بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رب تمم بالخير، واختم لنا بالخير، بفضلك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
* ـ حديث “لا يعْدي شيء شيئا” رواه ابن حنبل [8343] والفريابي في كتاب القدر [214] ووكيع في كتاب أخبار القضاة من طرق عن عبد الله بن شبرمة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا يعْدي شيء شيئا”.
هذا الإسناد ظاهره الصحة، فمن نظر فيه مقتصرا على هذا الطريق ظن أنه صحيح فصححه!.
ولكنه معلول، فقد رواه ابن أبي شيبة في مسنده [339] وابن حنبل [4198] والترمذي [2143] وأبو يعلى [5182] وابن خزيمة ـ كما نقله ابن حجر في إتحاف المهرة ـ من طرق عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن رجل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل في الإسناد رجلا مبهما بين أبي زرعة بن عمرٍو وبين الصحابي.
وإثبات زيادة المبهم في الإسناد هنا هو الراجح، لأن الطريق الخالي من الزيادة ليس فيه تصريح بما يدل على السماع في موضع الزيادة.
ـ وبهذا الوجه من الإعلال أعله الإمام الكبير أبو حاتم الرازي رحمه الله، فقد قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل [2313]: سألت أبي عن حديث رواه ابن شبرمة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم “لا يعدي شيء شيئا”، فقال: [خالف ابنَ شبرمة ابنُ أخيه عمارةُ بنُ القعقاع فقال “عن أبي زرعة عن رجل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم”، وهو أشبه بالصواب].
ـ ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان [542] من طريق عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة به. عبيد الله بن أبي حميد ضعفه جماعة، وقال عنه البخاري: منكر الحديث.
* ـ ثم إن هذا الحديث “لا يعْدي شيء شيئا” منكر المتن، لمخالفته عددا من الأحاديث الصحيحة:
ـ روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها”. ورواه ابن حنبل عن سعد بن أبي وقاص عن النبي الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
الجزء الأول من هذا الحديث فسره بعض الشراح بما يؤول إلى أن النهي عن الدخول هو لأمر آخر غير العدوى!، وإذا كان هذا التأويل ممكنا فيه فإن النهي عن الخروج من الأرض إذا وقع فيها الوباء لا أرى له معنى سوى أنه صلى الله عليه وسلم أراد فرض الحجر الصحي، كي لا تقع العدوى ولينحصر الوباء ولا ينتشر.
ـ وروى البخاري من طريق سعيد بن ميناء أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى، ولا طِيَرة، ولا هامة، ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد”.
كلمة “لا” جاءت في هذا الحديث أربع مرات، وهي في هذه المواضع الأربعة للنفي.
قوله “لا عدوى” صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن حنبل وغيره كذلك عن جماعة من الصحابة عنه، لكن ليس المراد من هذه الكلمة نفيَ العدوى بإطلاق، بل نفي اعتقاد أهل الجاهلية في العدوى، فإنهم كانوا يعتقدون أن المريض ينتقل مرضه المعدي إلى السالم منه بنفسه لا بفعل الله عز وجل.
وتأويل الحديث بهذا المعنى لا بد منه، وذلك للقرائن التي تدل عليه، وهي الأحاديث النبوية الثابتة التي تشير إلى ثبوت العدوى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه “وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد”، وهو قرينة تصرف المعنى من الإطلاق إلى الوجه الذي ذكرته، ولا معنى للفرار من المجذوم كما يفر المرء من الأسد سوى خشية العدوى، ولو كان لغير ذلك لما جاء بهذه الصورة المخيفة.
ـ وروى مسلم عن الشريد بن سويد الثقفي أنه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم “إنا قد بايعناك فارجع”. أي إنه بايعه بالكلام ولا داعي لمصافحته عند البيعة.
ـ وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ”. وهذا نهي للمُمْرِض أن يُورِدَ إبله على المُصِحِّ.
قال أبو العباس القرطبي المتوفى سنة 656 رحمه الله في كتابه المفْهم: الورود هو الوصول إلى الماء، وأوردَ إبلَه إذا أوصلها إليه، فصاحب الإبل مُورِد، والإبل مُورَدة، ومُمْرِض: اسم فاعل من أمْرض الرجلُ، إذا أصاب ماشيتَه مرض، ومُصِحّ: اسم فاعل من أصَحَّ، إذا أصابت ماشيتَه عاهة ثم صحَّت.
