الجمعة، 14 نوفمبر 2025

القراءة على الشيوخ أو أخذ الإجازة لتحصيل اتصال السند

القراءة على الشيوخ أو أخذ الإجازة لتحصيل اتصال السند

 

* ـ كثيرون من طلاب العلم اليوم يحرِصون على أن يكون عندهم إسناد متصل برواية الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أن العلماء الكبار كانوا يقرؤون كتب الحديث على شيوخهم بغية اتصال الإسناد، وأنهم كانوا إذا فاتتهم القراءة اكتفَوا بأخذ الإجازة من الشيوخ ليتصل الإسناد عن طريقهم.

نشطتْ حركة القراءة على الشيوخ والحصولِ على الإجازات منذ بضعة عقود من الزمان، إذ يشتري الراغبون في اتصال الإسناد لبعض كتب الحديث الشريف برسول الله صلى الله عليه وسلم نسخةً من السوق ليقرؤوها على شيخ عنده بها إجازة، أو كان قد حصَّل نسخة وقرأها على أحد شيوخه الذي كان له بها إجازة من أحد الشيوخ.

* ـ كان بعض الشيوخ ينص في الإجازة المقرونة بالقراءة أو غير المقرونة بها على أن هذه الإجازة على الشرط المعتبر عند أهل الحديث، والشرط المعتبر عند أهل الحديث لا بد منه حتى ولو لم ينصَّ المجيز في الإجازة على ذلك، كما سيأتي بعون الله.

لا بد هنا من أن نتساءل: ما الشرط المعتبر عند أهل الحديث؟:

* ـ قال الإمام الترمذي المتوفى سنة 279 رحمه الله في كتاب العلل الصغير الذي بآخر كتاب السنن: "القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله فيما يُقرأ عليه إذا لم يحفظ: هو صحيح عند أهل الحديث مثل السماع". [سنن الترمذي بتحقيق بشار عواد معروف: 6/ 246. شرح علل الترمذي لابن رجب: 1/ 499].

* ـ قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم المتوفى سنة 327 وهو ابن الإمام الحافظ أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 277 رحمهما الله في كتابه الجرح والتعديل: سمعت أبي ذكرَ عبدَ الحميدِ بنَ إبراهيم فقال: "ذكِر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم عن الزُبَيدي، إلا أنها ذهبت كتبه، فقال لا أحفظها، فأرادوا أن يعْرضوا عليه فقال لا أحفظ، فلم يزالوا به حتى لان، فحدثهم بها، وليس هذا عندي بشيء، رجل لا يحفظ وليس عنده كتب؟!!". [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6/ 8].

* ـ قال الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم المتوفى سنة 405 رحمه الله في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل: "الطبقة الثامنة مِن المجروحين قومٌ سمعوا كتبا مصنفة من شيوخ أدركوهم ولم ينسخوا أسماعهم عند السماع، وتهاونوا بها إلى أن طعنوا في السن وسئلوا عن الحديث، فحملهم الجهل والشره على أن حدثوا بتلك الكتب من كتبٍ مشتراةٍ ليس لهم فيها سماع وهم يتوهمون أنهم في رواياتهم صادقون!". [المدخل إلى كتاب الإكليل: ص 65].

قف عند قوله "مِن كتب مشتراة"، فقد كانوا يخافون من وقوع اختلافات بين النسخ، أما وقوع التحريف والزيادة فهي طامات.

ثم قال: "الطبقة العاشرة من المجروحين قوم كتبوا الحديث ورحلوا فيه وعُرفوا به فتلفت كتبهم بأنواع من التلف، فلما سُئلوا التحديثَ حدثوا بها من كتب غيرهم أو من حفظهم على التخمين، فسقطوا بذلك، منهم عبد الله بن لهيعة الحضرمي على محله وعلو قدره". [المدخل إلى كتاب الإكليل: ص 67].

* ـ قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: "يجب على من كتب نسخة من أصلِ بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل، فإن ذلك شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 275].

قلت: إذا كان من الواجب على من كتب نسخة من أصل بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل وهو شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع فما حكم من يصحح الرواية بإجازة عن إجازة عن إجازة وهلم جرا وليس هناك نسخة الأصل ولا نسخة منسوخة عنها ليُقال هل هي معارَضة ومقابَلة بها أو لا؟!. لا شك في أن الرواية بمثل هذا لا تفيد شيئا في باب اتصال الإسناد.

* ـ روى الإمام الحافظ المعمَّر أبو عمر يوسف بنُ عبدِ الله ابنُ عبد البر المتوفى سنة 463 رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم عن عبد اللّه بن عمر العمري أنه قال: "كنت أرى الزهري يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه ولم يُقرأ عليه فيقول له: أرويه عنك؟. قال: نعم".

وعلق ابن عبد البر على هذا فقال: "هذا معناه أنه كان يعرف الكتاب بعينه ويعرف ثقة صاحبه ويعرف أنه من حديثه، وهذه هي المناولة، وفي معناها الإجازة إذا صحَّ تناوله ذلك". [جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1155].

وقال ابن عبد البر: "اختلف العلماء في الإجازة، فأجازها قوم وكرهها آخرون، وفيما ذكرنا في هذا الباب دليل على جوازها إذا كان الشيء الذي أجيز به معينا ومعلوما محفوظا مضبوطا وكان الذي تناوله عالما بطرق هذا الشأن، وإن لم يكن ذلك على ما وصفتُ لم يُؤمن أن يحدث الذي أجيزَ له عن الشيخ بما ليس من حديثه، وقد رأيت قوما وقعوا في مثل هذا، وما أظن الذين كرهوا الإجازة كرهوها إلا لهذا".

ثم قال: "وتلخيص هذا الباب أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها يعرف كيف يتناولها وتكونَ في شيء معين معروف لا يشْكل إسنادُه، فهذا هو الصحيح من القول في ذلك". [جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1158، 1159].

قلت: رحم الله الإمامَ الحافظ ابن عبد البر رحمة واسعة، وتأملْ يا طالب العلم حال أبناء الزمان!.

* ـ قال الإمام الحافظ القاضي عياض المتوفى سنة 544 رحمه الله في كتابه الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع في بيان أنواع تلقي الحديث عن الشيخ:

"الضرب الثاني: القراءة على الشيخ، وسواء كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتابٍ أو من حفْظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله، ولا خلاف أنها رواية صحيحة". [الإلماع للقاضي عياض: ص 70]. ومن قرأ هذا النص قائلا "أو كان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله" فقد وهِم.

قلت: أي لا بد لصحة القراءة على الشيخ من أن يكونَ الشيخ ممن يحفظ ما يُقرأ عليه أو يكونَ ممسكا كتابه الذي سمع فيه من شيخه فيما إذا لم يكن يحفظ ما يُقرأ عليه، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فإن القراءة عليه هباء لا يُعتد بها عند أهل العلم.

ثم قال: "الضرب الثالث: المناولة، وهي أيضا على أنواع: أرفعها أن يدفعَ الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخةً منه وقد صححها فيقولَ للطالب هذه روايتي فارْوها عني، أو يأتيَه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ أو بجزء من حديثه فيقفَ عليه الشيخ ويعرفـَه ويحققَ جميعه وصحته ويجيزَه له، فهذا كله عند مالك وجماعة من العلماء بمنزلة السماع". [الإلماع للقاضي عياض: ص 79].

ثم قال: "مِن المناولة أن يعرض الشيخ كتابه ويناولَه الطالبَ ويأذنَ له في التحديث به عنه ثم يمسكـَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذه مناولة صحيحة أيضا تصح بها الرواية والعمل، لكن بعد وقوع كتاب الشيخ ذلك للطالب بعينه أو انتساخه نسخةً منه أو تصحيحِ كتابه متى أمكنه بكتابه أو بنسخة وثق بمقابلتها به".  [الإلماع للقاضي عياض: ص 82 ـ 83].

