الاثنين، 28 مايو 2018

يجب على المسلم أن يصوم شهر رمضان

كتب أحد من يسمّون أنفسهم بالتنويريّين يقول : لا يجب على المسلم أن يصوم شهر رمضان ، هذا فقط من باب النافلة ، فبإمكانه أن يصوم وبإمكانه أن يدفع الفدية ، وهذا بالنسبة لكل مسلم سواءًا أكان صحيحًا أو مريضًا ، مسافرًا أو غير ذلك .

فسأل بعض الإخوة عن رأيي في ذلك فقلتُ :

هذا من الكفر الواضح البين
هذا زمان يصبح الرجل فيه مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا
يشكون ويشككون في أركان الإسلام وهي معلومة من الدين بالضرورة
هؤلاء يتبعون غير سبيل المؤمنين من لدن أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طبقة شيوخنا 
فأمثال هؤلاء ليسوا منهم

فعقّب بعض الإخوة بقوله : 
نحن نقول عن القول كفر 
وأما القائل فلعل له عذرا في الجهل والتاويل وموانع اخرى.
والحكم بردته من شان القاضي والحاكم المسلم.

فقلتُ :

الذي أراه ان الحكم على شخص بالردة له فرعان لا ينبغي أن نهمل التمييز بينهما
أحدهما الحكم من حيث الأحكام الفقهية في التعامل الفردي
فهذا لا علاقة للقاضي به
فإذا قال من كان مسلما كلاما كفريا قاصدا معناه فقد كفر وخرج من ملة الإسلام
فلا يجوز لي اذا مات على تلك الحال أن أصلي عليه صلاة الجنازة وأن أكون راضيا بدفنه في مقابر المسلمين وبجواز استمرار علاقته الزوجية مع الزوجة المسلمة وبجواز توريثه من قريبه المسلم
وكوني أفتي بهذا ولا يرضى قلبي بخلافه هو أمر لا علاقة للقاضي به
الفرع الثاني 
الأحكام الشرعية القضائية : وهذه تعود للقاضي المجتهد والمذهب الذي يترجح عنده في التعامل مع المرتد وهل المرتدون في هذا الباب صنف واحد او أصناف وما حكم كل منهما 
هذا لا علاقة لنا به
فمهمة المفتي شيء ومهمة القاضي شيء آخر.

الأربعاء، 23 مايو 2018

خواطر حول مقالة عنوانها "أكثر من 183 سَنَة مفقودة من الإسلام .. أين هي؟"

