هذه كلمات لا بد
منها في الجواب عن تعليقات أحد الإخوة:
* ـ الشيخ
الكشميري كلامه عن حديث إلصاق المنكب بالمنكب مخالف لكلام العلماء السابقين في هذه
المسألة وليس له عليه دليل، بل هو مخالف فيه للدليل، فقد قال فيها قولا لم أجد من
سبقه إليه، وذلك إذ قال: [قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد
خلله. قلت: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أنْ لا يترك في البين فرجة تسع فيها
ثالثا]. هذا نص كلامه بحروفه.
فهو يبين ـ حسب
رأيه ـ المرادَ من الحديث الذي يشرحه بأن المراد منه أن لا يترك المصلي بينه وبين
جاره في الصلاة فرجة تتسع لشخص ثالث!.
ـ علق الأخ
الكريم على كلام الشيخ هذا بقوله [أين في هذا الكلام للامام الكشميري انه يجب ان
تكون المناكب متباعدة؟ لعل الكاتب التبس عليه لفظ "في البين فرجة تسع فيها
ثالثا"، ألم يرد في الحديث صراحة أن لا تتركوا فرجات للشيطان؟ ألا يكون
الشيطان ثالثا إذا تركت الفرجة ولو قليلا؟].
أقول:
الكشميري كان
يتحدث عن الإنسان، وليس عن الشيطان، لأنه لا يغيب عنه أن الشيطان الذي يجري من ابن
آدم مجرى الدم لا يحتاج لفرجة تسع فيها ثالثا.
* ـ ثم قال الكشميري:
"الحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة
والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة".
وهذا تناقض، إذ
يشرح الحديث بأن المراد منه أن لا يترك المصلي بينه وبين جاره في الصلاة فرجة تتسع
لثالث!، ثم يشرحه بأن المراد منه هو التراصُّ وترك الفرجة!.
فإذا كان الشيخ
الكشميري يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم "لم يرد
بقوله إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة" ويدرك معنى التراص فهذا ينهي
الخلاف، لكنه يقول في صفحة واحدة القولَ ونقيضه!.
* ـ قال الأخ
المحاور: [لماذا التنازل الآن من تلاصق الكعوب وهو مذكور صراحة في رواية النعمان
بن بشير؟، وهل قال من قال بالصعوبة الا في الجمع بين الصاق الكعبين والصاق المناكب
في آن واحد؟، لقد كان أساس الطعن والتشنيع على الكشميري وابن حجر وغيرهم أنهم
تركوا وتجاهلوا كلام الراوي، وكلام النعمان بن بشير نقله الامام البخاري: رأيت
الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" فكيف تقول الآن "هذا اللفظ ليس في
الصحيحين وفي ثبوته نظر"؟!، فما نقله الامام البخاري وكان هو الى جانب قول
أنس أساس استدلالكم أصبح الآن ثبوته محل نظر عندكم؟].
أقول:
ـ قول الكاتب
"لماذا التنازل الآن من تلاصق الكعوب" يدل على أنه لم يقرأ كلامي الذي
يحاول أن يرد عليه، وإذا كان قد قرأه فعلا فلعلها قراءة سريعة جعلته لا يستوعب ما
فيه، فكلامه هذا غير صحيح البتة، وهو مجرد توهم، فلم أقل أصلا باستحباب تلاصق
الكعوب ثم تركته وتنازلت عنه!، وذلك لأنني لا أراه ولا أقول به، ولا أقول بثبوته
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ هذا اللفظ "قال النعمان
بن بشير رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" ليس مرويا في الصحيحين ولا في
أحدهما، أي ليس مرويا في واحد من الصحيحين رواية مسندة، وذكره البخاري تعليقا. [راجع في كتب علوم الحديث بحث تعليق الإسناد ومعلقات البخاري].
ـ قول القائل
"وهل قال من قال بالصعوبة الا في الجمع بين الصاق الكعبين والصاق المناكب في آن
واحد؟" شيء غريب، لأنه إذا كان ذلك كذلك فعليك أن تصب غضبك على من يقول به،
لا على من لا يقول به أصلا، وعليك أن تتجنب التوهمات التي تجرك إلى إلزام إنسان بقول
لا يقول به. والملتقى بين يدي أحكم الحاكمين.
ـ لم أطعن في
ابن حجر ولم أشنع عليه، وهذا بخلاف ما يقوله كاتب المقالة، ولا أدري لم يقحم ابنَ
حجر في مقالته عدة مرات بهذا المعنى؟!، كأنه يريد أن يقول للناس إنني طعنت فيه
وشنعت عليه!.
ـ قال الإمام
البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم
في الصف، وقال النعمان بن
بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه". ثم أتبعه بالرواية بإسناده عن أنس
بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من
وراء ظهري". وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه.
شتان بين ما يرويه البخاري في صحيحه بسنده وبين
ما يذكره تعليقا بدون إسناد.
حديث النعمان بن
بشير لم يروه البخاري في صحيحه، وإنما ذكره تعليقا، ورواه ابن حنبل وابن خزيمة
وابن حبان وعدد من أصحاب السنن، وراويه عن النعمان بن بشير ذكره ابن حبان في
الثقات، فهذا عندي لا يصل لدرجة الصحة وإن كان صحيحا على مذهب كثير من الناس، وذلك
لأن ابن حبان من المتساهلين في التوثيق.