ثم ذكر وجها من أوجه الإجازة المختلَف في صحتها وبيَّن صحته إذا تحقق فيه شرطان فقال: "الوجه الثاني: أن يجيز لمعيَّن على العموم والإبهام دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، كقوله قد أجزت لك جميع رواياتي أو ما صح عندك من رواياتي، فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقا، والصحيح جوازه وصحة الروايةِ والعملِ به بعد تصحيح شيئين: تعيينِ روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحةِ مطابقة كتب الراوي لها". [الإلماع للقاضي عياض: ص 91 ـ 92].

قلت: قف عند قوله "وصحةِ مطابقةِ كتب الراوي لها".

ثم روى القاضي عياض رحمه الله من طريق أبي ذر الهروي أنه قال: أخبرنا أبو العباس المالكي قال: "لمالكٍ شرطٌ في الإجازة: أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز ثقة في دينه وروايته معروفا بالعلم، وأن يكون المُجاز من أهل العلم متَّسِما به حتى لا يضع العلمَ إلا عند أهله، وكان يكرهها لمن ليس من أهله". [الإلماع للقاضي عياض: ص 94 ـ 95].

[أبو العباس المالكي هو الوليد بن بكر بن مخلد الغمري، أندلسي سَرَقُسْطي ثقة مات سنة 392، قال عنه الحُميدي في جذوة المقتبس وابن عساكر في تاريخ دمشق: ألـَّف في تجويز الإجازة كتابا سماه كتاب الوجازة، وسمع منه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ وأبو ذر عبد بن أحمد الهروي].

ثم قال: "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال، في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل، إلا اشتراط العلم فمختلف فيه". [الإلماع للقاضي عياض: ص 95].

قلت: قف عند قوله "أن يكون الفرع معارَضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما بما يجيز"، وعند قولِه "أما الشرطان الأولان فواجبان على كل حال في السماع والعرض والإجازة وسائر طرق النقل".

ثم قال القاضي عياض: "الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه يجب أن لا يحدث المحدثُ إلا بما حفظه في قلبه أو قيَّده في كتابه وصانه في خزانته، فيكون صونُه فيه كصونه في قلبه، حتى لا يدخله ريب ولا شك في أنه كما سمعه، وكذلك يأتي لو سمع كتابا وغاب عنه ثم وجده أو أعاره ورجَع إليه وحقق أنه بخطه أو الكتابُ الذي سمع فيه بنفسه ولم يرْتَبْ في حرف منه ولا في ضبط كلمة ولا وجد فيه تغييرا، فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريبٌ أو شكٌّ لم يجز له التحديث بذلك، إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدَّث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخشى أن يكون مغيَّرا فيدخلَ في وعيد من حدث عنه بالكذب وصار حديثه بالظن، والظن أكذب الحديث". [الإلماع للقاضي عياض: ص 135].

ثم قال: "إذا صح الخبر والرواية كما قدمنا بالعرض أو المناولة أو الإجازة لم تضرَّ المسامحة في القراءة، إذ هي شيء زائد على جواز ما تقدم إذا صحت المعارضة بالأصول والمقابلة بكتاب الشيخ". [الإلماع للقاضي عياض: ص 142].

ثم قال: "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتُها به فمتعينة لا بد منها، ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل وتكون مقابلته لذلك مع الثقة المأمون". [الإلماع للقاضي عياض: ص 158 ـ 159].

أقول:

قول القاضي عياض رحمه الله في القراءة على الشيخ "سواءٌ كنتَ أنت القارئَ أو غيرُك وأنت تسمع أو قرأتَ في كتابٍ أو من حفظ وكان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه أو يمسك أصله ولا خلاف أنها رواية صحيحة": يعني أن الشيخ إذا كان في حال القراءة عليه لا يحفظ ما يُقرأ عليه ولا يمسك أصله فالرواية عنه بهذه القراءة غير صحيحة، وهذا إذا كان هو في الأصل قد أخذ الرواية عن شيخه من أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل، فإذا لم يكن عنده أصل مصحَّح أو فرع قوبل على ذلك الأصل فالرواية عنه غير صحيحة من باب أولى. فتنبه، رعاك المولى.

وتأملْ قوله "أما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها ولا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل".

أقول: هذا هو الواجب على المسلم التقي في باب الرواية، وهو مقابلة نسخته بأصل السماع ومعارضتُها به، لأنه لا يحل للمسلم التقي الروايةُ ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحققَ ووثِقَ بمقابلتها بالأصل، فمن لم يكن يعلم ذا ولم يلتزم به في هذا الباب فعليه إصلاحُ ما تقدم منه وتداركُ ما فاته، وإلا فقد فاتته رتبة المسلم التقي.

وأقول: رحم الله الإمامَ الحافظ عياض بن موسى رحمة واسعة.

* ـ قال الحافظ السِلَفي أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصبهاني المعمَّر المتوفى سنة 576 في كُتَيِّبه شرط القراءة على الشيوخ: "إما أن يكون الراوي عارفا بما يرويه عالما بالذي يؤديه أو غير عارف بذلك ولا عالم: فإن كان عالما وبحديثه عارفا فاستماعه إلى القارئ وإقراره بالمقروء عليه بقوله نعمْ أو ما في معناه مغْنٍ عما عداه، سواء كان القارئُ من أهل المعرفة بدقائق المحدثين أو لم يكن بها من العارفين أو قرأه من الأصل أو من الفرع المنسوخ منه، فإنه يعرف حديثه ويردُّ عليه الخطأ والتصحيف، وإن كان الراوي شيخا صحيح السماع إلا أنه لا يعرف حديثه فالاعتماد في روايته على المفيد عنه لا عليه، يقلده السامعون فيما يقرؤه وينتخبه بعد تيقنهم أنه ثقة عارف بحديث الشيخ، إلا أنه مع ذلك كله لا يستغني عن إعلام الشيخ حال القراءة أن الجزء عمن سمعه ومَن الذي به حدثه؟، وقراءتُه عليه من أصل سماعه أو من فرعه المنقول من الأصل المقابَل به: سيان، وكذلك قراءته عليه من الفرع المكتوب من الأصل قبل المقابلة وأحدُ الحفاظ المبرزين ينظر فيه ويضبط له حتى يصححه: بمثابة القراءة من الأصل أو الفرع المقابَل المصحَّح، إذ القصد من ذلك كله حصول السماع على وجه الصحة". [شرط القراءة على الشيوخ: ص 43 ـ 46].

وقال في كتابه الوجيز في ذكر المُجاز والمجيز: "اعلمْ أن الإجازة جائزة عند فقهاء الشرع وعلماء الحديث، قرنًا فقرنًا وعصرا فعصرا إلى زماننا هذا". [ص 53].

ثم قال: "في الإجازة كما لا يخفى دوامُ ما قد رُوي وصح من أثر، ويجب التعويل عليها والسكون أبدا إليها، من غير شك في صحتها، إذ أعلى الدرجات في ذلك السماعُ ثم المناولة ثم الإجازة، ولا يُتصور أن يبقى كل مصنَّف على وجه السماع المتصل ولا ينقطعَ منه شيء بموت الرواة وفقْد الحفاظ الوعاة، فيُحتاج عند وجود ذلك إلى استعمال سبب فيه بقاء التأليف، فالوصول إذًا إلى روايته بالإجازة فيه نفع عظيم، إذ المقصود به إحكام السنن المروية في الأحكام الشرعية وإحياء الآثار على أتم الإيثار، سواء كان بالسماع أو القراءة أو المناولة أو الإجازة، لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان، والتوقي من الزيادة والنقصان، وأنْ لا يُعوَّل فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله ويُعول على قوله". [ص 54 ـ 55].