وصلتني اليوم مقالة بعنوان "أكثر من 183 سَنَة مفقودة من الإسلام .. أين هي؟"، فأود أن أدلي بدلوي بين الدلاء، عسى أن يكون في بعض ما أكتب شيئا مفيدا، فأقول:
الأخ المتسائل الكريم حفظكَ الله ورعاكَ
السلام عليكم ورحمة الله
تقول في مقالتك بأن هناك أكثر من 183 سَنَة غائبة في تاريخ تراثنا الإسلامي، وأنها حقبة زمنية مفقودة في تاريخ نقل الحديث النبوي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المحدثين الذين دونوا الأحاديث الشريفة في مصنفاتهم الحديثية، وأنه لا أحد يعلم عنها شيئا، وأن الإمام البخاري على سبيل المثال وُلد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ب 183 سَنَة، وتتساءل أين هي خطب الجمعة التي خطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وأن مصنفات البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه لا يُعتد بها وغير موثوق بها!!!.
أشكرك على ما بذلتَ من جهد في كتابة هذه المقالة وما جمعت من نبذ تاريخية حول الموضوع الذي تجشمت عناء كتابته.
أود أن تتقبل مني تسجيل بعض الملحوظات:
ـ أظن أنك تخاطب شريحة ما ممن يُقال عنهم علماء بالحديث الشريف والشريعة الإسلامية وهم من غير المتعمقين، وينبغي أن تُوجه لهم هذه التساؤلات ولمن يثقون بعلمهم وبحثهم ويقلدونهم فيه.
ـ لكن لعلماء الحديث منهجهم في معرفة صحة الحديث:
إذا وصلتني اليوم وثيقة قديمة وقيل فيها إنها بخط فلان ممن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أصحابه فهل هذا هو المطلوب عندك؟!.
أنا لا أعتمدها مصدرا بحال من الأحوال، لأنني لا أعرف حقيقةً مَن كتبها ونسبَها لمن عُزيت إليه، ولأنني لو عرفت الكاتب فأنا أخشى أن تكون قد عبثت بها يد أحد العابثين فزاد فيها ونقص، ولذا فهذا عندي غير مقبول.
الوثيقة المقبولة هي التي تداولتها أيدي الثقات من زمن كتابتها إلى أن تصل إلى من وصلت إليه.
ـ المقبول عند أهل الحديث المدققين هو النقل من كتاب له نسخة خطية موثقة أو أكثر بخط أحد العلماء أو النساخ المشهود لهم بالصدق والضبط وكان قد ذكَر إسناده إلى المؤلف وكان الإسناد صحيحا، أي أن يذكر لنا أنه تلقى هذه النسخة من فلانٍ وأن فلانا تلقاها من فلان وهكذا حتى يصل الإسناد إلى المؤلف، ولا بد من مراجعة تاريخ كل واحد من أولئك المذكورين في سند النسخة وأنه مشهود له بالتوثيق.
ومِن توثيق النسخة معرفةُ نوع الورق والحبر المستخدم وطريقة الكتابة، مما يعرفه المشتغلون بتحقيق المخطوطات.
ـ أمهات كتب الحديث المشهورة كصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم هي موثقة بهذه الطريقة العلمية، بحيث نعلم أن صحيح البخاري الموجود بأيدينا اليوم مثلا هو ما أملاه الإمام البخاري على طلابه، ومثله سائر الكتب التي نُقلت إلينا نقلا موثقا.
النقطة المهمة التي تأتي بعد هذه المرحلة هي التحقق من صحة الإسناد من المؤلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ ما هو الإسناد في تلك الكتب وكيف تتم دراسته؟:
كل حديثٍ حديثٍ في صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وغيرها من أمهات كتب الحديث له إسناده، فإذا ذكَر أي إمام من أولئك الأئمة حديثا دون إسناد وعزاه للنبي صلى الله عليه وسلم فنقول إنه علق الإسناد، فإسناده ضعيف، وذلك الحديث ضعيف الإسناد.
وإذا ذكَر المؤلفُ مَن حدثه بذلك الحديث والشيخَ الذي سمع شيخُه الحديثَ منه وهكذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنقول هذا سندُ الحديث، أي إن السند أو الإسناد هو تلك السلسلة التي مر الحديث عبر حلقاتها ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصنف، كالبخاري مثلا، ولا بد من دراسة إسناد كل حديث على حِدَة، لأن كل حديث قضية مستقلة وله ملفه الخاص به، فإذا تبين أن السند متصل دون انقطاع فيه وكان كل المذكورين فيه ثقات أي من أهل الصدق والضبط فنقول هذا إسناد صحيح بمعنى أنه ظاهره الصحة.
