الأربعاء، 14 أغسطس 2024

حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه"

* ـ هذا الحديث مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجموعة من الصحابة ومن طريق زيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص وبريدة بن الحصيب وأبي أيوب الأنصاري والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله وغيرهم.

* ـ فأما حديث المجموعة من الصحابة فهو مروي عنهم من طريق سعيد بن وهب وزاذان وأبي الطفيل:

ـ رواه ابن حنبل [23107] والنَسائيُّ في السنن الكبرى [8417] والآجري في كتاب الشريعة [1541] عن محمد بن جعفر عن شعبة، والنَسائيُّ في السنن الكبرى [8418] عن علي بن محمد بن علي عن خلف بن تميم عن إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق السَبيعي أنه قال: سمعت سعيد بن وهب قال: نَشَدَ عليٌّ الناس، فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». نَشَدَ عليٌّ الناس: أي طلبَ من الناس.

[محمد بن جعفر بصري ثقة مات سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وعلي بن محمد بن علي المصيصي ثقة. خلف بن تميم كوفي صدوق ثقة مات سنة 213. إسرائيل بن يونس كوفي ثقة مات سنة 161. أبو إسحاق السَبيعي عمرو بن عبد الله كوفي ثقة اختلط بآخره، وقد يدلس الإسناد، مات سنة 127. سعيد بن وهب كوفي ثقة مات سنة 75]. شعبة هو ممن أخذ عن أبي إسحاق قبل اختلاطه، وقد اعتمد الشيخان في صحيحيهما على روايته عنه في عشرات المواضع، وصرَّح أبو إسحاق بالسماع في الروايتين كلتيهما، فهذا الطريق صحيح.

ورواه ابن أبي شيبة [32754 مع استدراك اسم سعيد بن وهب من طبعة مكتبة الرشد برقم 32091] عن شريك بن عبد الله النخعي، ورواه عبدُ الله بن أحمد في زوائد المسند [950] والبزار [4299] عن علي بن حكيم الأودي عن شريك، عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب وزيد بن يُثيع به. [علي بن حكيم الأودي كوفي صدوق ثقة مات سنة 231. شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق ثم تغير حفظه، مات سنة 177. زيد بن يُثيع لا بأس به]. وفي هذه المتابعات مزيد توثيق لثبوت هذه الرواية.

ـ ورواه ابن حنبل [641] وفي فضائل الصحابة [991] عن عبد الله بن نُمير، وابنُ أبي عاصم في كتاب السنة [1372] عن عمار بن خالد عن إسحاق الأزرق، كلاهما عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي عبد الرحيم الكندي عن زاذان أبي عمر أنه قال: سمعت عليا في الرحبة وهو يَنْشُد الناس مَن شهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟، فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[عبد الله بن نُمير كوفي ثقة مات سنة 199. وعمار بن خالد واسطي صدوق ثقة مات سنة 260. إسحاق بن يوسف الأزرق واسطي صدوق ثقة مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145. أبو عبد الرحيم الكندي يظهر لي أنه حبيب بن يسار الكندي، وهذا كوفي ثقة. زاذان أبو عمر الكندي كوفي ثقة فيه لين مات سنة 82]. فهذا إسناد جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن حنبل [19302] والنسائي في الكبرى [8424] والطحاوي في مشكل الآثار [1762] وابن حبان في صحيحه [6931] من خمسة طرق عن فِطْر بن خليفة عن أبي الطفيل أنه قال: جمع عليٌّ رضي الله عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كلَّ امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ما سمع لـَمَا قام. فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟». قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «من كنت مولاه فهذا مولاه». قال أبو الطفيل: فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئا، فلقيتُ زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت عليا يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر؟!، قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.

[فِطْر بن خليفة كوفي ثقة فيه لين مات سنة 155. أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110]. فهذا إسناد جيد في المتابعات.

فحديث جماعة من الصحابة في هذا ثابت عنهم بثلاثة أسانيد، أحدها صحيح والآخران جيدان.

* ـ وأما حديث زيد بن أرقم فهو مروي عنه من طريق أبي الطفيل وأبي الضحى وعطية بن سعد العوفي وميمون أبي عبد الله:

ـ رواه ابن أبي عاصم في السنة [1365] والبزار [4298] والطحاوي في مشكل الآثار [1765] عن أبي موسى محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن سليمان الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه البزار [4300] والطبراني في الكبير [4970] من طرق عن شريك بن عبد الله النخعي عن الأعمش به.

[محمد بن المثنى بصري ثقة مات سنة 252. يحيى بن حماد بصري ثقة مات سنة 215. أبو عوانة الوضاح بن عبد الله واسطي ثقة فيه لين، مات سنة 175. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 148. حبيب بن أبي ثابت كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 119. أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن أبي عاصم في السنة [1371] عن أبي مسعود عن عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله، والطبرانيُّ في الكبير [4983] عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن إسماعيل بن موسى السدي عن علي بن عابس، كلاهما عن الحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى عن زيد بن أرقم مرفوعا به.

[أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي ثقة فيه لين مات سنة 258. عمرو بن عون الواسطي البصري ثقة مات سنة 225. خالد بن عبد الله الواسطي ثقة مات سنة 182. ومحمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة 297. إسماعيل بن موسى السُدِّي كوفي صدوق مات سنة 245. علي بن عابس كوفي ضعيف. الحسن بن عبيد الله النخعي كوفي ثقة مات سنة 139. أبو الضحى مسلم بن صُبيح كوفي ثقة مات سنة 100]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن حنبل [19279] وفي فضائل الصحابة [992] عن عبد الله بن نُمير، والطبرانيُّ في الكبير [5069] والآجُرِّي [1522] من طريق عَثَّام بن علي، والطبرانيُّ في الكبير [5070] من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق، ثلاثتهم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية العَوْفي عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه الطبراني في الكبير [5071] عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن فضيل بن مرزوق عن عطية به.

[عبد الله بن نمير كوفي ثقة مات سنة 199. وعَثَّام بن علي كوفي صدوق ثقة مات سنة 195. وإسحاق بن يوسف الأزرق واسطي ثقة فيه لين مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145. محمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة 297. أبو كريب محمد بن العلاء كوفي صدوق ثقة مات سنة 248. مصعب بن المقدام كوفي صدوق فيه لين مات سنة 203. فضيل بن مرزوق كوفي صدوق فيه لين مات سنة 160 تقريبا. عطية بن سعد بن جُنادة العَوْفي كوفي لين مات سنة 111]. فهذا الطريق لين.