أقول:

قوله "لكن الشرط فيه المبالغة في الضبط والإتقان وأنْ لا يُعول فيما يُروى عن الشيخ بالإجازة إلا على ما يُنقل من خط مَن يُوثق بنقله" يعني أن مِن شرْط صحة الرواية بالإجازة المبالغةَ في الضبط والإتقان في الجزء أو الكتاب الذي يجيز الشيخ للطالب أن يرويه عنه، وهذا يقتضي أن يكون هناك من ذلك الجزء الحديثي أو الكتاب الذي يريد الشيخ أن يجيز للطالب روايته عنه نسخةٌ مسموعة مضبوطة متقنة متداوَلة بأيدي الشيوخ فيستعيضَ الشيخُ عن القراءة بأن يجيز الطالبَ رواية ذلك الجزء أو الكتاب عنه.

ولو كان المراد غير هذا لكان اشتراطُ أن يكون السماع في القراءة على الشيخ من أصل النسخة المقروءة أو من فرع قوبل على ذلك الأصل وإباحةُ الإجازة دون مثل ذلك الاشتراط نوعًا من العبث، فتدبر.

* ـ ذكر الإمامُ الحافظ محمد بنُ عبدِ الغني ابنُ نقطة البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 629 رحمه الله أحدَ الرواة في كتابه التقييد وقال عنه: "رحل إلى نيسابور، وسمع من القاضي أبي بكر أحمد بن الحسن الحيري، وكان سماعه منه صحيحا، غير أنه أفسد نفسه بكونه يتساهل بالتحديث من غير أصل". [التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ص 53 ـ 54].

قلت: فالشيخ الذي يحدث الناس من غير أصل ـ أي من غير نسخة متلقاة بالسماع أو من نسخة منقولة عنها ومقابَلة بها من ثقة عارف ـ فقد أفسد نفسه وأفسد الغرض الذي اجتمع لأجْله من يقرؤون عليه.

* ـ قال الإمام الفقيه عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643 في كتابه معرفة أنواع علم الحديث في النوع الثالث والعشرين وهو معرفة صفة من تُقبل روايته ومن تُرد روايته: "لا تُقبل رواية من عُرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن يحدث لا من أصل مقابَل صحيح، وهذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه". [ص 119].

ثم قال: "أعرضَ الناسُ في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بيَّنَّا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، فلْيُعتبرْ من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض، ولْيُكتفَ في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخطِّ غير متهَم، وبروايته من أصلٍ موافِقٍ لأصل شيخه". [ص 120].

ثم قال: "المناولة المقرونة بالإجازة لها صور: منها: أن يدفعَ الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابَلا به ويقولَ هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني أو أجزتُ لك روايته عني ثم يملـِّكَه إياه أو يقولَ خذه وانسخه وقابلْ به ثم ردَّه إلي أو نحوُ هذا، ومنها: أن يجيءَ الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضَه عليه فيتأملَه الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيدَه إليه ويقولَ له وقفتُ على ما فيه وهو حديثي عن فلان أو روايتي عن شيوخي فاروه عني أو أجزت لك روايته عني، ومنها: أن يناول الشيخُ الطالبَ كتابه ويجيزَ له روايته عنه ثم يمسكَه الشيخ عنده ولا يمكِّنَه منه، فهذا يتقاعد عما سبق، لعدمِ احتواء الطالب على ما تحمَّله وغَيبتِه عنه، وجائزٌ له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابَل به على وجهٍ يثق معه بموافقته لِما تناولتْه الإجازة على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة، ومنها: أن يأتيَ الطالبُ الشيخَ بكتاب أو جزء فيقولَ هذا روايتك فناولنيه وأجز لي روايته فيجيبَه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحققَ روايته لجميعه، فهذا لا يجوز ولا يصح، فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتمادُ على الطالب حتى يكون هو القارئَ من الأصل إذا كان موثوقا به معرفة ودينا". [ص 165 ـ 166].

قوله "إذا ظفر بالكتاب" أي إذا ظفر بكتاب الشيخ، أي نسخة الشيخ، كما هو ظاهر.

* ـ قال الحافظ عبدُ الرحمن بنُ أحمدَ ابنُ رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 795 رحمه الله في كتابه شرح العلل: [اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكونَ العالم حافظا لما يُعرض عليه أو يمسكَ أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظا، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظا ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بذلك العرض، ورخـَّص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ، وهذا إذا كان الخط معروفا موثوقا به والكتاب محفوظا عنده]. [شرح علل الترمذي لابن رجب: 509 ـ 512].

أقول: رحم الله ابن رجب رحمة واسعة.

* ـ هذا وقد ضعَّف الأئمة المحدثون عددا من الرواة بسبب روايتهم عن شيوخهم من نسخٍ غيرِ مقابَلة على الأصل، ومن أمثلة ذلك:

قال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: ذكرَ أبِي محمدَ بنَ كثير المصيصي فضعَّفه جدا وقال: "سمع من معْمر باليمن، ثم بعث إلى اليمن فأخذها فرواها". وقال: "هو منكر الحديث". [العلل ومعرفة الرجال لابن حنبل رواية ولده عبد الله: 3/ 251]. ونقله عنه مع الإقرار: البخاريُّ في التاريخ الكبير والترمذي في العلل الكبير.

وقال ابن حبان في كتاب المجروحين: "عمر بن حفص أبو حفص العبدي كان ممن يشتري الكتب ويحدث بها من غير سماع، قال يحيى بن معين: أبو حفص العبدي ليس بشيء". [كتاب المجروحين لابن حبان: 12/ 55 ـ 56].

وانظر ـ على سبيل المثال ـ ما قالوه في إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس وعبد الله بن لهيعة وهشام بن عمار والوليد بن محمد المُوَقـَّري.

* ـ قد يقول قائل: هل لعدم تحقق ذلك الشرط المعتبر عند أهل الحديث أي أثر في نقل الأحاديث النبوية؟!.

أقول: نعم، لأننا إذا نقلنا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسخة مشتراة من السوق اعتمادا على الرواية بالإجازة التي لم يتحقق فيها الشرط المعتبر عند أهل الحديث وكان في تلك النسخة خلل ما لأنها غيرُ نسخة الشيخ وليست مقابَلة على نسخته: فنكون قد عرَّضنا أنفسنا للدخول تحت قوله صلى الله عليه وسلم "مَن كذب عليَّ"، وكذلك فيما إذا كان ذلك الشيخ قد روى عن شيخه بمثل ذلك، وكذا شيخه عن شيخ شيخه، وهلم جرا.

* ـ فإن قيل: كيف يتحقق الاتصال في أسانيد الأحاديث والروايات اليوم إذا لم نجد اتصال الرواية بالقراءةِ على الشيوخ أو الإجازةِ بالشرط المعتبر عند علماء الحديث؟.

قلت: اتصال الأسانيد اليوم هو بالاعتماد على الوجادة بشروطها، وذلك بما نجد من النسخ المخطوطة التي كتبها العلماء والوراقون الثقات الذين عُرفت خطوطهم وأثبتَ فيها الكاتب إسناده بالنسخة إلى المؤلف، مع التثبت من خط كاتب النسخة وصحة ذلك الإسناد.

وإذا لم يكن من المتيسر لكل طالب علم أن يراجع بنفسه المخطوطات فلا بد من الاعتماد على من رجع إليها وقابل نص الكتاب بالنسخ الموثقة إذا كان ثقة مأمونا عارفا بطرق التوثق من صحة النسخة.