وعندنا فرْع من فروع دراسة الأسانيد هو علم علل الأسانيد، فقد يتبين أن السند ظاهره الصحة ولكن له علة تخفى على غير المتبحرين، وهنا نقول ظاهره الصحة ولكنه معلول، أي يغلب على الظن أن أحد الرواة المذكورين في السند قد وهِم وأخطأ في الرواية، والخطأ قد يعتري أي راو ثقة ـ مهما كان قوي الحفظ ـ ولو نادرا.
يأتي بعد ذلك المرحلةُ الأخيرة من الغربلة، وهي مقارنة رواية الراوي بنصوص القرآن الكريم ونصوص الحديث الشريف المتعددة والقرائن التاريخية الثابتة والأمور العلمية المقطوع بصحتها، فإذا وقفنا على رواية إسنادها ظاهره الصحة وليس معلولا وهي مخالفة لأيٍّ مما ذُكر حكمْنا عليها بالشذوذ.
ـ الرواة في سلسلة الإسناد كانوا يعتمدون غالبا على الحفظ، وأحيانا على الكتابة، وأحيانا يكتب الراوي ما يسمعه من شيوخه ويكرره ليحفظه فإذا حفظه محاه.
ليست قوة الحفظ التي نجدها عند معظم الناس اليوم تشبه القوة الحافظة التي كانوا يتمتعون بها، إذْ لم تخالط نفوسَهم مشاكل الحضارة المعاصرة وتشعباتها وتعقيداتها، وكانت لهم في قوة الحفظ قصص عجيبة.
والذي يقرب للأذهان ما بلغوه في ذلك هو أننا نشاهد اليوم تسجيلات بالصوت والصورة لأناس أعطاهم الله ذاكرة قوية مدهشة تفوق ما كان عليه السابقون إلى حد بعيد، بل قصص المعاصرين هي أغرب من الخيال.
فلمَ نصدق ما نشاهده اليوم ولا نصدق ما حُكي لنا عن الحفاظ من المحدثين والذي نشاهده اليوم هو أشد غرابة؟!.
ـ أستغربُ ممن لا يثق برجاحة عقل إنسان إلا إذا بلغ أربعين عاما، وكم من العلماء في القديم والحديث مَن بلغ رتبة علمية عالية وهو دون الأربعين.
البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه ليسوا من العرب، ولكنِ الإمامُ مسلمٌ عربي قشيري.
وقبلهم الإمام أحمد ابن حنبل المتوفى سنة 241 عربي، وغيره كثير.
وقبله الإمام مالك المتوفى سنة 179 عربي، وغيره كثير.
وقبله التابعون وفيهم الكثير الكثير من العرب، وقبلهم الصحابة والغالبية العظمى هم من العرب.
الإسلام دين لكل الناس، يتسابق في خدمته كل الأقوام والشعوب، وكان في الرواة العربي والفارسي والكردي والتركي والأرمني وغيرهم.
أستغربُ ممن يتوهم أن الحقبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب المصنفات الحديثية حقبة زمنية مفقودة لا يعلم أحد عنها شيئا!، بل هي حقبة زمنية معلومة كان فيها الكثير من المشتغلين بالعلم والحريصين على لقاء الرواة لسماع الحديث وتدوينه، لا يريدون من أحد جزاء ولا شكورا.
إمام دار الهجرة مالك بن أنس هو من أتباع التابعين، ولقي جماعة كبيرة من التابعين الذين سمعوا الأحاديث النبوية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصنَّف كتابه الموطأ الذي ما يزال موجودا حتى اليوم، وتلقاه عنه جماعة من الرواة وروَوْه لمَن بعدهم من المحدثين، وروى مالك أحاديث كثيرة سوى الأحاديث التي صنفها في الموطأ، وتلقاها عنه جماعة كبيرة من الرواة من مشارق الأرض ومغاربها، وقد أدرك البخاري ومسلم عددا من تلاميذ مالك.
وما مالكٌ إلا واحدا من أولئك الأئمة الأعلام الذين هم مِشعل فخر للإنسانية جمعاء، ومحل فخر واعتزاز حتى عند عدد من الدارسين والباحثين من غير المسلمين.
أستغربُ ممن يقول أين هي خطب الجمعة التي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها العقائد والشرائع والأحكام للناس؟!.
أليست الأحاديث الصحيحة المروية في كتب الحديث الشريف هي مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام في مجالسه وحلقاته وخُطَبه؟!.
أستغربُ ممن يقول أين كَتَبَة رسولنا عليه الصلاة والسلام؟ وأين ما كُتب ونُقل عن آل البيت عليهم السلام؟!، وأين ما كتبه صحابة رسولنا رضي الله عنهم؟!.
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن كتابة أحاديثه فترة من الزمن حتى تترسخ آيات القرآن العظيم في قلوبهم وصدورهم، ثم أذن بالكتابة لعدد من الصحابة، فكتبوا أشياء مما سمعوه منه، ونُقلت لنا عبر كتب الحديث.
كما نُقلت لنا في كتب الحديث أحاديث مروية من طريق آل البيت.
إذا كانت روايات آل البيت قليلة في كتب الحديث فليبرزها من دوَّنوها من الذين كانوا قريبين منهم إذا كانت موجودة عندهم بأسانيد صحيحة.