ـ ورواه ابن حنبل [19328] والآجري [1520] عن محمد بن جعفر عن شعبة عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه النسائيُّ في الكبرى [8415] عن قتيبة بن سعيد عن محمد بن أبي عدي، وابنُ أبي عاصم في السنة [1362] عن نصر بن علي عن عبد الأعلى، كلاهما عن عوف عن ميمون أبي عبد الله به.

[محمد بن جعفر الهذلي بصري ثقة مات سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وقتيبة بن سعيد بلخي ثقة مات سنة 240. محمد بن إبراهيم بن أبي عدي بصري ثقة مات سنة 194. ونصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250. عبد الأعلى بن عبد الأعلى بصري ثقة فيه لين مات سنة 189. عوف بن أبي جميلة بصري ثقة مات سنة 146. ميمون أبو عبد الله بصري ضعيف]. فهذا الطريق ضعيف. والحديث عن زيد بن أرقم صحيح بمجموع هذه الطرق.

* ـ ملحوظة:

روى ابن حنبل هذا الحديث في فضائل الصحابة [959] والترمذي [3713] والطبراني في الكبير [3049] عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كُهيل عن أبي الطفيل عن أبي سَريحة أو زيد بن أرقم مرفوعا به. وجاء عند ابن حنبل والترمذي أن شعبة هو الشاكُّ في اسم الصحابي. [أبو سَريحة صحابي اسمه حذيفة بن أَسيد].

قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه".

وإذا جاءت الرواية على الشك فلا يصح الترجيح دون قرينة، وحيث إن هذا الحديث ثابت من رواية زيد بن أرقم فالظاهر أنه من روايته هو كذلك، والله أعلم.

* ـ وأما حديث سعد بن أبي وقاص فهو مروي عنه من طريق بُريدة وربيعة بن عمرو الجُرَشي وعائشة بنت سعد وعبد الرحمن بن سابط:

ـ رواه ابن أبي عاصم في السنة [1359] عن محمد بن يحيى، والنسائيُّ في السنن الكبرى [8414] عن زكريا بن يحيى عن نصر بن علي، كلاهما عن عبد الله بن داود عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن بُريدة عن سعد مرفوعا به.

[محمد بن يحيى بن عبد الكريم بصري ثقة مات سنة 252. وزكريا بن يحيى السجزي ثقة مات سنة 289. نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250 عبد الله بن داود الخُرَيبي كوفي سكن البصرة ثقة، مات سنة 213. عبد الواحد بن أيمن المخزومي مكي صدوق. والده أيمن المخزومي مكي صدوق]. فهذا إسناد جيد.

ملحوظة: جاء في السند عند ابن أبي عاصم هنا "عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جده"، وكلمة "عن جده" هي خطأ ظاهر، إذ ليس لوالد عبد الواحد رواية عن أبيه، فهذه اللفظة مقحمة في السند وليست منه، وسقط في السند عند النسائي ذكْر بريدة.

ـ ورواه النسائي في الكبرى [8427] والطحاوي في مشكل الآثار [1766] عن زكريا بن يحيى السجزي، والضياءُ المقدسي في الأحاديث المختارة [1014] من طريق إسحاق بن أحمد الخزاعي، كلاهما عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني عن يعقوب بن جعفر بن أبي كثير عن مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن سعد مرفوعا به.

ورواه البزار [1203] عن هلال بن بشر، والطحاويُّ في مشكل الآثار [1768] عن أحمد بن شعيب عن أحمد بن عثمان البصري، كلاهما عن محمد بن خالد ابن عَثْمة عن موسى بن يعقوب عن مهاجِر بن مسمار به.

[زكريا بن يحيى السجزي نزيل دمشق ثقة مات سنة 289. وإسحاق بن أحمد الخزاعي مكي وثقه الذهبي في سير أعلام النبلاء، مات سنة 308. محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة صدوق مات سنة 243. يعقوب بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري مدني من رواة القراءات القرآنية، روى القراءة عن نافع بن أبي نُعيم، مات قرابة سنة 195].

[هلال بن بشر بصري ثقة مات سنة 246. وأحمد بن شعيب هو الإمام النسائي الثقة الحافظ المتوفى سنة 303. أحمد بن عثمان بن أبي عثمان بصري ثقة مات سنة 246. محمد بن خالد بن عَثْمة بصري صدوق فيه لين. موسى بن يعقوب الزَمْعِي مدني صدوق فيه لين].

[مهاجِر بن مسمار مدني ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له مسلم في صحيحه حديثين، وقال ابن سعد ليس بذاك. عائشة بنت سعد بن أبي وقاص وثقها العجلي وذكرها ابن حبان في الثقات]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن أبي عاصم في السنة [1386] والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة [1093] عن ابن كاسب عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ربيعة الجُرَشي عن سعد مرفوعا به. [يعقوب بن حُميد بن كاسب مدني ثم سكن مكة، صدوق فيه لين مات سنة 141. سفيان بن عيينة كوفي ثم مكي ثقة مات سنة 198. عبد الله بن أبي نَجيح مكي ثقة مات سنة 131. يسار أبو نجيح مكي ثقة مات سنة 109. ربيعة بن عمرو الجرشي دمشقي صدوق مات سنة 64]. فهذا الطريق لين.

ـ ورواه ابن أبي شيبة [32741] وابن ماجه [121] وابن أبي عاصم في السنة [1387] عن أبي معاوية محمد بن خازم، والنسائي في الكبرى [8343] عن حَرَمي بن يونس بن محمد عن أبي غسان عن عبد السلام، كلاهما عن موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير عن عبد الرحمن بن سابط عن سعد مرفوعا به. [أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة فيه لين مات سنة 195. وحَرَمي بن يونس بن محمد اسمه إبراهيم بن يونس بن محمد، بغدادي صدوق. أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي كوفي ثقة مات سنة 217. عبد السلام بن حرب كوفي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 187. موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير كوفي صدوق. عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط مكي ثقة قد يرسل الإسناد، ولم يسمع من سعد، مات سنة 118]. فهذا الطريق منقطع الإسناد، فهو ضعيف.

طرق هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص: أحدها جيد، والثاني جيد في المتابعات، والثالث لين، والرابع ضعيف، فالإسناد بمجموع هذه الطرق صحيح.