وهذا هو الطريق الصحيح للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصور التي انقطعت فيها القراءةُ على الشيوخ بشرطها المعتبر عند أهل الحديث، وكذا الإجازةُ بالشرط المعتبر كذلك، وليس الطريقُ الصحيح هو طريقَ القراءة والإجازة اللتين يعتمد عليهما كثير ممن يُسمَّون طلابَ العلم اليوم.

من آفات عدم المعرفة بالطريق الصحيح في التوثق من صحة النسخ الخطية أن يقال عمن جمع شيئا من تلك الإجازات العقيمة "العالم المسنِد"!، أو "المحدِّث المسنِد"!، وأن يُقال لمن يجيز غيره بمثل تلك الإجازات "المحدِّث المجيز"!، ولمن يُجاز بها "المُجاز برواية الحديث"!.

وقد حصل هذا في غفلة عن الشروط المعتبرة عند أهل العلم المحققين، والمهزلةُ التي نشهدها اليوم ماثلة للعِيان!.

* ـ من الممكن أن يُستأنس للوجادة بما رواه ابن عرفة في جزئه [19] واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة [5/ 995] والبيهقي في دلائل النبوة [6/ 538] والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث [ص 32] وقِوَامُ السنة أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب [48]، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجبُ إليكم إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم عز وجل؟!". قالوا: فالنبيون؟!. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!". قالوا: فنحن؟!. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟!، ألا إن أعجب الخلق إليَّ إيمانا لَقومٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتب يؤمنون بما فيها".

إسناده ضعيف، وله شواهد ضعيفة الأسانيد عن عدد من الصحابة يرتقي بمجموعها لمرتبة الحديث الحسن، والله أعلم.

ـ أسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بحقائق ديننا، وبمنهج أئمتنا السابقين ومَن سار على طريقهم، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، بلطفه ومنه وكرمه. والله الموفق.

ـ وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في 29/ 8/ 1441، الموافق 22/ 4/ 2020، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

  

الجمعة، 27 ديسمبر 2024

تهنئة الكافرين بدخول السنة الجديدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الميامين

ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعُنَّ سنن مَن قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضب لسلكتموه». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟!. قال: «فمَن؟!». [رواه البخاري ومسلم]. 

هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة المحمدية سيأتي عليها زمان يحيد فيه غالبها عن الصراط المستقيم، ويستهويهم ما عند اليهود والنصارى الذين حرَّفوا وبدَّلوا، والمراد من الخبر التحذير من التشبه بهم والوقوع فيما وقعوا فيه. 

ـ قال أحد مشايخ الحنابلة رحمه الله: 

"إذا دعاك الذمي لوليمة العرس فالمذهب أنه يُكره، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أنهم يُجابون ولا تُكره إجابتهم، وهذا في إجابتهم إلى الأمور العادية، كالزواج والقدوم من سفر وما أشبه ذلك، أما الإجابة إلى الشعائر الدينية فإنها حرام". وهذا صحيح لا إشكال فيه، وجزاه الله خيرا. 

ـ ثم قال بعد ذلك: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر". 

أقول: 

هذا القول فيه كلمة صحيحة هي قوله "والرضا بالكفر كفر"، وما عداها هو غير صحيح، فلا يمكن أن يكون مقبولا، وإلا فأين الدليل الشرعي على أن التهنئة بالأعياد حرام مطلقا؟!. 

ـ قف وتأمل: 

لعلك تتساءل أيها الأخ الكريم: هل يجوز للمسلم أن يشيِّع جنازةَ أحد من غير المسلمين؟!، أو أن يعود مرضاهم؟!، أو أن يعزي أحدا منهم بموت قريبه؟!، أو أن يهنئه بزواج أو مولود أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه؟!، أو إنك ترى هذا من المحرمات القطعية في الدين؟!. 

الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظهَرُ منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء. 

بعض الناس يتراءى لهم إذا قلتَ بجواز تهنئة غير المسلم برأس السنة مثلا أن هذا يشمل الكافر الذي يجاهر بالعِداء والسب والشتم لدين الإسلام وما يتصل به!، وهذا التصور غير صحيح البتة، لأن الكلام في عرف الاستعمال ينصرف إلى الحالة المعهودة في سياقه، لا إلى ما يضادُّها. 

قال الله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}، فهل هذه الآية الكريمة تشمل من يحمل السلاح عليك أو على جارك ويستبيح الدماء وينتهك الأعراض وأنت تؤويه وتكرمه وتبلغه مأمنه؟!. 

لا يغيب عن بال كل ذي لب أن هذا ليس هو المقصودَ من الآية الكريمة. 

الذي يقتل المسلمين وينتهك الحرمات هل يجوز أن تقابله بالتهنئة؟!، هذا لا يقوله ولا يتصوره عاقل، والواضح من السياق أنك تهنئ جارك أو زميلك في العمل أو مَن بينك وبينه صلة تعارف ولم تجد منه ما يسيئ إليك ولا إلى دينك من باب أولى، وهذا بغض النظر عما يعتقد. 

ـ قد يكون لك أيها الأخ الكريم جار من غير المسلمين ورأيتَ يوما سيارة الإسعاف جاءت وحملتْه إلى المستشفى، ولا بد من أن تتساءل هل أعوده؟. 

وربما علمتَ بوفاة والده أو والدته، وتتساءل هنا هل أعزيه؟، وهل أشاركُ في تشييع الجنازة دون الصلاة عليها؟. 

وربما وُلد له مولود أو كانت عنده مناسبة مفرحة فهل أهنئه بولادة المولود وأبلّغه بأنني أتمنى له الفرحة والسعادة؟. 

وقبل الجواب، فهل الحكم واحد في حالات عيادة المريض والتعزية بفقد عزيز والتهنئة بمناسبة مفرحة؟، لأننا قد نقف على قول أحد أئمة الفقه في إحدى هذه الحالات، فإذا كانت كلها من بابة واحدة فهذا يفيدنا في أن الحكم ينسحب على تلك الحالات كلها. 

يجيبنا على هذا السؤالِ الفقيهُ الحنبلي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 رحمه الله فيقول: "تهنئتهم...، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة، ولا فرق بينها". 

ـ إذا وقعتْ نازلة وسُئلنا عن الحكم الشرعي فيها فمِن غير المقبول شرعا التسرعُ في إطلاق القول فيها بإباحةٍ أو تحريم أو غيرِ ذلك دون الاستناد لدليل شرعي، وإذا قال فيها قائل فلا بد من المطالبة بالدليل. فتأملوا معي أيها الإخوة الكرام: 

* ـ روى الإمام البخاري في كتاب التاريخ الأوسط وعبد الرزاق بن همَّام الصنعاني في مصنفه والبلاذري في أنساب الأشراف من طرق عن سفيان الثوري أنه قال: حدثنا حماد ـ هو ابن أبي سليمان ـ عن الشعبي أن الحارث بن أبي ربيعة رحمه الله ماتت أمه نصرانية، فشيَّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. [الإسناد هنا لا بأس به]. 

والذين شاركوا في تشييع تلك الجنازة لا يغيب عنهم ما في عقائد النصارى من شركيات، لكن ربما تكون مواساةُ أهل الميت والحاضرين تشييعَه ممن هم على دينه خطوةً في مد جسر التواصل والدعوة إلى الإسلام. 

وروى عبد الرزاق في مصنفه [19217] عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أنه قال: قال عطاء: «إن كان بين مسلم وكافر قرابة قريبة فليعدْه». وقال عمرو بن دينار: «ليعدْه وإن لم تكن بينهما قرابة». 