المحدثون الصادقون ألهمهم الله تبارك وتعالى أن يحرِصوا على جمع الحديث وتدوينه، فرحلوا في طلبه في البلدان للسماع من الشيوخ، ودوَّنوا مختارات كثيرة مما سمعوه منهم، وبذلوا في سبيل ذلك نفائس الأوقات والأعمار، بعيدين عن الملوك والحكام الأمويين والعباسيين وعمن يغشى مجالس السلطان، لا يعينُهم أحد، ولا يهتم بهم أحد، وهم لا يطلبون من أحد جزاء ولا شكورا.
لقد قدموا ما عندهم وضحَّوْا في سبيل ذلك بالغالي والرخيص.
كثير من المحدثين كانوا أهل رواية، أي يجمعون ويصنفون بكل دقة وأمانة، وليس لهم باع واسع في عملية النقد والتمحيص، أو لم يشتغلوا بذلك اشتغالا واضحا ظاهرا، منهم أبو داود الطيالسي المتوفى سنة 204 صاحب مسند الطيالسي، وابن ماجه المتوفى سنة 273 صاحب سنن ابن ماجه.
وكثير منهم كان لهم اشتغال واضح بالنقد والتمحيص، وكتبهم اليوم وكتب تلاميذهم التي دونت إجاباتهم على ما وُجه لهم من السؤالات شاهدة على ذلك، منهم الأئمة مالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان وأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني وغيرهم، على تفاوت بينهم في الرتبة.
الإمامان البخاري ومسلم التزما أن يرويا في صحيحيهما ما وقع عليه اختيارهما من الحديث مما رأيا صحة إسناده عندهما، ورويا بعض الروايات مع إشارات إلى وقوع بعض الخلل فيها، لأنهما صنفا كتابيهما لخاصة الخاصة من علماء الحديث، ومَن لا يدركون ذلك يظنون أن كل رواية فيهما يجب أن تكون صحيحة سندا ومتنا.
الجهد الذي بذله الإمامان البخاري ومسلم في تمحيص الروايات وطرُقها جهد كبير، ويجب ـ من باب الاعتراف بالجميل لمن عمِلَ وأحسنَ ـ أن يكون ما عملاه مُقدَّرا مشكورا.
لكن الجهد البشري مهما وصل فيه العالم إلى درجة عالية من الدقة فمن الممكن أن يعتريه شيء من الخطأ والنسيان، وعلماء الحديث الذين جاؤوا بعد الإمامين رحمهما الله في هذه المسألة على رأيين:
رأى كثير منهم أن الأحاديث المروية في هذين الكتابين أو في أحدهما كلها صحيحة ولا يمكن أن يُحكم على أي منها بالتضعيف.
ورأى كثيرون آخرون أن الأصل في تلك الأحاديث الصحة، وأن هذا لا يمنع من أن يكون فيهما ما دون ذلك، وأن العالم الذي له اجتهاد في هذا العلم من الممكن أن يضعِّف ما رأى أنه لا يصل إلى درجة الصحة، لكن بشرطين: التمكن من هذا العلم ومن كل ما يؤهله للخوض في غماره والبعد عن الهوى.
كتبُ الحديث التي صنفها الأئمة مالكٌ وابن أبي شيبة وابن حنبل والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم كلها كتب موثقة معتمدة، وكل حديث فيها هو مروي بالسند الذي وصل الحديث بواسطته من النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصنفي تلك الكتب، ويبقى بعد ذلك مساحة للنظر والدراسة في السند من المصنف إلى الصحابي الذي روى الحديث.
أقول بكل صدق وأمانة: إن المنهج الذي سلكه كبار الأئمة الأعلام من علماء الحديث في النقد والتمحيص هو على درجة عالية من الدقة والموضوعية يستحق أن يفتخر به الفكر الإسلامي والعربي والإنساني، وقد أثنى عليه وأكبرَه وأعجِب به عدد من الباحثين والمؤرخين من غير المسلمين.
التكفيريون الذين يقتلون الأبرياء ويستبيحون الحرمات ليس لهم ما يؤيدهم من النصوص الثابتة إذا فُهمت بالفهم السليم، إنما يستندون إلى بعض النصوص المقتطعة من سياقها فيستدلون بها بما لا دليل لهم فيه، فالمشكلة هنا هي الفهم السقيم واتباع الهوى، أو يستندون إلى نصوص غير ثابتة، والمشكلة هنا هي الجهل بمناهج الأئمة التي يُميز بها بين الصحيح الثابت وبين الضعيف المعلول.
فما ذنب النصوص إذن؟!، وما ذنب العلماء أصحاب المناهج الدقيقة في البحث والنقد والتمحيص؟!.
لا يفوتني أن أشير إلى أن بعض المنتسبين للعلم الشرعي يسلكون في بحوثهم منهجا غير دقيق في العلم، وهم غير قادرين على التغلب على الهوى، فربما يجد في بحوثهم أهلُ القتل والإجرام مستنَدا يسوِّغ لهم تنفيذ مخططاتهم البعيدة عن روح الدين وتعاليمه السمحة.
أسأل المولى تعالى أن يبصرنا بحقائق العلم النافع كما جاء به رسول المرحمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 6/ 9/ 1439، الموافق 22/ 5/ 2018، والحمد لله رب العالمين.