* ـ وأما حديث بُريدة بن الحُصَيب فرواه ابن حنبل [22945] وفي فضائل الصحابة [989] وابن أبي شيبة [32795] والنسائي في الكبرى [8089، 8413] عن الفضل بن دُكَين، والبزارُ [4352] والنسائي في الكبرى [8412] وابن أبي عاصم في كتاب الآحاد والمثاني [2358] والآجري [1513، 1514] من طريقين عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، كلاهما عن عبد الملك بن حُميد بن أبي غنية عن الحكم بن عُتَيبة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن بريدة أنه قال: غزوتُ مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليا فتنقصْته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال: «يا بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!». قلت: بلى يا رسول الله. فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[الفضل بن دكين كوفي ثقة مات سنة 218. وأبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير كوفي ثقة مات سنة 203. عبد الملك بن حُميد بن أبي غنية كوفي ثقة. الحكم بن عتيبة كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 115. سعيد بن جبير كوفي ثقة مات سنة 95]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة [1354] عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[أبو بكر بن أبي شيبة كوفي ثقة مات سنة 235. أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة مات سنة 195. وكيع بن الجراح كوفي ثقة مات سنة 197. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 148. سعد بن عُبيدة كوفي ثقة. عبد الله بن بريدة مروزي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 115]. فهذا الطريق جيد في المتابعات. والحديث عن بريدة صحيح بمجموع الطريقين.

* ـ وأما حديث أبي أيوب الأنصاري فرواه ابن أبي شيبة [32736] وابن أبي عاصم في السنة [1355] والطبراني في المعجم الكبير [4052، 4053] والآجري في الشريعة [1517] عن شريك بن عبد الله النخعي، وابنُ حنبل [23563] عن يحيى بن آدم، كلاهما عن حَنَش بن الحارث عن رِيَاح بن الحارث عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا به.

[شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق ثم تغير حفظه، مات سنة 177. ويحيى بن آدم كوفي ثقة مات سنة 203. حنش بن الحارث كوفي صدوق ثقة. رياح بن الحارث كوفي ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي والذهبي وابن حجر]. فهذا إسناد جيد.

* ـ وأما حديث البراء بن عازب فرواه ابن حنبل [18479] وفي فضائل الصحابة [1016] وابن أبي شيبة [32781] وابن ماجه [116] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1363] والآجري في كتاب الشريعة [1524] من طرق، عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب مرفوعا به. وعند ابن أبي عاصم "حماد بن سلمة عن علي بن زيد وأبي هارون"، ولفظ الحديث عنده "هذا مولى من أنا مولاه"، أو "ولي مَن أنا مولاه".

[علي بن زيد ابن جُدعان بصري ضعيف مات سنة 131. وأبو هارون: يحتمِل أن يكون هو العبديَّ أو الغنويَّ، وقد روى حماد بن سلمة عن كل منهما، وهو بصري وهما بصريان، فأما أبو هارون العبدي فهو متروك الحديث متهم بالكذب، وأما أبو هارون الغنوي فهو ثقة، وإذا كان الاحتمال قائما بين أمرين فالاحتياط يوجب البناء على الأقل، وهو هنا أبو هارون العبدي المتهم. عدي بن ثابت كوفي ثقة مات سنة 116. البراء بن عازب مات سنة 72 بالكوفة]. فهذا الإسناد ضعيف.

* ـ وأما حديث جابر بن عبد الله فرواه ابن أبي شيبة [32735] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1356] والآجري [1518، 1519] من طريقين عن عبد الله بن محمد بن عَقيل عن جابر مرفوعا به. [عبد الله بن محمد بن عقيل مدني ضعيف مات سنة 142]. فهذا الإسناد ضعيف.

* ـ خلاصة البحث:

حديث "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه" مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد كثيرة عن عدد من الصحابة، ذكرتُ منها في هذا البحث أربعة أسانيد صحيحة، وإسنادا جيدا، وإسنادين ضعيفين، فلا شك في أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه في درجة عالية من درجات الصحة.

وفي ختام هذا المبحث أسأل الله تعالى القبول، وأن يوفقنا لدراسة تاريخنا في ضوء المرويات الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في السادس من صفر 1446، الموافق 10/ 8/ 2024، والحمد لله رب العالمين.

***

  

الأربعاء، 7 يونيو 2023

ملخص عن حديث مقدار عمر السيدة عائشة رضي الله عنها وقت الزواج

 

 

روتْ عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وسنها ست سنوات وتزوجها وسنها تسع سنوات، وهذا النص إذا نظرنا إليه من حيث الزوجةُ فهو رواية تاريخية في مقدار سنها يوم زواجها، ولا يعْدو أن يكون شأنا من شؤون الأسرة، لكن إذا نظرنا إليه من حيث الزوجُ النبي الأكرم خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فهو حديث من الأحاديث الفعلية، وينبغي الاهتمام به لأنه إن ثبت أو لم يثبت فسيكون فيه مجال للدراسات التي تستنبط وتستلهم الدروس والعبر من سيرة هذا الرسول العظيم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.

تساؤل:

متى وُلدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟، وكم كان عمرها يوم العقد ويوم الزواج؟:

القول الأول الذي تشير إليه القرائن التاريخية هو أنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، وتمَّ عقد زواجها بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، أي بعد عشر سنوات من البعثة، وهذا قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين، وتمَّ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في أواخر السنة الأولى بعد الهجرة، أي كان عمرها أربع عشرة سنة يوم العقد وثماني عشرة سنة تقريبا يوم الزواج، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 75 عاما.

القول الثاني هو الذي قالته عائشة رضي الله عنها، وهو القول المشهور، وهو أنها كانت بنت ست سنين يوم العقد عليها وبنت تسع سنين يوم الزواج، أي إنها وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 67 عاما.

* ـ القرائن التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها:

1 ـ عائشة أصغر من أختها أسماء رضي الله عنهما بعشر سنين، وقد وُلدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، أي قبل البعثة النبوية بأربع عشرة سنة، وهذا يعني أن عائشة ولدت قبل البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إن العقد عليها كان قبل الهجرة بثلاث سنوات ـ أي بعد البعثة بعشر سنوات ـ فهذا يعني أنها كانت وقت العقد في الرابعة عشرة من العمر.

2 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعبُ {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ}".

ذكر عدد من المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل الهجرة بخمس سنين وبعد البعثة بثمان، والجارية في أصل معناها عند العرب: هي الفـَتِـيَّة من النساء، أي الشابّة في أوائل شبابها.

إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمرها وقت نزول هذه الآية أربع سنوات، وهذا بعيد عن أصل المعنى اللغوي لكلمة الجارية، وإذا كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمُرها وقت نزول هذه الآية كان ثنتي عشرة سنة، وهذا هو المنسجم مع أصل معنى الجارية في اللغة.

3 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة، ...". الحديثَ.

وجه الدلالة من هذه الرواية أمران:

أولهما أن الطفل لا يدرك في العادة تديُّنَ والديه بدين مغاير لدين أكثر الناس مِن حوله قبل سن الرابعة على الأقل، ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة وكان أول وعيها بما حولها في السنة الثامنة بعد البعثة لكان قولها "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين" تحصيلَ حاصل غيرَ ذي فائدة، لأن أبا بكر معلومٌ سبْقه إلى الإسلام، وأم رومان أسلمت بمكة قديما كذلك.

لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات وكان أول وعيها بما حولها في السنة الأولى من البعثة فيكون لهذا القول فائدة، هي أنها ـ أولَ ما بدأت تعي ما حولها ـ رأت والديها كليهما يدينان بدين الإسلام، وليس والدَها فقط، وهذا يعني أن ولادتها كانت قبل البعثة بنحو أربع سنوات.

وثانيهما أن قولها "فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة" معطوفًا على إدراكها لأبويها وهما يدينان الدين فيه إشارة خفيفة إلى أنها كانت إذ ذاك واعية لهذا الحدث، وخروجُ الصحابة من مكة للهجرة قِبَل الحبشة كان في أواسط السنة الخامسة من البعثة، وهجرتهم الثانية إليها في أواخر الخامسة أو أوائل السادسة.

ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة لما كان ممكنا لها أن تدرك ما حدث في أوائل السادسة، لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني إمكان إدراكها لذلك بوضوح.

4 ـ ذكر محمد بن إسحاق في السيرة النبوية أسماء أوائل من أسلموا، وذكر منهم "أسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة"، ونقله عن ابن إسحاق جماعةٌ من أهل العلم دون إنكار.

إذا كانت عائشة مذكورة مع أوائل من أسلموا فهذا ينفي أنها وُلدت بعد البعثة بأربع سنين ويؤكد أنها قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنين على أقل تقدير.

5 ـ ذكرَ الطبري في كتاب التاريخ أن أبا بكر رضي الله عنه تزوج زوجتيه في الجاهلية، وأن أولاده الأربعة ومنهم عائشة وُلدوا في الجاهلية، أي وُلدوا قبل البعثة. وهذا نص تاريخي واضح صريح في أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية.

6 ـ روت عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم عرضتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخطِب له بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها إما عائشة وإما سَودة بنت زمعة.

من المستبعد جدا أن تفكر خولة بخطبة مَن لها مِن العمر ست سنوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصبح بدون زوجة بعد وفاة السيدة خديجة ليكون الزواج بعد ذلك بسنوات!. لكن إذا كانت بنتَ أربع عشرة سنة فهذا معقول.

7 ـ قالت عائشة رضي الله عنها في مسألة من المسائل: "ما عِلـْمُ أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، وإنما كانا غلامين صغيرين". تشير بذلك إلى أنها هي أكثر منهما وعيا للأحداث لكونهما كانا صغيرين.

وُلد أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك قبل الهجرة بعشر سنين، فهي على القول المشهور أصغر من هذين الصحابيين بسنة، فلا يستقيم إذا كانت أصغر منهما سنا أن تقول عنهما "إنما كانا غلامين صغيرين".

لكنها ـ على القول الأول ـ هي أكبر منهما بسبع سنوات، فهي أكثر منهما وعيا للأحداث، فمن المعقول أن تقول عنهما بأنهما كانا غلامين صغيرين.

8 ـ روتْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناجى ابنته فاطمة رضي الله عنها في مرضه الذي قـُبض فيه بشيء، وأنها قالت لفاطمة: "أيْ بُنية، أخبريني ماذا ناجاك أبوك؟". فما أخبرتْها بالذي ناجاها به إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وُلدت فاطمة ـ على الأشهَر ـ قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وإذا كانت عائشة قد وُلدت بعد البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبر سنا منها بتسع سنوات أو أربع سنوات على الأقل!، ومن المستغرب والمستبعد جدا أن تقول الصغيرة لمن هي أكبر منها بمثل هذا القدر "أيْ بنية"، حتى لو كانت هي زوجةَ أبيها.

أما إذا كانت عائشة قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبرُ سنا منها بسنة أو أصغرُ منها بأربع سنوات، فإذا كانت فاطمة أصغر من عائشة فليس من المستبعد أن تقول الكبيرة للصغيرة "أي بنية"، وإذا كانت فاطمة أكبر بسنة فليس لهذا الفرق الضئيل تأثير يمنع أن تقول الصغيرة للكبيرة "أي بنية" إذا كانت الصغيرة هي زوجةَ أبيها. ‏

9 ـ كان مُطْعِم بن عَدِيّ قد ذكر رغبته في خِطبة عائشة لولده جُبير وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، وظن بعض الناس أن في هذا دلالة على أن عائشة كانت قبل أن يخطِبها النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة مخطوبة للزواج!.

وهذا خطأ، لأنها لم تكن مخطوبة بما تعنيه هذه الكلمة، والواقع هو أن المطعم بن عدي كان قد ذكرها مجرد ذكْر وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، ومثل هذا كثيرا ما يقع بين الناس حتى وإن كانت المذكورة ومن ذُكرتْ له طفلين صغيرين، وقد تكون بنتَ عام أو عامين.

سياق القصة يشير إلى أن المطعم بن عدي وزوجته كانا متمسكين بالشرك ويكرهان الدخول في الإسلام، كما يكرهان أن يتحول ابنهما إلى هذا الدين الجديد إذا تم زواجه بعائشة، ومن المعلوم ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحرص الشديد على دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، فمن المستبعد إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات أن يوافقَ أبو بكر على تزويج ابنته لمشرك.

فلم يبق سوى أنَّ ذِكْرَ المطعم بن عدي لعائشة كي تكون مخطوبة لابنه وأخْذَ الوعد بذلك من أبي بكر إنما كان قبل البعثة النبوية، وهذا يعني أن عائشة كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها.

10 ـ كانت عائشة رضي الله عنها تحمل القِرَب الثقال يوم غزوة أُحُد على ظهرها ثم تفرغها في أفواه الجرحى.

ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها كانت في صِغرها نحيفة لم تحمل اللحم، وكانت يوم غزوة أحُد على القول المشهور ابنة أحد عشر عاما، وإذا كان الأمر كذلك فهي لا تقْوى غالبا على حمل قِرَب الماء الثقال لتفرغها في أفواه الجرحى ثم ترجعَ فتملأها ماء وتعودَ بها من جديد، وهذا يعني تضعيف القول المشهور في تحديد عمرها.

أما على القول الأول فقد كان عمرها يوم أحُد تسعة عشر عاما، وهذا هو الأقرب للواقع.

* ـ كل واحدة من القرائن المتقدمة لا تكفي بمفردها في الاستدلال على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، لكن اجتماع تلك القرائن يشكل دليلا قويا على ذلك.