وروى عبد الرزاق [19218] عن ابن جريج أنه قال: سمعت سليمان بن موسى يقول: «نعودهم وإن لم تكن بيننا وبينهم قرابة». [عمرو بن دينار وسليمان بن موسى هما من التابعين]. 

* ـ نصَّ الإمامُ الشافعي رحمه الله على جواز تعزية النصراني، فقد قال إسماعيل بن يحيى المُزَني تلميذ الشافعي وراوية كتبه: قال الشافعي: "أحبُّ تعزية أهل الميت رجاء الأجر بتعزيتهم، ويعزي المسلمَ بموت أبيه النصراني فيقول أعظم الله أجرك وأخلف عليك، ويقول في تعزية النصراني بقرابته أخلف الله عليك ولا نقص عددَك". وجرى على ذلك فقهاء الشافعية من بعد إمامهم. 

الإمام الشافعي هو من أكبر شيوخ الإمام أحمد، وكان أحمد يخصه بالدعاء بعد كل صلاة، وكان الشافعي إماما في الفقه وأصول الفقه وفي العقائد. 

* ـ سئل الإمام أبو عبد الله أحمد ابن حنبل رحمه الله مراتٍ عن عيادة المريض من أهل الذمة، وروى عنه ثمانية من تلاميذه جواباته في هذه المسألة، وكان الجواب في ثلاث روايات منها بالجواز، وقال في رواية: "إذا كان يرجوه فلا بأس به". وفي رواية: "إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام". وفي رواية: "إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل منه فلْيَعُدْه". وفي رواية أخرى: "يجيء فيقوم على الباب ويعتذر إليه". أي يكون واقفا عند الباب ويقول له كلمات تخفف عنه ما هو فيه ويعتذر إليه عن الجلوس، وانفردت رواية واحدة بجواب مختلف، وهذا نصها: سُئل أبو عبد الله عن الرجل يعود شريكا له يهوديا أو نصرانيا؟، فقال: "لا ولا كرامة". [أحكام أهل الملل للخلال: 597 ـ 604]. وقوله في إحدى الروايات "إذا كان يرجوه فلا بأس به" أي إذا كان يرجو إسلامه، والله أعلم. 

ولا بد من ملاحظة أن الإمام أحمد رحمه الله قال في رواية المنع من ذلك "لا ولا كرامة"، ولم يصرح بالتحريم أو عدم الجواز، وقد فهم منها القاضي أبو يعلى رحمه الله الكراهة، لا التحريم، كما سيأتي. 

ـ الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله يجيب في مسألة عيادة الذمي اليهودي أو النصراني سبع مرات بالجواز المطلق أو المقيد ومرة واحدة بالنهي!، فكيف نقل علماء الحنابلة أقوال الإمام أحمد من خلال الروايات المنقولة عنه؟، أو من خلال ما وقفوا عليه منها؟، وهل كانت نقولهم عنه معبرة عن أقواله بدقة؟: 

ـ منهم من نقل أربعة أقوال أو ثلاثة: 

قال المرداوي المتوفى سنة 885 في كتابه الإنصاف: "في تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان، إحداهما يحْرُم، وهو المذهب، والرواية الثانية لا يحرم، فيُكره، وذكِر رواية بعدم الكراهة، فيُباح، وعنه يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه". [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/ 234]. 

وقال ابن مفلح المتوفى سنة 763 في مبحث أحكام أهل الذمة: "تحرم العيادةُ والتهنئة والتعزية لهم، وعنه يجوز، وعنه لمصلحة راجحة، كرجاء إسلام". [الفروع في الفقه الحنبلي لابن مفلح: 10/ 334]. 

ـ ومنهم من نقلوا قولين: 

ذكر القاضي أبو يعلى المتوفى سنة 458 رحمه الله في مسألة عيادة اليهودي والنصراني قولين مما نقله تلاميذ الإمام أحمد عنه إذ قال: [نقلَ جعفر بن محمد ـ أي عن الإمام أحمد ـ كراهية ذلك وقال: "لا ولا كرامة". ونقل أبو منصور الأصبهاني جواز ذلك]. [المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى: 1/ 199]. 

وقال الكَلْوَذاني المتوفى سنة 510: "لا يجوز تهنئتهم ولا تعزيتهم في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى: تجوز". [الهداية في الفقه الحنبلي للكَلْوَذاني: ص 225]. 

وقال موفق الدين ابن قدامة المتوفى سنة 620: "توقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة، وهي تُخَرَّج على عيادتهم، وفيها روايتان، إحداهما: لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم، وهذا في معناه، والثانية: نعودهم". [المغني في الفقه الحنبلي للموفق ابن قدامة: 3/ 486]. 

وقال الحجاوي المتوفى سنة 968: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وعنه تجوز العيادة إن رُجي إسلامه". [الإقناع: 2/ 49]. 

ـ ومنهم من نقلوا القول بالتحريم واقتصروا عليه: 

قال سراج الدين الدجيلي المتوفى سنة 732: "لا تجوز التهنئة والعيادة والتعزية لهم". وقال ابن النجار المتوفى سنة 972: "يحْرُم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم". وكذا يقول مرعي الكرمي المتوفى سنة 1033 ومنصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051 وابن بلبان الدمشقي المتوفى سنة 1083. [الوجيز: ص 167. منتهى الإرادات: 2/ 244. دليل الطالب: ص 122. الروض المرْبع: ص 301. مختصر الإفادات: ص 351]. 

هكذا عند هؤلاء المتأخرين كأن المسألة ليس فيها سوى قول واحد، والقول الواحد الذي رُوي عن إمام المذهب بالنهي فسره أكثرهم بالتحريم أو عدم الجواز وقدموه على غيره، أما الروايات السبعة التي تصرح بجواز عيادتهم أو تشير لذلك إشارة واضحة فتُنُوسيت وذهبتْ أدراج الرياح. 

أين فقهاء الحنابلة من إمام المذهب؟!!، بينه وبينهم بَون شاسع. 

ـ يتبين لكم أيها الإخوة الكرام بعد هذا العرض الفرقُ الكبير بين ما قاله الإمام أحمد رحمه الله في الروايات التي أسندها عنه تلميذ تلاميذه أبو بكر الخلال وبين ما نقله عنه مشايخ الحنابلة على مر العصور، فأوائلهم ذكروا من الأقوال المخرَّجة الثمانية قولين أو ثلاثة أو أربعة، وبعض متأخريهم اقتصروا على قولين، واقتصر بعضهم على قولٍ واحد منها، وفسروه بالتحريم، إذ تمسكوا بكلمة صدرتْ منه مرة واحدة وأعرضوا تمام الإعراض عما قاله في المرات الأخرى وجعلوها هباء منثورًا!. 

* ـ أما في مسألة التعزية فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة فقال: "ما أدري". وسئل مرة أخرى عن تعزية النصراني فقال: "لا أدري، لمَ يعزيه؟!". [أحكام أهل الملل للخلال: 636 ـ 637]. وقارن هذا بما نقله المتأخرون من الحنابلة، كما تقدم قريبا. 

* ـ هل كلام الإمام الشافعي والشافعيين والإمام أحمد في معظم إجاباته والآخذين بها من الحنابلة مؤيد بالأدلة؟: 

قال الله جل وعلا {اليوم أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، وهو القائل جل شأنه {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}، فلا بد أن تنشأ بين الرجل وزوجته الكتابية القائمة بحسن الرعاية وُصْلة، والمودة الجائزة هنا هي تلك الصلة الناشئة عن العلاقة الزوجية التي لا تمس العقيدة في شيء من شؤون الحياة، وهذا غير ما هي عليه في خاصة نفسها مما ليس له تأثير على حياة الأسرة وتصوراتها وسلوكها وسائر مناحي حياتها. 