لعلك تتساءل عن
سبب عدم تصحيح حديث الراوي الذي ذكره ابن حبان في الثقات، فإليك طرفا من الجواب:
قال الحافظ ابن
حجر رحمه الله في مقدمة لسان الميزان: "هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن
الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب،
والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات".
ـ ما نقله الإمام
البخاري من قول النعمان بن بشير إلى جانب رواية أنس ليس هذا أساسَ استدلالي البتة،
وأساس استدلالي هو رواية أنس، ولم أذكر قول النعمان بن بشير لا تصريحا ولا تلميحا،
لأنه ليس بثابت عنه، وهذا بخلاف ما يتوهمه القائل وينسبه إلي!!. والله حسيبه.
* ـ قال الأخ
المحاور عني: "ادعى ان الشيخ تجاهل ما قاله الراوي مع ان كلام الشيخ الذي
نقله للنقد ليس الا في شرح كلام الراوي في ضوء الأحاديث النبوية الثابتة، فهل يعرف
الكاتب ما معنى التجاهل؟".
أقول في بيان
معنى التجاهل وبيان السبب الداعي لقولي فيه هذه الكلمة:
ـ تجاهل فلان الشيءَ: تركه وأظهر أنه جاهل به وهو
ليس كذلك، هذا أصل معنى هذه الكلمة في لغة
العرب، ومن الممكن استعمالها في حقيقة أصل المعنى فيكون فاعل ذلك متعمدا لهذا
الفعل لا لأي سبب آخر، ومن الممكن استعمالها استعمالا مجازيا بحيث يكون فاعل ذلك
تاركا للشيء لسبب آخر جعله يرجح ترك الشيء على إظهاره.
لقد قلت في التعقبات
على كلام الشيخ الكشميري حول هذا الحديث: "تجاهلَ الشيخ سامحه الله ما نقله
الصحابي راوي الحديث من فعل الصحابة وما فهموه من الحديث".
الذي قصدته من
لفظة التجاهل عند الشيخ هنا هو المعنى الثاني، وذلك لأنني أستبعد استبعادا شديدا
أن يتجاهل أي عالم من علماء المسلمين نصا من النصوص الشرعية دون أن يكون لديه سبب يجعله
يرجح ترك ذلك النص على إظهاره، سواء أكان السبب وجيها أو غير ذلك.
ـ لكن ما السبب
الذي يدعو لأن تُقال عن الشيخ هذه الكلمة؟:
قال الشيخ
الكشميري في شرح هذا الحديث في بيان عمل الأمة في مسألة إلصاق المنكب بالمنكب
والقدم بالقدم: [بقي الفصل بين الرِجلين: ففي شرح الوقاية
أنه يفصل بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قول آخر: قدر شبر. قلت:
ولم أجد عند السلف فرقا بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بأن كانوا يفصلون
بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، ثم إن الأمر لا ينفصل قط إلا
بالتعامل، والحاصل أنا لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة
والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله إلزاق المنكب إلا التراصَّ وترك الفرجة، وتلخص
أن الصف بين القدمين سنة لا غير، لأنهم لا يذكرون ولا يتعرضون إلى غيره، فحسْبهم
قدوة].
أما قول أنس بن مالك "وكان أحدنا يلزق منكبه
بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه" وهو الذي رواه البخاري بإسناده والذي كان الكشميري
بصدد شرحه فإنه لم يذكره خلال شرح الحديث، ولم يشر إليه في مسألة ما جرى عليه
العمل مطلقا، وكأن العمل الذي كان يعمله الصحابة حالة اقتدائهم برسول الله صلى
الله عليه وسلم ينبغي أن لا يُذكر عند الكلام عن عمل الأمة!.
فهذا ما دعاني
لقول هذه الكلمة عن الشيخ إذ وصفته بأنه تجاهلَ ما نقله الصحابي راوي الحديث من
فعل الصحابة وما فهموه من الحديث.
ـ بقيت أشياء
ينبغي التعليق عليها لكن أكتفي بهذا، وأظن أنه يكفي لمن يقرأ ويعيد القراءة بتدبر.
ـ مسألة إلصاق
المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصلاة هي هيئة مستحبة من هيئات الصلاة، ليست من الفرائض
ولا الواجبات، ولا من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان.
كتبتُ وأكتب هذه
الحوارات في الوقت الذي يتفلت فيه كثير من أبناء المسلمين من دينهم ويخرجون من
إيمانهم جماعات جماعات!.
كان ينبغي بذل
الجهد الأكبر في بيان حقائق الإيمان والدفاع بالأدلة العلمية عن حقائق هذا الدين.
لكن عندما يرى
الإنسان بعض المنتسبين للعلم الشرعي يقدسون مشايخهم ويتعاملون مع كلامهم كأنهم في
مقام العصمة فالواجب البيان وعدم السكوت، وهذه معركة لا بد منها لأسباب: من أهمها
صيانة منهج التفكير من أن يتطرق إليه الخلل.
كثيرون من طلاب
العلم يعلمون أن مَن دون الأنبياء ليسوا معصومين عن الخطأ ولكنهم ـ عند التعامل مع
كلامهم ـ يجعلونه في مقام العصمة والتقديس!.
* ـ أما ما قاله
الكاتب عني فلا أقول له سوى أن محكمة الجزاء أمامك يوم العرض الأكبر عند مليك
مقتدر.
* ـ وكتبه صلاح
الدين بن أحمد الإدلبي في 1/ 4/ 1440، الموافق 8/ 12/ 2018، والحمد لله رب
العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.