* ـ الدليل الذي استند إليه القول المشهور في أن عائشة رضي الله عنها كانت يوم العقد عليها بنت ست سنين ويوم الزواج بنت تسع سنين:

هذا المعنى رواه عدد من الرواة عن عائشة رضي الله عنها في مصادر كثيرة من المصادر الحديثية والتاريخية، ومن تلك المصادر الحديثية صحيح البخاري وصحيح مسلم، فهو ثابت عنها من حيث الإسناد.

والظاهر أنه ربما وقع لها شيء من النسيان في أواخر العمر، لأن قولها هذا يعارضه عشرة من القرائن الدالة على خلافه، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي.

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

التحذير من زلة العالم

روى الدارمي في السنن عن زياد بن حدير أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟!». قلت: لا. قال: «يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين». 

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الحارث بن عمير عن معاذ بن جبل أنه قال: «إياك وزلة العالم». قال: فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟. قال: «إن للحق نورا يُعرف به». 

وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق وأبو داود في كتاب الزهد والحاكم في المستدرك واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم، روَوا التحذيرَ من زلة العالم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وتميم الداري وأبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهم.  

علق ابن عبد البر رحمه الله على هذا بقوله: شبَّه العلماءُ زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وإذا ثبتَ وصحَّ أن العالم يخطئ ويزلُّ لم يجز لأحد أن يفتي بقول لا يعرف وجهه.  

قلت: هذا في جانب، وكثيرٌ من أهل الدعاوى الفارغة لا يقبلون بحال من الأحوال أن يقال عن أحد من أهل العلم إنه أخطأ في بعض المسائل ولو كان القول مدعَّما بالدليل الواضح!، ويضعون العالم في مرتبة تشبه مرتبة العصمة!، ويظنون أنهم يدافعون بذلك عن الدين وعن مقام العلماء!.  

في الواقع هم لا يدافعون بذلك عن الدين، ولا عن مقام أهل العلم، لو كانوا يعقلون. 


الجمعة، 21 أبريل 2023

حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه"


هذا الحديث فيه ثلاثة أجزاء، الجزء الأول هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأتَه زينبَ فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، والجزء الثاني هو أنه قال لما خرج إلى أصحابه "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، والجزء الثالث تتمة القول، وهو "فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه".

كنت قد كتبت بحثا عن الجزء الثاني منه وهو حديث "المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، وهو غير ثابت، والجزء الثالث صحيح يأتي في آخر هذا البحث بإذن الله، وهأنذا أكتب هذا البحث عن الجزء الأول منه.

 

* ـ رُوي الجزء الأول من هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي كبشة الأنماري، ومن مرسل عبد الله بن حبيب وسالم بن أبي الجعد:

* ـ فأما حديث جابر بن عبد الله فرواه مسلم [3388] وعبد بن حميد [1061، وفي طبعة أخرى 1059] وأبو داود [2151] والترمذي [1158] والنسائي في الكبرى [9072] وأبو عوانة في المستخرج على صحيح مسلم [4464] والطحاوي في مشكل الآثار [5550] وابن حبان [5572] والطبراني في الكبير [132 من الجزء 24] وفي الأوسط [2385] وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم [3242] والبيهقي [13889]، من ثلاثة طرق عن هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه.

ورواه مسلم [3389] وابن حنبل [14537] وأبو عوانة في المستخرج [4465] وأبو نعيم في المستخرج [3243] وكذا في معرفة الصحابة [4544] والبيهقي في شعب الإيمان [5052]، من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به.

[أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس مكي وثقه عدد من الأئمة وليَّنه آخرون، وأقوالهم مذكورة في كتب الجرح والتعديل، وأقتصرُ هنا على ما أراه مهما مما سوى التوثيق: قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي واحتج عليه رجل بحديث عن أبي الزبير فغضب وقال: «أبو الزبير يحتاج إلى دعامة». وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه فقال: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وسأل أبا زرعة عنه فقال: روى عنه الناس. قال: يُحتج بحديثه؟!. قال: إنما يُحتج بحديث الثقات. وقال فيه الإمام النسائي: "كان شعبة يسيء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ، فإذا قال سمعت جابرا فهو صحيح، وكان يدلس". أي كان يدلس الإسناد.

[آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم: ص 169. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 8/ 76. السنن الكبرى للنسائي: 2/ 443، عند الحديث 2112. وفي طبعة أخرى عند الحديث 2101].

فأبو الزبير في أحسن الأحوال صدوق ثقة فيه لين وربما دلس الإسناد، ولم يصرح في تلك الطرق بما يدل على سماعه هذا الحديثَ من جابر، فالسند منقطع، فهو ضعيف.

ـ ربما يقف بعض الباحثين على أن ابن حنبل روى هذا الحديث في مسنده [14744] وفيه تصريح أبي الزبير بقوله "أخبرني جابر" فيرى صحة إسناد الحديث!.

وهذا غير صحيح البتة، لأن نص الحديث هناك ليس فيه هذا الجزء المنكر، وإنما الذي فيه هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في نفسه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد من نفسه».

ـ هل أعلَّ حديثَ جابر أحد العلماء السابقين؟:

قال الإمام الترمذي بعد تخريجه الحديثَ: "حديثُ جابر حديث حسن صحيح غريب". وكأنه يعني بذلك صحة السند ظاهرا وغرابة المتن.

وذكر الإمام الذهبي هذا الحديث مع حديثين آخرين في كتابه ميزان الاعتدال [4/ 39] وقال: "في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع من جابر وهي من غير طريق الليث عنه ففي القلب منها شيء". وذكر ذلك في سير أعلام النبلاء [5/ 385] وقال: "هذه غرائب، وهي في صحيح مسلم".

وإنما قال الذهبي "من غير طريق الليث عنه" لأن الليث بن سعد كان قد سأل أبا الزبير أن يعْلم له على ما سمع من جابر فأعلم له على تلك الروايات التي حملها عنه، واقتصر الليث عليها.

ـ هل أعلَّ الإمام النَسائي هذا الحديث؟:

روى الإمام النَسائي هذا الحديث في السنن الكبرى [9072] من طريق هشام بن أبي عبد الله الدَسْتَوائي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه [9073] عن قتيبة بن سعيد عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير مرفوعا مرسلا، وعلَّق على الرواية الثانية بقوله: "هذا كأنه أولى بالصواب من الذي قبله".

قد يقال إنه يشير بهذا إلى إعلال الحديث بالإرسال، لكنْ تقدَّم قريبا في تخريج حديث جابر أن عبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الرحمن بن علقمة روياه عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا به، فروايتهما المتصلة هي أقوى من رواية قتيبة بن سعيد عن حرب بالإرسال، فلا يتم الإعلال بالرواية المرسلة التي خولف راويها برواية راويين يرويانها بالوصل.