وهذه المودة هي غير المودة النابعة من ميل القلب إلى ما هم عليه من العقائد الكفرية الباطلة، إذ تلك من المكفرات، فالواجب الحذر. 

ـ لا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذا التشريع هو من أعظم دواعي التواصل ليتعرف أهل الكتاب على الإسلام، ليس من خلال المعرفة النظرية العلمية فقط، بل من خلال التعامل العملي، ومنه صلة المصاهرة، وهي ستؤدي ـ دون شك ـ إلى شيء من البر والإحسان لأهل تلك الزوجة الذين هم أخوال الأولاد وأقرباؤهم من جهة الأم. 

هل يُتوقع أنه لا يكون فيها دعوة على طعام؟! ولا دعاء بالصحة والعافية والهناءة والسرور؟!، والمؤمن الصادق يدعو لكل الناس بذلك صادقا من قلبه، والفرق بينه وبين غيره أن الآخَرين إذا دعَا الواحد منهم دعَا بما يفكر هو فيه من تصوره القاصر، أما المؤمن إذا دعا فإنه يدعو بمثل تلك الكلمات بمعناها الواسع الذي يشمل سعادة الدنيا والآخرة. 

ـ هل ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت اليهودي الشاب المريض لعيادته في بيت والده؟، نعم، وهذا في صحيح البخاري. 

هل دعا له بالشفاء؟، لا أدري، لأني لم أجد ذلك فيما وقفت عليه من روايات الحديث، لكن عدمُ ذكْر أي جزئية في الرواية لا يعني أنها لم تكن في الواقع، لأن الذي يُذكر في الرواية هو ما شدَّ انتباهَ الراوي لينقله لنا فيها. 

والمذكور فيها هو أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، فنظر ذلك الشاب المريض إلى أبيه وهو عنده، فقال له والده: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار». 

هل في عقائد أهل الكتاب شركيات؟، الجواب: نعم. 

هل في هذا الحديث دلالة على جواز عيادة المريض المشرك؟، الجواب: نعم، وخاصة إذا كانت بقصد إيصال رسالة فيها دعوة للإيمان، أو بقصد مد جسور التواصل لإيصال رسالة إيمانية ولو في وقت لاحق. 

ـ يظن بعض الناس أن المسلم الصالح هو من إذا رأى غير المسلم عَبَسَ، لا لشيء إلا لأن الذي أمامه من الكافرين!، هل هذا هو المطلوب من المسلم؟!، وهل هناك فرق بين غير المسلم المُعادي وغير المسلم المسالم؟!. 

إذا كان ذلك هو المطلوب فلمَ قال الله عز وجل {وقولوا للناس حسنا}؟، ولمَ لم يكن الخطاب وقولوا للمسلمين حسنا؟!، ولو كان هذا هو الأصلَ فكيف تدعو أيها المسلم غير المسلمين إلى دين الإسلام؟!، وكيف تتوقع أن يستجيب مَن تدعوه لهذه الدعوة؟!. 

إن ما يحرك جذوة الإيمان في القلوب هو تقديم البر والإحسان، ثم أن تكون أيها الداعي إلى دين الحق بشوشا حريصا من كل قلبك على قبول المدعوين لدعوتك متشوقا بكل ذراتك إلى دلالة الغافلين على سلوك طريق الهداية. 

ـ قال الله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. 

القسط هو العدل، وهو نقيض الظلم، وأما البِر فهو شيء آخر فوق ذلك، قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: "بر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما". 

* ـ أيها الأخ الكريم الذي تقول بتحريم تهنئة غير المسلم برأس السنة: 

الكلام هنا فيمن هو على غير دين الإسلام ولا يظْهَر منه عِداءٌ للإسلام والمسلمين ولا طعنٌ في دين الإسلام ولا استهزاء. 

هل عندك دليل شرعي على تحريم تهنئة مثل هذا أو تعزيته أو عيادة مريضه من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح؟!. 

إذا كان لديك دليل شرعي فأبرزه حتى تقطع الاختلاف بالدليل. 

ـ إذا لم تجد دليلا شرعيا وأنت تقلد أحدا تراه عالما أو من طلاب العلم فاعملْ بفتواه في خاصة نفسك إذا غلب على ظنك رجحانُ قوله وأنت من أهل الترجيح، وإياك من الوقوع في المحذور، وهو أن تفتي في دين الله عز وجل أو تزكي قولا أو ترد قولا أو ترجح قولا على قول بدون حجة شرعية. 

قال ابن تيمية رحمه الله: "مَن صار إلى قولٍ مقلدًا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخَر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرتْ". [مجموع الفتاوى: 35/ 233. دقائق التفسير: 2/ 24]. 

وقال ابن تيمية كذلك: "مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعْل أهل الجهل والأهواء". [مجموع الفتاوى: 35/ 212 ـ 213. دقائق التفسير: 2/ 13]. 

ـ أيها الإخوة الكرام: 

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يوم نجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: «فأنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه. 

هل أعرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل اليهود وابتهاجهم بذكرى اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل وعن اتخاذِه عيدا؟!، وهذا عيد ديني مشتمل على الفرح بنجاة نبي رسول من أولي العزم؟!، لا، بل قال «أنا أحق بموسى منكم»، فصامه وأمر بصيامه. 

هذا هو الهدي النبوي لمن يريد الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ـ التهنئة برأس السنة الميلادية: 

رأس السنة الميلادية هو عند النصارى بداية السنة الجديدة، وكثيرا ما يخلطونه بذكرى ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، وهم يرون أن ولادته كانت قبل رأس السنة بأسبوع أو بعدها بأسبوع، على خلاف بينهم في ذلك، فإذا رجوتَ للنصراني الخير في السنة القادمة دون إشارة إلى ميلاد السيد المسيح عليه السلام فهذا أمر بعيد عن موضوع الدين. 

أكثر النصارى اليوم ليسوا مؤمنين بالله تعالى أصلا، ويجمعون في احتفالهم بين رأس السنة وذكرى ولادة المسيح عليه السلام الذي هو عندهم مجرد رمز احتفالي، ولذا فليس في اعتقادهم أنه الله ولا ابن الله. 

المتدينون المتمسكون منهم بدينهم قليلون، وهم غارقون في الضلال والشركيات، وكثيرون منهم يعتقدون أن المسيح ابن الله!، تعالى ربنا جل وعلا عن أن يكون له ولد. 

الذي يهنئهم برأس السنة وبولادة سيدنا عيسى عليه السلام دون أي إشارة إلى ما في عقائدهم من ضلال لا يكون عمله هذا كفرا، لكن من الحكمة أن تكون التهنئة برأس السنة وبولادة نبي الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام مصرَّحا فيها بنبوته. 

لا بد من التأكيد على هذه الكلمة، التي هي أن سيدنا عيسى عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، فعسى أن يجعلها ربنا تبارك وتعالى ومْضة في عقل عبد من عباده تنقذه من الضلال وتفتح عقله وقلبه إلى الدين الحق. وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "لأنْ يهديَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَعَم». 

ـ بعض النصارى اليوم إذا هنَّأتَه بذكرى ولادة نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام قد يقول لك لا تهنئني بهذا ولا أريد تهنئتك. 

لا بأس، فهو ومَن على شاكلته قد يردون التهنئة، لكن كثيرا من النصارى يتقبلونها بقبول حسن ولها أثر طيب في نفوسهم، فازرع الكلمة الطيبة، ولا تدري متى يظهر نباتها. 

عجيبة من العجائب: 

ـ من العجائب أن يقول أحد المشايخ: "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسْلم الإنسان من الكفر، لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر". 