الثلاثاء، 22 مايو 2018

حديث "أليس قد صام بعده رمضان؟! فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض"


بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
رُوي هذا الحديث من رواية طلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وعبيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص مع ناس من الصحابة:
* ـ فأما حديث طلحة رضي الله عنه فرواه ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه ابن حنبل والبيهقي في الزهد وأبو يعلى والطحاوي في مشكل الآثار والشاشي من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟". أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
ورواه ابن حنبل من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة به مرسلا، لكن الرواية المرسلة لا تضر الرواية المروية عن أبي سلمة عن طلحة رضي الله عنه، لأنها جاءت من طريقين عنه عن طلحة.
[محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ثقة فيه لين مات سنة 120. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق فيه لين. أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مدني ثقة ولد سنة 22 أو بعدها ومات سنة 94 أو بعدها].
أبو سلمة لم يسمع من طلحة الذي مات سنة 36، ولم يسمع ممن مات من الصحابة بالمدينة سنة 42 أو سنة 45، فالسند منقطع، فهو ضعيف.
ـ ولهذا الحديث طريق آخر عن طلحة رواه الطحاوي في مشكل الآثار من طريق سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله. [سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ضعيف. أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بيض له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. سليمان بن عيسى بن موسى لم أجد له ترجمة. موسى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة ثقة مات سنة 104]. فهذا الطريق تالف.
ـ وله طريق آخر عن طلحة رواه البزارُ وأبو يعلى والشاشي من ثلاثة طرق عن عبد الله بن داود عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد عن طلحة بن عبيد الله به نحوه. [عبد الله بن داود بن عامر الخُريبي ثقة مات سنة 213. طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله مدني نزل الكوفة، صدوق فيه لين ولد سنة 61 ومات سنة 148. إبراهيم مولى آل طلحة مجهول. عبد الله بن شداد مدني تابعي ثقة ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات سنة 82]. فهذا الطريق شديد الضعف.
ورواه النسائي في الكبرى عن زكريا بن يحيى خياط السنة عن عثمان ابن أبي شيبة عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد عن طلحة، والحديث من هذا الطريق ظاهره أنه جيد، ولكنه معلول بعلتين:
إحداهما الإرسال، فقد رواه ابن أبي شيبة وابن حنبل عن وكيع، والنسائيُّ في الكبرى من طريق عيسى بن يونس، كلاهما عن طلحة بن يحيى عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد مرسلا.
الثانية أن طلحة بن يحيى روى هذا الحديث ـ في رواية أحد الثقات عنه ـ عن إبراهيم مولى لهم عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا مجهول، ورواه ـ في رواية ثقتين آخرين عنه ـ عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن شداد، وإبراهيم هذا ثقة، فمن أي الإبراهيمَين سمع طلحة هذا الحديث؟!، لا يمكن هنا ترجيح رواية من صرح بأنه إبراهيم بن محمد بن طلحة وتوهيم من قال هو إبراهيم مولى لهم، لأن مثل هذا ليس محلَّ توهم، وخاصة من ثقة متفق على توثيقه كعبد الله بن داود الخريبي، فهذا اضطراب شديد من طلحة بن يحيى يدل على غفلته وسوء حفظه. وهذا يؤكد ضعف هذه الرواية.
* ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن حنبل وابن أبي شيبة في المسند والبزار من طريق محمد بن بشر وزياد بن عبد الله، كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
ورواه الطحاوي في مشكل الآثار عن إبراهيم بن مرزوق وهو ثقة فيه لين عن سعيد بن عامر وهو ثقة فيه لين عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به مرسلا. والإرسال ليس مظِنة الخطأ.
محمد بن عمرو بن علقمة مدني صدوق فيه لين وخاصة في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذه منها، وروايته عن أبي سلمة هنا ضعيفة، لاضطرابه فيها، فقد تقدم أنه روى هذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، ورواه هنا مرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة عن أبي سلمة مرسلا، وهذا يعني أنه لم يضبط الإسناد في هذا الحديث، والصواب من هذه الروايات هو روايته لهذا الحديث عن أبي سلمة عن طلحة، لأنها موافقة لما رواه الراوي الثقة محمد بن إبراهيم التيمي، فظهر بهذا أن روايته إياه عن أبي هريرة ضعيفة.