* ـ وأما حديث ابن مسعود فرواه الدارمي [2261] والبيهقي في شعب الإيمان [5053] عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلّام عن عبد الله بن مسعود أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فأتى سودةَ وهي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته. [قبيصة بن عقبة كوفي صدوق ثقة إلا في روايته عن سفيان الثوري، فهو كثير الغلط عنه لأنه سمع منه وهو صغير. أبو إسحاق السَبيعي قال فيه ابن حجر: ثقة مكثر اختلط بآخره]. فهذا إسناد ضعيف.

وهذا الحديث مما تبين فيه وجه الخطأ، فهو معلول بالوقف وبالمخالفة في اللفظ، إذ رواه قبيصة مرفوعا بهذا اللفظ ورواه اثنان من الثقات عن سفيان موقوفا وبلفظ مغاير، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة [17486] عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا على عبد الله بن مسعود أنه قال: "من رأى منكم امرأة فأعجبته فليواقع أهله، فإن معهن مثل الذي معهن". فازداد هذا الحديث بذلك وهنا على وهن.

وروى يحيى بن سعيد القطان وأبو نعيم الفضل بن دكين عن سفيان هذا الحديث بمثل رواية وكيع وعبد الرحمن بن مهدي عنه، كما ذكره البيهقي في شعب الإيمان [5053]، وأشار البيهقي كذلك إلى أن إسرائيل بن يونس روى الحديث عن جده أبي إسحاق بمثل رواية قبيصة، لكن إسرائيل لم يتوقف عن السماع من جده بعد اختلاطه، فيُخشى أن تكون مما سمعها منه بعد الاختلاط.

* ـ وأما حديث أنس فرواه الطبراني في مسند الشاميين [2573] من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس مرفوعا به نحوه. [سعيد بن بشير الأزدي البصري الشامي ضعيف مات سنة 169]. فالسند ضعيف.

* ـ وأما حديث أبي كبشة فرواه ابن حنبل [18028] والطبراني في المعجم الكبير [848 من الجزء 22] وفي المعجم الأوسط [3251] وفي مسند الشاميين [2047]، من ثلاثة طرق عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحَرازي عن أبي كبشة الأنماري أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله، قد كان شيء؟!. قال: "أجلْ، مرتْ بي"، فلانة، "فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال". ورواه عبدُ الملك بن حبيب في كتاب أدب النساء [86] عن معاوية بن صالح به.

[معاوية بن صالح وثقه عدد من الأئمة، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. أزهر الحَرازي كان ناصبيا يسب عليا رضي الله عنه، وثقه العجلي ومحمد بن وضاح، وذكره ابن حبان وابن خلفون في الثقات، وهؤلاء من المتساهلين في التوثيق، وقال أبو الفتح الأزدي: يتكلمون فيه. وذكره ابن الجارود في كتاب الضعفاء]. فهذا إسناد ضعيف.

* ـ وأما مرسل عبد الله بن حبيب فرواه ابن أبي شيبة [17484] عن وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي حَصين عن عبد الله بن حبيب مرفوعا مرسلا به نحوه. وعنده "فرجع إلى أم سلمة وعندها نسوة يَدُفْنَ طيبا". [أبو حَصين عثمان بن عاصم كوفي ثقة ربما دلس الإسناد مات سنة 128. عبد الله بن حبيب كوفي تابعي ثقة مات سنة 72 تقريبا]. داف الطيبَ يدُوفه دَوفا: خلطه.

ورواه ابن أبي شيبة [17485] عن عبد الرحيم بن سليمان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عبد الله بن حبيب به مرفوعا مرسلا كذلك. والظاهر أن عبد الرحيم بن سليمان وهم في تسمية شيخ سفيان هنا، فجعله عن أبي إسحاق بدلا من أن يكون عن أبي حَصين، وعبد الرحيم بن سليمان ثقة فيه لين ووكيع ثقة متقن. والحديث على كلا الحالين مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ وأما مرسل سالم بن أبي الجعد فرواه ابن أبي شيبة [17487] عنه مرفوعا به نحوه. [سالم بن أبي الجعد تابعي ثقة]. وهذا حديث مرسل، والمرسل ضعيف.

* ـ درجة الحديث:

أسانيده ضعيفة، ولا يرتقي باجتماع هذه الطرق لمرتبة الحسن لما فيه من الغرابة التي هي الشذوذ، فقد اختل فيه الشرط الثالث من شروط الحديث الحسن التي نص عليها الإمام الترمذي رحمه الله، فهو ضعيف.

* ـ أصل هذا الحديث:

روى مسلم [3390] وأبو نعيم في المستخرج [3244] من طريق معقل بن عبيد الله الجزري، وابنُ حنبل [14672، 14744] من طريق عبد الله بن لهيعة، وابنُ حبان [5573] من طريق ابن جريج، ثلاثتهم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أحدُكم أعجبتْه المرأةُ فوقعتْ في قلبه فليعمِدْ إلى امرأته فليواقعْها، فإن ذلك يرد ما في نفسه".

الظاهر أن هذه الرواية هي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن راويا ما ركَّب عليها الرواية الضعيفة التي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته، وأن تلك الرواية تسربت بعد ذلك إلى الرواة الضعفاء فتناقلوها وروَوها عن عدد من الصحابة، وأن أبا الزبير سمعها من واحد منهم يرويها عن جابر فرواها عنه، وهو معروف بتدليس الإسناد، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 13/ 4/ 1437، الموافق 23/ 1/ 2016، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

 

  

الثلاثاء، 4 أبريل 2023

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"

بسم الله الرحمن الرحيم


حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف"


إحدى روايات هذا الحديث هي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم". فهل هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟. 

* ـ هذا الحديث له عدة روايات من حيث الإسناد، فأستعرضها فيما يلي:

الرواية الأولى:

هذا الحديث رواه عبد الله بن المبارك في الجهاد [105]، ورواه ابن أبي شيبة [19783، 33681] عن عيسى بن يونس، وابنُ أبي شيبة كذلك [33682] عن وكيع عن سفيان الثوري، ثلاثتهم عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس اليماني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله بعثني بالسيف...". الحديث. 

[الأوزاعي ثقة إمام مات سنة 157. سعيد بن جبلة ضعيف، قال محمد بن خفيف الشيرازي الدمشقي المتوفى سنة 371: ليس هو عندهم بذاك. طاوس بن كيسان تابعي ثقة]. فهذا الإسناد ضعيف جدا، لأنه اجتمع فيه أكثر من سبب للتضعيف. 

وهذه الرواية هي الثابتة عن الإمام الأوزاعي، إذ رواها عنه ثلاثة من الرواة الثقات، عبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس وسفيان الثوري.