أقول: 

بدأ الشيخ كلامه هنا بالحديث عن "التهنئة بالأعياد" بالإطلاق، وانتقل بعده إلى التهنئة بأعياد الكفر!، وأعطى للنوع الأول الحكم بالتحريم وأن الإنسان ربما لا يسْلم من الكفر!، هكذا دون الاستناد إلى دليل شرعي!، ثم انتقل إلى ما يريد أن يستدل به على مقولته، فقال: "لأنَّ تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها، والرضا بالكفر كفر". 

وهذا خلط عجيب بين التهنئة بالأعياد بإطلاق وبين التهنئة بأعياد الكفر!!. 

لا شك في أن التهنئة بأعياد الكفر أقل ما فيها هي أنها حرام، لكن لا يلزم من التهنئة بعيد كفري أن يكون المرء قد فعل ذلك رضًا بالكفر، ولا شك في أن الرضا بالكفر كفر، ولذا فإنها إذا كانت مع الرضا القلبي بالكفر فهي كفر، وإلا فلا. 

ألا ترى أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان قد كتب إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وهذا عظيمة من العظائم زلتْ فيها قدم حاطب، ولما عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله، لا تعجَلْ علي، وما فعلتُ ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صَدَقَكم». وقال لعمر: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". 

وهذا دليل واضح لكل مستبصر على أن العمل الكفري قد يقع فيه المرء من باب الزلل دون أن يكون راضيا الرضا القلبيَّ بفعله، فيكونُ مَن باشر العمل الكفري وقلبه منكِرٌ غير راضٍ قد ارتكب حراما، وهذا يجب عليه أن يتوب منه توبة صادقة، ولا يصح إطلاق القول بكفر فاعل ذلك، بل الواجب هو أن يُقال إنه إذا فعل ذلك مع الرضا القلبي بما أقدم عليه من الفعل الكفري فقد كفر، وإلا فلا.

ـ ما معنى أن يقول الباحث في العلة التي استند إليها في تحريم التهنئة بالأعياد بإطلاق "لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضًا بها والرضا بالكفر كفر"!!، والكلام الذي بدأ به هو التهنئة بالأعياد وليس بأعياد الكفر!، وما الذي قلب موضوع البحث من شيء إلى شيء مختلف تمام الاختلاف؟!!. 

هل هو الرغبة في الحكم على الناس بالكفر دون دليل شرعي؟!. 

ربما تكون زلة زل بها القلم، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وكلنا من بني آدم، فأسأل اللهَ تعالى المغفرة لنا جميعا. 

{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}. 

ـ عتْبي هو على الذين يقلدون تقليد العُميان ولا يسألون عن الدليل، ويوزعون بعد ذلك الاتهامات على الناس!. 

ألا فاتقوا الله يا أولي الألباب، فالناقد بصير، والحساب عسير، والتهنئة بالأعياد شيء، والتهنئة بأعياد الكفر شيء آخر. 

ـ قد يقول قائل: الاحتفال برأس السنة هو شيء باطل، ولو فعله المسلمون برأس السنة الهجرية لما جاز تهنئتهم به، لأنه عيد مبتدَع!. 

أقول: 

أيها الأخ الكريم: إذا كان عندك دليل من كتاب الله عز وجل أو من الحديث النبوي الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الصحيح أو القياس الجليِّ فهاته، وهو على الرأس والعين، وإلا فجدد البحث عن الدليل. وأنصح بقراءة كُتَيِّب عنوانه "البدعة المحمودة بين شبهات المانعين وأدلة المجيزين". 

ـ قد يقول قائل: إذا كان الشرع قد نهانا حتى عن ابتدائهم بالسلام فكيف يجيز لنا تهنئتهم بما يسرهم؟!. 

أقول: 

هل نهانا الشرع عن ابتدائهم بالسلام مطلقا؟!، وهل هذا ما كان عليه السلف؟!. أرجو أن تحقق المسألة أولا ثم نتابع الحوار. 

ـ وقد يقول قائل: التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة وهي منهي عنها بأكثر من نص في القرآن قطعي الدلالة مُجْمَعٍ عليه. 

أقول: 

ليست كل تهنئة بأمر ما داخلةً في باب المودة والمحبة، فقد تكون لغرض سوى هذا، ومن ذلك أن تكون من باب المقابلة بالمثل، فالجار الذي ليس بمسلم إذا عرَف متى رأس السنة الهجرية وقال أتمنى لك سنة طيبة وقابلتَه بمثل ذلك في رأس سنته فهل هذا يعني المودة والمحبة؟!، قد يكون كذلك وقد لا يكون، فتنبه للفرق. 

فمِن أين لك أن تجزم بأن "التهنئة داخلة في باب المودة والمحبة" هكذا بإطلاق؟!. 

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال «ائذنوا له فبئس أخو العشيرة»، فلما دخل ألان له الكلام، قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتَ ثم ألنتَ له في القول؟!. فقال: «أيْ عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من وَدَعَه الناس اتقاء فحشه». أي تركه الناس اتقاء فحشه. 

الذي لا يجيد معرفة تصاريف الكلام ويسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يلينُ القول لذاك الذي دخل عليه يظن أنه يكنُّ له المودة والمحبة، لكنه إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام قال فيه «بئس أخو العشيرة» فإذ ذاك يعلم أنه ليست كل ملاينة في القول تعني المحبة والمودة. 

وقال البخاري: يُذكر عن أبي الدرداء «إنا لنَكْشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم». الكشْر: ظهور الأسنان عند التبسم. وهذا إسناده ضعيف، لكن لا بأس بالاستشهاد به في أمر ثبت أصلُه. 

ـ أقول في ختام هذه الفقرات: 

تهنئة النصارى الذين يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام إن كانوا يظهرون أنهم يحتفلون بميلاد المسيح الذي هو ابن الله مثلا فلا شك في عدم جواز التهنئة هنا، لإعلانهم عقيدة كفرية، إلا إذا كانت التهنئة مقترنة بالتصحيح والبيان، وأما مَن لا يظهر شيئا من العقائد الباطلة وكانت التهنئة بذكرى ولادة المسيح عليه السلام مقرونة بالإشارة إلى نبوته فهذه جائزة ومستحبة. والله أعلم. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي في 14/ 7/ 1444، الموافق 5/ 2/ 2023، والحمد لله رب العالمين. 

"لو كان بعدي نبي لكان عمر"

 رُوي عن نبينا صلى الله عليه وسلم في رواية ضعيفة الإسناد أنه قال "لو كان بعدي نبي لكان عمر"، ورُوي عنه كذلك ثلاث روايات كلها ضعيفة الإسناد ضعفًا شديدًا، فهذه الرواية ضعيفة غير ثابتة. وسيدنا عمر رضي الله عنه هو من صحابة رسول الله الأخيار ومن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولا ينقص من فضله أن تكون تلك الرواية ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الأربعاء، 14 أغسطس 2024

حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه"

* ـ هذا الحديث مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجموعة من الصحابة ومن طريق زيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص وبريدة بن الحصيب وأبي أيوب الأنصاري والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله وغيرهم.

* ـ فأما حديث المجموعة من الصحابة فهو مروي عنهم من طريق سعيد بن وهب وزاذان وأبي الطفيل:

ـ رواه ابن حنبل [23107] والنَسائيُّ في السنن الكبرى [8417] والآجري في كتاب الشريعة [1541] عن محمد بن جعفر عن شعبة، والنَسائيُّ في السنن الكبرى [8418] عن علي بن محمد بن علي عن خلف بن تميم عن إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق السَبيعي أنه قال: سمعت سعيد بن وهب قال: نَشَدَ عليٌّ الناس، فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». نَشَدَ عليٌّ الناس: أي طلبَ من الناس.