* ـ وأما حديث عبيد بن خالد فرواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي وأبو داود في السنن وابن أبي خيثمة في تاريخه وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن رُبَيِّعة السلمي عن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقـُتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلـَّوْا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟!. قالوا: دعونا الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله وصيامه بعد صيامه؟!، لَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض".
[عمرو بن مرة كوفي ثقة مات سنة 118. عمرو بن ميمون الأودي كوفي ثقة مات سنة 74. عبد الله بن رُبيِّعة السلمي ذكره ابن حبان في الثقات في طبقة الصحابة وقال له صحبة، ثم أعاده في طبقة التابعين، ثم ذكر في طبقة التابعين عبد الله بن رُبَيِّعة الراوي عن عبيد بن خالد ولم يقل فيه السلمي، وهذا يعني أنه جازم بأن الراوي عن عبيد بن خالد ليست له صحبة]. عبد الله بن رُبَيِّعة لم أجد فيه سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، فهذا السند ضعيف.
* ـ وأما حديث سعد وناس من الصحابة فرواه ابن حنبل وابن خزيمة من طريق عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت سعدا وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عُمِّر الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضْل الأول على الآخر، فقال: " ألم يكن يصلي؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله وكان لا بأس به. فقال: "ما يدريكم ماذا بلغت به صلاته؟!". ثم قال عند ذلك: "إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمْرٍ عذبٍ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فماذا ترون يبقِي ذلك من درنه؟!". وذكره مالك في الموطأ أنه بلغه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه به.
[مخرمة بن بُكير بن عبد الله بن الأشج مدني مات سنة 159، وثقه ابن سعد وعلي بن المديني وأحمد بن صالح المصري، وقال ابن حنبل: ثقة إلا أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يُحتج بروايته من غير روايته عن أبيه لأنه لم يسمع من أبيه ما يروي عنه. وذكره في مشاهير علماء الأمصار وقال: مِن متقني أهل المدينة، في سماعه عن أبيه بعض النظر. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وقال يحيى بن معين في رواية الدوري عنه: ضعيف، ضعيف الحديث، ليس حديثه بشيء. وقال في رواية ابن محرز عنه: لا يُكتب حديثه. وذكره العُقيلي في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف، حديثه ليس بشيء. وذكره ابن شاهين في الضعفاء واقتصر على قول ابن معين فيه: ضعيف]. فهذا الإسناد ضعيف.
ثم إنه معلول، فقد روى ابن حنبل وعبد بن حميد وابن ماجه والبزار ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة وأبو العباس السراج في حديثه والطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في شعب الإيمان من طريق صالح بن عبد الله بن أبي فروة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيت لو كان بفِناء أحدكم نهر يجري يغتسل منه كل يوم خمس مرات ما كان يبقى من درنه؟!". قالوا: لا شيء. قال: "إن الصلوات تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن".
وهذا من إعلال أحد الحديثين المتشابهين إذا وقع في سنده تفرد في مقابلة الحديث الآخر منهما إذا رواه أكثر من واحد. [يُستحسن لمعرفة وجه الإعلال مراجعة المطلب الأول من النوع السابع من منهج الإمام البخاري في إعلال المرويات الحديثية].
* ـ خلاصة الأمر أن أسانيد هذا الحديث كلها ضعيفة، والحديث لا يرتقي بمجموع هذه الطرق لأنه شاذ منكر.
وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:
ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.
وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.
فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، وروايات هذا الحديث تفضل من لم يجاهد وعاش زيادة سنة وصلى وصام رمضان!، تفضله على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا من صاحبه الذي عاش بعده!.
ـ في هذه الروايات تفضيل من صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.
وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار العدد على معيار الجَوْدة من البذل والتضحية والإخلاص!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.
قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل تلك المعايير المنحرفة!، وإلى الله المشتكى.
* ـ لا شك في أن روايات هذا الحديث ضعيفة الأسانيد منكرة المتن، والله أعلم.
وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 5/ 9/ 1439، الموافق 20/ 5/ 2018، والحمد لله رب العالمين.