الرواية الثانية:

ورواه ابن أبي شيبة [19747] وابن حنبل [5114، 5115] وعبد بن حُميد [846] وابن الأعرابي في المعجم [1137] والطبراني في المعجم الكبير [14109] وفي مسند الشاميين [216] وتمام في الفوائد [770] والبيهقي في شعب الإيمان [1154] من طرق كثيرة عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان دمشقي ولد سنة 75 ومات سنة 165، قال فيه ابن حنبل في رواية: أحاديثه مناكير. وقال في رواية: لم يكن بالقوي في الحديث. وقال ابن معين في عدد من الروايات: ضعيف. وقال في رواية: لا شيء. وقال في رواية: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن شاهين في كتاب الضعفاء: ليس بشيء. وقال في كتاب الثقات: ليس به بأس. وقال ابن عدي: كان رجلا صالحا ويُكتب حديثه على ضعْفه. وضعَّفه ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ في عدة مواضع، ووثقه دُحيم وأبو حاتم وابن حبان، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ وتغير بأَخَرَة. حسان بن عطية دمشقي ثقة توفي بعد سنة 120. أبو المنيب الجرشي دمشقي وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات، وهما من المتساهلين في التوثيق]. فهذا إسناد ضعيف. 

الرواية الثالثة:

ورواه الطحاوي في مشكل الآثار [231] عن أبي أمية الطرَسوسي عن محمد بن وهب بن عطية، وابنُ حِذْلَم [31] من طريق هشام بن عمار وغيره، كلهم عن الوليد بن مسلم أنه قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره بنحوه. 

[الوليد بن مسلم دمشقي ثقة فيه لين، كثير التدليس والتسوية في الأسانيد، مات سنة 195]. 

فهذا إسناد ضعيف، لأن فيه راويا ممن يدلس تدليس التسوية ولم يتسلسل الإسناد منه إلى الصحابي بما يدل على السماع. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن حسان بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر مرفوعا. 

ويحتمِل ـ إن كانت هذه الرواية ثابتة عن الوليد بن مسلم ـ أن تكون مما سمعه الأوزاعي من عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية فرواها من باب الاستغراب، وأن يكون الوليد بن مسلم سمعها من الأوزاعي على هذا الوجه وأسقط اسم عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان منها، وهذه صورة تدليس التسوية، وقد كان الوليد بن مسلم يفعل ذلك، وبذلك يرجع هذا الطريق إلى الطريق الثاني. 

الرواية الرابعة:

ورواه أبو أمية الطرسوسي في مسنده [56] عن يحيى بن عبد الله البابلتي، وذكره ابن أبي حاتم في العلل [956] عن عمرو بن أبي سلمة، كلاهما عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به. 

[صدقة بن عبد الله السمين دمشقي ضعيف منكر الحديث، مات سنة 166]. فهذا إسناد ضعيف. 

ثم إن هذه الرواية عن الأوزاعي معلولة، لأنها مخالفة لما رواه ثلاثة من الثقات عنه، كما تقدم في الرواية الأولى، إذ روَوه عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرفوعا مرسلا، وليس عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا، وهي من تخليط صدقة بن عبد الله.

الرواية الخامسة: 

ورواه سعيد بن منصور في سننه [2370] عن إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

[إسماعيل بن عياش حمصي صدوق فيه لين فيما روى عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. أبو عمير الصوري قال فيه أبو حاتم: كان من عباد الله الصالحين. ولم يذكر شيئا عن مدى ضبطه وتيقظه، والسند مرسل، ومراسيل الحسن البصري مشهورة بالضعف]. فهذا السند ضعيف جدا لأن فيه أكثر من سبب للتضعيف.

* ـ قول إمامين من أئمة علم الحديث في هذا الحديث: 

سأل ابن أبي حاتم الرازي أباه عن حديث رواه عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة"، فقال: قال لي دُحيم: "هذا الحديث ليس بشيء، الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم". [علل الحديث لابن أبي حاتم: 956].

دُحيم هو الإمام الفقيه الحافظ محدث الشام عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو الدمشقي، وقوله "الحديثُ حديثُ الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أن هذا هو الصواب في أسانيد هذا الحديث وأن ما عداه لا يصح، وقد أقره على هذا الإمام أبو حاتم الرازي أحد كبار أئمة علم العلل.

ـ مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن البخاري ذكر فقرتين من هذا الحديث في صحيحه تعليقا بصيغة التمريض ولم يروه بالسند، فقال "باب ما قيل في الرماح، ويُذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جُعل رزقي تحت ظل رمحي وجُعل الذلة والصَّغَار على من خالف أمري". وهو لا يذكر الحديث بصيغة التمريض غالبا إلا إذا كان ضعيف الإسناد عنده. 

* ـ الخلاصة:

حديث "بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف" طرقه شديدة الضعف، فلا يتقوى بعضها ببعض، ويبقى إسناد الحديث ضعيفا، والله أعلم. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 3 جمادى الثانية 1439، الموافق 19/2/2018، سوى بعض الإضافات والتعديلات، والحمد لله رب العالمين.

حوار وتعليق - طول العمر

روى ابن حنبل وابن ماجه والطحاوي في مشكل الآثار وابن حبان والبيهقي من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشدَّ اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة، إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة فأذن للذي تُوفي الآخِرَ منهما، ثم خرج فأذن للذي استُشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟!". قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ اجتهادا ثم استُشهد في سبيل الله ودخل هذا الجنة قبله؟!. فقال: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟!". قالوا: بلى. قال: "وأدرك رمضانَ فصامه؟". قالوا: بلى. قال: وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟. أو قال: "وصلى بعده ستة آلاف ركعة؟!". قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَا بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض". 

هذا الحديث له عدة أسانيد، وكنتُ قد بينت أنها كلها ضعيفة، وأن هذا الحديث لا يرتقي بمجموع تلك الطرق لأنه شاذ منكر.  

وهذا بعض ما قلته فيه:  

وجه شذوذه ونكارته مخالفته للآيات القرآنية الكريمة في تفضيل المجاهدين على القاعدين:  

ـ قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة، وكان الله غفورا رحيما}.  

وقال تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم}.  

فقد أخبرنا الله تعالى بأن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وبأنه فضَّل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، بينما تفضل رواياتُ هذا الحديث مَن لم يجاهد وعاش زيادة سنةٍ بصلاتها وصيامها على المجاهد الشهيد الأشدِّ اجتهادا في العبادة!.  

ـ في هذه الروايات تفضيل من صحبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من آحاد الناس على الصحابي المبشر بالجنة الحائز على رتبة السابقين طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأنه أسبق منه إلى دخول الجنة إذا كان أطولَ عُمُرًا منه!.  

