
ثم سرى هذا الحال إلى أن يتصور بعضهم أن السنة في قيام الإمام أو المنفرد للصلاة هي مباعدة القدمين عن بعضهما مباعدة شديدة تزيد عن مسافة ما بين منكبي الشخص!.
* ـ تلخيصا لما ينبغي فعله في هذه المسألة أقول:
يُسن للمصلي أن يلصق منكبه بمنكب جاره وقدمه بقدمه من كلا الجهتين، والذي أراه هو أن هذا لا يتحقق إلا إذا كان الآخرون حريصين على إقامة هذه السنة كذلك، فإن لم يكونوا حريصين فيُسن له أن يلصق منكبه بمنكب جاره من الجهة التي فيها الإمام وأن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، فإذا فعل الآخرون مثل ذلك اتصل الصف واستوى وسُدت الفُرج بين كل مصلٍّ وجاره.
أما المصلي الذي يكون خلف الإمام ولو إلى آخر الصفوف فينبغي له أن يقف كما يقف الإمام، أي أن تأخذ قدماه على الأرض مسافة مساوية للمسافة التي بين منكبيه، وأن تكون القدمان متجهتين للقبلة على سمْت المنكبين، لأنه هو المعيار، وعلى الآخرين من كلتا الجهتين أن يقتربوا إلى جهته، وليس هو الذي يقترب إلى جهتهم، ـ والله أعلم ـ.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 5/ 2/ 1440، الموافق 14/ 10/ 2018، والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

من التوجيهات النبوية للمصلين:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من
وراء ظهري". رواه البخاري ومسلم.
وفي إحدى روايات البخاري زيادة: قال أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب
صاحبه وقدمه بقدمه.
شيء من فقه الحديث:
هذا الحديث مع فعل الصحابة الذين حدثنا عنهم أنس رضي الله عنه يعني أن
من السنة في الصلاة أن تكون القدمان على سَمْت المنكبين، أي على مقابلة ومحاذاة
الكتفين، وأنَّ من المكروه مباعدةَ القدمين عن بعضهما أكثر أو أقل من ذلك.
كثير من المصلين اليوم مَن لا يلزق منكبه بمنكب صاحبه ولا قدمه بقدمه،
وكثير منهم يتباعد بالمنكبين ويلزق القدم بالقدم من الجانبين، فيحول هيئة الصلاة
عن وقارها.
إذا كان المصلي خلف الإمام بالضبط ـ في الصف الأول أو فيما يليه إلى آخر
الصفوف ـ فعليه أن يثبّت وقوفه خلف الإمام وقدماه على سَمْت منكبيه دون النظر
إلى مَن على يمينه أو يساره.
وإذا كان على ميمنة الصف فعليه أن يقترب إلى الجهة اليسرى، وهي التي
فيها الإمام، فيلزق منكبه بمنكب صاحبه الذي هو في جهة الإمام، ويجعل قدميه على
سَمْت منكبيه.
وإذا كان على ميسرة الصف فعليه أن يقترب إلى الجهة اليمنى، وهي التي
فيها الإمام، فيلزق منكبه بمنكب صاحبه الذي هو في جهة الإمام، ويجعل قدميه على
سَمْت منكبيه.
بعض الناس يباعد بين قدميه ـ سواء في صلاته منفردا وفي صلاته مع
الجماعة ـ ويبالغ في ذلك، وبعضهم يبالغ في ذلك مبالغة فاحشة، وهذا من البدع
المنكرة المكروهة، لكن لا يصح أن نقول هي بدعة ضلالة، فالمبتدعات لها مراتب
ودرجات.
وبعض الناس يلصق كتفه بكتف صاحبه ويقارب بين قدميه ولا يجعلهما على
مقابلة ومحاذاة الكتفين، وهذا خلاف الأَولى.