* ـ قد يقال: روى ابن أبي شيبة وعبد بن حُميد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان من طريق مفضل بن فضالة عن حبيب بن شهيد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في قصعة فقال “كلْ بسم الله ثقة بالله وتوكلا على الله”، وفي هذا دلالة واضحة على نفي العدوى.
أقول: هذا حديث ضعيف الإسناد منكر المتن.
مفضل بن فضالة الذي في سنده هو بصري ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه توثيقا صريحا في صحيحه عند روايته لهذا الحديث!، وليَّنه سائر النقاد.
ومما يزيد ضعفَ الإسناد وَهاءً أنه معلول، فقد أعله الإمامان البخاري والترمذي رحمهما الله:
روى الترمذي هذا الحديث في كتاب العلل وسأل شيخَه الإمامَ البخاري عنه فأجابه بقوله: روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن عبد الله بن بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم. وقال الترمذي بعد تخريجه في كتاب السنن: هذا حديث غريب، وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم، وحديث شعبة أشبهُ عندي وأصح.
ونكارة متنه ظاهرة، إذ هو مخالف للأحاديث النبوية الثابتة التي تشير إلى ثبوت العدوى.
[وهذا الحديث ليس ثابتا كذلك عن عمر رضي الله عنه، لأن عبد الله بن بريدة لم يدرك عمر، وروايته عنه مرسلة، فالسند ضعيف].
* ـ قوله “فمَن أعدى الأول؟!” ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من طرق عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا عدوى ولا صفر ولا هامة”. فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟!. فقال صلى الله عليه وسلم: “فمَن أعدى الأول؟!”.
قوله هنا “فمَن أعدى الأول؟!” ليس فيه إبطال العدوى كذلك، إنما فيه إبطال ما كان يعتقده المشركون من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير خلق الله تعالى للعدوى وتقديره لها.
ووجه الرد على من يعتقد ذلك الاعتقاد من هذا الحديث هو أن القائل به يلزمه أن يقول بانتقال المرض المعدي عن طريق العدوى إلى مَن وصل إليه المرض من مريض قبله ووصولِه إلى ذلك المريض من مريض قبله وهكذا بالتسلسل إلى ما لا نهاية له في الماضي!، والتسلسل إلى ما لا نهاية له في الماضي باطل، فلا بد له من بداية بدأ عندها، والذي خلق ذلك المرض وقدَّره في المريض الأول هو الله جلَّ وعلا، فالذي خلقه وقدَّره في المرة الأولى هو الخالق له في المرات التالية.
* ـ قال ابن الصلاح الشهْرزوري المتوفى سنة 643 رحمه الله في كتابه معرفة أنواع علم الحديث: [حديث “لا عدوى” مع حديث “لا يورِدْ مُمْرِض على مُصِحٍّ” وحديث “فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد”: وجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ولكن الله تبارك وتعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضَه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأول نفى صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقده الجاهلي من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال “فمَن أعدى الأول؟!”، وفي الثاني أعْلمَ بأن الله سبحانه جعل ذلك سببا لذلك وحذر من الضرر الذي يغلب وجودُه عند وجوده بفعل الله سبحانه وتعالى].
وقال الإمام النووي المتوفى سنة 676 رحمه الله في شرح صحيح مسلم: [حديث “لا عدوى”: المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعْدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، فنفى العدوى بطبعها ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدَر الله تعالى وفعله].
* ـ الخلاصة:
حديث “لا يعْدي شيء شيئا” ضعيف الإسناد منكر المتن، ولا تجوز نسبته إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
* ـ تذييل:
مَن غلب على ظنه بقول الأطباء أنه أصيب بمرض معْدٍ فلا يجوز له أن يؤذي الأصحاء بالمخالطة التي هي مظِنة العدوى، ومن ذلك مخالطة الناس في صلاة الجمعة والجماعة، لأنه لا ضرر ولا ضرار، هذا إذا كان لا يمكنه حضور الصلاة إلا بالمخالطة التي فيها ضرر، فإن أمكنه حضور صلاة الجمعة وأداؤها وبينه وبين الناس مسافة يُؤمن معها عدم الإيذاء والإضرار وجب عليه حضورها في هذه الحالة مع مراعاة شرط عدم الإضرار بالناس.
اللهم ارفع الكرب والشدائد عنا وعن سائر عبادك المسلمين يا رب العالمين.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 4/ 7/ 1440، الموافق 28/ 2/ 2020، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.