وفي هذا قلب لموازين الإسلام في الدرجات والمراتب، حيث تجعل رواياتُ هذا الحديث درجة مَن كان أطول عمرا مع زيادة أعداد ركعات الصلاة وأيام الصيام تسبق درجة من هو أقل عمرا مع شدة الاجتهاد في العبادة والجهاد ونيل الشهادة!، لا لشيء سوى أن الميزان ـ حسب تلك الروايات ـ يقدم معيار طول العمر على معيار البذل والتضحية والإخلاص والبشارة بالجنة!. حقا إنه أمر في غاية الغرابة!.  

قد يدعونا هذا للتساؤل عما إذا كانت هنالك جهة ما ترى لنفسها مصلحة في إشاعة وترويج مثل ذلك المعيار المنحرف!، وإلى الله المشتكى.  

قال أحد الإخوة جزاه الله خيرا: الحديث ليس فيه تفضيل لهما على طلحة رضي الله عنهم أجمعين، الأمر هو أنه لم يُؤذن له بالدخول لأنه بقي حيا بعد هذه الرؤيا فقيل له ارجع فإنه لم يأنِ لك بعد، فإذا مات أُذن له، ولم تُذكر درجته في هذا الحديث. 

أقول: 

هذا الكلام مبني على أن ذينك الأخوين قد دخلا الجنة حقيقة في الوقت الذي كان فيه طلحةُ رضي الله عنه ما يزال في الدنيا!، وهذا خلل كبير، لأن دخول الجنة يسبقه مراحل، ولا بد من عرْض الأعمال والحساب، ثم يدخل المؤمنون الذين عملوا الصالحات الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وأحبابنا منهم أجمعين. 

أمَّا قبل الحساب فكيف تمَّ لهما دخول الجنة؟!.  

ثم إن الذي عاش بعد أخيه سنة ـ حسب هذه الرواية ـ قد سبق أخاه في دخول الجنة على الرغم من أن أخاه هو أشد اجتهادا منه في العبادة وهو من المجاهدين الذين رُزقوا الشهادة في سبيل الله!. 

الرؤيا التي رآها طلحة رضي الله عنه ـ حسب هذه الرواية ـ تصف حاله وحال ذينك الرجلين في الآخرة عند دخول الجنة، لكنها تجعل السابق في دخول الجنة هو الأخ الأقل اجتهادا في العبادة الذي لم يشارك في الجهاد ولم يُرزق الشهادة!، لأنه عاش بعد أخيه سنة وقد صلى فيها وصام، يليه الأخ الأشد اجتهادا في العبادة والذي جاهد واستُشهد!، يليه طلحة بن عبيد الله المجاهد الذي كانت يده شلاء لأنه وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد!.  

هذه الرواية منكرة نكارة شديدة، والظاهر أنها موضوعة. 

من آثار هذه الرواية أن الإخوة والأقران إذا رأيت واحدا منهم قد عاش بعد أقرانه سنة واحدة وقد صلى فيها وصام هو أفضل من أقرانه الذين سبقوه بالعبادة والفضائل!، وكذلك العلماء والأئمة!. 

وكذلك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم!، إذا أردت أن تعرف الأفضل فهذه الرواية تعطيك ميزانا تقيس به، هو الذي يعيش أكثر من غيره بسنة يصلي فيها ويصوم!، فإذا عاش أكثر من غيره بعشر سنين أو بعشرين فالظاهر منها أنه قد سبق غيره بكثير!، حتى مَن كان أشد اجتهادا في العبادة!، وحتى مَن رُزق الشهادة في سبيل الله!، وحتى إذا كان من المبشرين بالجنة!. وإلى الله المشتكى.  


الجمعة، 24 مارس 2023

فرض الكفاية بين الضرورة و الحاجة


قال إمام الحرمين في مبحث فروض الكفايات: "ما يتعلق بالأبدان: ستر العراة وإطعام الجائعين وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة ففرض على الكافة القيام به، ثم اختلف فيما فوق سد الضرورة إلى تمام الكفاية، فقال قائلون يتحتم الكفاية في ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة، وقال آخرون المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه: بعد تفريق الصدقات على المستحقين وبعد أن يشغر بيت المال عن السهم المرصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرض الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة". [نهاية المطلب في دراية المذهب: 17/ 394]. 

وقال أبو حامد الغزالي: "يصير الفرض على الكفاية لا على التعيين إذا كان الشيء مقصود الحصول في نفسه للشرع ولم يكن الشخص مقصودا بالامتحان، ...، القسم الثاني ما يتعلق بالمعاش، كدفع الضرر عن محاويج المسلمين وإزالة فاقتهم، فإن بقيت ضرورةٌ بعد تفرقة الزكوات كان إزالتها من فرض الكفاية، وإن بقيت حاجة ففي وجوب إزالتها تردد". [الوسيط: 7/ 6].  

قلت: ينبغي التنبه للفرق بين الضرورة والحاجة.  

وقال الرافعي: "منها ما يتعلق بمصالح المعاش وانتظام أمور الناس: كدفع الضرر عن المسلمين وإزالة فاقتهم، كستر العارين وإطعام الجائعين وإعانة المستغيثين في النائبات، وكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تفِ الصدقات الواجبة بسد الحاجات ولم يكن في بيت المال من سهم المصالح ما يُصرف إليها، فإذا انسدت الضرورة فيكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟، حكى الإمام فيه وجهين لأصحاب الأصول". [فتح العزيز في شرح الوجيز: 11/ 354]. ونقله النووي مع الإقرار. [روضة الطالبين: 10/ 221]. 

وقال ابن تيمية وابن مفلح: "يجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية". [مجموع الفتاوى: 7/ 316. الفروع لابن مفلح: 4/ 307]. 

أقول مستعينا بالله تعالى:  

هناك فرق واضح بين الضرورة والحاجة، والظاهر أن الوقت لا يخلو عن المضطرين وعن المحتاجين، وأن إغناء أهل الحاجة عن المسألة هو من المكارم، أما سد خَلة أهل الضرورات فهذا فرض كفاية على أهل اليسار، إذا قام به بعضهم فذاك، وإلا حنثوا وأثموا جميعا، والله أعلم.  

ومما يُستأنس به في هذا قول الله عز وجل {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}، قال القرطبي: "العفو: ما سهل وتيسر وفضل ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ، فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية". 

وذكرت هنا أن الآية الكريمة يُستأنس بها لما رجحته ولم أقل يُستدل بها، وذلك لأن أهل التفسير لم يتفقوا على هذا المعنى، لكنه هو الذي أراه الأقرب من حيث اللغة، والله أعلم.  

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 30 شعبان 1444، الموافق 22/ 3/ 2023، والحمد لله رب العالمين.