الأربعاء، 24 فبراير 2021

مَن جهل شيئا عاداه‎

نقل الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي المتوفى سنة 427 رحمه الله في تفسيره المسمى بالكشف والبيان عن تفسير القرآن عن الإمام أبي علي الحسين بن الفضل النيسابوري المتوفى سنة 283 رحمه الله أنه سئل: هل تجد في القرآن مَن جهل شيئا عاداه؟. فقال: "نعم، موضعين، قوله {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه}، وقوله {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}".  


أقول:  


الثعلبي لمن لا يعرفه قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: كان أوحدَ زمانه في علم القرآن. والحسين بن الفضل النيسابوري قال عنه الذهبي: إمام عصره في معاني القرآن. 


هذا المعنى القرآني غفَل عنه كثير من الناس، وغفَلوا عما هو المطلوب منا إذا عقلناه. 


قوله تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} خبر، وقوله تعالى {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} هو خبر كذلك، ونحن نصدق الله جل جلاله فيما أخبر، لكن الخبر قد يتضمن شيئا آخر غير الإخبار. 


المعنى المتضمَّن ـ والله أعلم ـ هو التحذير لنا من أن نكون كذلك، أي التحذير من أن نكون من الذين يكذِّبون بأي شيء لا يحيطون بعلمه، ومن أن نكون من الذين إذا لم يدركوا الاهتداء بشيء تعجلوا ونبزوه بأه إفك قديم!. 


ما المراد إذن؟: 


يرشدنا ربنا تبارك وتعالى إلى التدبر والتأني وعدم التسرع في الإنكار، وإلى أن الواجب علينا هو سلوك سبيل العلم والبحث عن الدليل، فما قام الدليل على صحته قبلناه وما قام الدليل على بطلانه أنكرناه وما لم نجد الدليل على صحته ولا على بطلانه سكتنا. 


الله علمنا جميعا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. 


 

الأربعاء، 3 فبراير 2021

الدخول على السلطان الصالح أو السلطان

 الدخول على السلطان الصالح أو السلطان الذي هو قابل للنصح وللمشي في طريق الصلاح والإصلاح هو من الفضائل، وفيه خير كبير.  

وقد روى مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة". قال: قلنا: لمن؟. قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".  

أما الدخول على السلطان البعيد عن طريق الصلاح والإصلاح فهذا ما حذر منه العلماء الصادقون، وخاصة إذا دخل عليه العالم لينال لديه حظا من الدنيا، من المال أو الوجاهة، لا للنصح والإصلاح.  

استشار أبو وائل شقيقُ بن سلمة علقمةَ بن قيس رحمهما الله في الدخول على عبيد الله بن زياد فقال له: "لن تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله".  

فأولئك الذين حذر السلف من الدخول عليهم.  

قال أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 رحمه الله: "الدخول على الأمراء والعمال الظلمة مذموم جدا في الشرع، وفيه تغليظات وتشديدات تواردتْ بها الأخبار والآثار، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم، ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم" 


أبو حامد الغزالي

قال أبو حامد:

أصل المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة، لأن مقصدهم معرفة الله تعالى، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله، ولا ضيق فيما عند الله تعالى، لأن أجلَّ ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه، وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيّق بعض الناظرين على بعض، فإذا قصد العلماء بالعلم المالَ والجاهَ تحاسدوا.

قلت: أي فلذلك لا يكون بين علماء الدين الحقيقيين محاسدة، ولا يقصد بكلمته هذه علماءَ الدين الذين ليس لهم منه حظ سوى الطلاء الخارجي.

الله إني أعوذ برضاك من سخطك يا رب العالمين.

•••••••••••••••••••••••••••••

قال أبو حامد:

المحسود ينتفع بحسدك أيها الحاسد في الدين والدنيا، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه، أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك، وتكون سببا في زيادة نعم الله عليه، إذ وفقك الله للحسنات فنقلتها إليه، فأضفتَ إليه نعمة إلى نعمة، وأضفتَ إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة، وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءةُ الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم، وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك، فإذا تأملتَ هذا عرفتَ أنك عدو نفسك، إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة، وصرت مذموما عند الخالق والخلائق، شقيا في الحال والمآل.

•••••••••••••••••••••••••••••

قال أبو حامد:

من أسباب حسد الحاسد حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود، وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلبَ عليه حبُّ الثناء واستفزه الفرح بما يُمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظيرٍ له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة، وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس.

قلت: حب الشهرة مثل حب الرياسة، والمقصود من قوله “العلماء” هنا: العلماء الذين يتعلمون العلم الشرعي للدنيا، لا للآخرة.

•••••••••••••••••••••••••••••

قال أبو حامد:

أسباب الحسد إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقدُ في قلبه، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه، ويكرهُ تمكنَه من النعمة التي توصله إلى أغراضه، فإذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصدَ تتناقض فيها أغراضهما، فيثور من التناقض التنافرُ والتباغضُ، ومنه تثور بقية أسباب الحسد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسْكاف يحسد الإسْكاف، وكذلك يحسد العالمُ العالمَ ولا يحسدُ الشجاعَ، ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب، لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص.

•••••••••••••••••••••••••••••