[محمد بن جعفر بصري ثقة مات سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وعلي بن محمد بن علي المصيصي ثقة. خلف بن تميم كوفي صدوق ثقة مات سنة 213. إسرائيل بن يونس كوفي ثقة مات سنة 161. أبو إسحاق السَبيعي عمرو بن عبد الله كوفي ثقة اختلط بآخره، وقد يدلس الإسناد، مات سنة 127. سعيد بن وهب كوفي ثقة مات سنة 75]. شعبة هو ممن أخذ عن أبي إسحاق قبل اختلاطه، وقد اعتمد الشيخان في صحيحيهما على روايته عنه في عشرات المواضع، وصرَّح أبو إسحاق بالسماع في الروايتين كلتيهما، فهذا الطريق صحيح.

ورواه ابن أبي شيبة [32754 مع استدراك اسم سعيد بن وهب من طبعة مكتبة الرشد برقم 32091] عن شريك بن عبد الله النخعي، ورواه عبدُ الله بن أحمد في زوائد المسند [950] والبزار [4299] عن علي بن حكيم الأودي عن شريك، عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب وزيد بن يُثيع به. [علي بن حكيم الأودي كوفي صدوق ثقة مات سنة 231. شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق ثم تغير حفظه، مات سنة 177. زيد بن يُثيع لا بأس به]. وفي هذه المتابعات مزيد توثيق لثبوت هذه الرواية.

ـ ورواه ابن حنبل [641] وفي فضائل الصحابة [991] عن عبد الله بن نُمير، وابنُ أبي عاصم في كتاب السنة [1372] عن عمار بن خالد عن إسحاق الأزرق، كلاهما عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي عبد الرحيم الكندي عن زاذان أبي عمر أنه قال: سمعت عليا في الرحبة وهو يَنْشُد الناس مَن شهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟، فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[عبد الله بن نُمير كوفي ثقة مات سنة 199. وعمار بن خالد واسطي صدوق ثقة مات سنة 260. إسحاق بن يوسف الأزرق واسطي صدوق ثقة مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145. أبو عبد الرحيم الكندي يظهر لي أنه حبيب بن يسار الكندي، وهذا كوفي ثقة. زاذان أبو عمر الكندي كوفي ثقة فيه لين مات سنة 82]. فهذا إسناد جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن حنبل [19302] والنسائي في الكبرى [8424] والطحاوي في مشكل الآثار [1762] وابن حبان في صحيحه [6931] من خمسة طرق عن فِطْر بن خليفة عن أبي الطفيل أنه قال: جمع عليٌّ رضي الله عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كلَّ امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ما سمع لـَمَا قام. فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: «أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟». قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «من كنت مولاه فهذا مولاه». قال أبو الطفيل: فخرجتُ وكأنَّ في نفسي شيئا، فلقيتُ زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت عليا يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر؟!، قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.

[فِطْر بن خليفة كوفي ثقة فيه لين مات سنة 155. أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110]. فهذا إسناد جيد في المتابعات.

فحديث جماعة من الصحابة في هذا ثابت عنهم بثلاثة أسانيد، أحدها صحيح والآخران جيدان.

* ـ وأما حديث زيد بن أرقم فهو مروي عنه من طريق أبي الطفيل وأبي الضحى وعطية بن سعد العوفي وميمون أبي عبد الله:

ـ رواه ابن أبي عاصم في السنة [1365] والبزار [4298] والطحاوي في مشكل الآثار [1765] عن أبي موسى محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن سليمان الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه البزار [4300] والطبراني في الكبير [4970] من طرق عن شريك بن عبد الله النخعي عن الأعمش به.

[محمد بن المثنى بصري ثقة مات سنة 252. يحيى بن حماد بصري ثقة مات سنة 215. أبو عوانة الوضاح بن عبد الله واسطي ثقة فيه لين، مات سنة 175. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 148. حبيب بن أبي ثابت كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 119. أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي أدرك ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه وروى عنه، وثقه ابن حنبل وابن سعد، مات سنة 110]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن أبي عاصم في السنة [1371] عن أبي مسعود عن عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله، والطبرانيُّ في الكبير [4983] عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن إسماعيل بن موسى السدي عن علي بن عابس، كلاهما عن الحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى عن زيد بن أرقم مرفوعا به.

[أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي ثقة فيه لين مات سنة 258. عمرو بن عون الواسطي البصري ثقة مات سنة 225. خالد بن عبد الله الواسطي ثقة مات سنة 182. ومحمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة 297. إسماعيل بن موسى السُدِّي كوفي صدوق مات سنة 245. علي بن عابس كوفي ضعيف. الحسن بن عبيد الله النخعي كوفي ثقة مات سنة 139. أبو الضحى مسلم بن صُبيح كوفي ثقة مات سنة 100]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن حنبل [19279] وفي فضائل الصحابة [992] عن عبد الله بن نُمير، والطبرانيُّ في الكبير [5069] والآجُرِّي [1522] من طريق عَثَّام بن علي، والطبرانيُّ في الكبير [5070] من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق، ثلاثتهم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطية العَوْفي عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه الطبراني في الكبير [5071] عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن فضيل بن مرزوق عن عطية به.

[عبد الله بن نمير كوفي ثقة مات سنة 199. وعَثَّام بن علي كوفي صدوق ثقة مات سنة 195. وإسحاق بن يوسف الأزرق واسطي ثقة فيه لين مات سنة 195. عبد الملك بن أبي سليمان كوفي ثقة فيه لين مات سنة 145. محمد بن عبد الله الحضرمي صدوق ثقة مات سنة 297. أبو كريب محمد بن العلاء كوفي صدوق ثقة مات سنة 248. مصعب بن المقدام كوفي صدوق فيه لين مات سنة 203. فضيل بن مرزوق كوفي صدوق فيه لين مات سنة 160 تقريبا. عطية بن سعد بن جُنادة العَوْفي كوفي لين مات سنة 111]. فهذا الطريق لين.

ـ ورواه ابن حنبل [19328] والآجري [1520] عن محمد بن جعفر عن شعبة عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم مرفوعا به. ورواه النسائيُّ في الكبرى [8415] عن قتيبة بن سعيد عن محمد بن أبي عدي، وابنُ أبي عاصم في السنة [1362] عن نصر بن علي عن عبد الأعلى، كلاهما عن عوف عن ميمون أبي عبد الله به.

[محمد بن جعفر الهذلي بصري ثقة مات سنة 193. شعبة بن الحجاج واسطي بصري ثقة ثقة مات سنة 160. وقتيبة بن سعيد بلخي ثقة مات سنة 240. محمد بن إبراهيم بن أبي عدي بصري ثقة مات سنة 194. ونصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250. عبد الأعلى بن عبد الأعلى بصري ثقة فيه لين مات سنة 189. عوف بن أبي جميلة بصري ثقة مات سنة 146. ميمون أبو عبد الله بصري ضعيف]. فهذا الطريق ضعيف. والحديث عن زيد بن أرقم صحيح بمجموع هذه الطرق.

* ـ ملحوظة:

روى ابن حنبل هذا الحديث في فضائل الصحابة [959] والترمذي [3713] والطبراني في الكبير [3049] عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كُهيل عن أبي الطفيل عن أبي سَريحة أو زيد بن أرقم مرفوعا به. وجاء عند ابن حنبل والترمذي أن شعبة هو الشاكُّ في اسم الصحابي. [أبو سَريحة صحابي اسمه حذيفة بن أَسيد].

قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه".

وإذا جاءت الرواية على الشك فلا يصح الترجيح دون قرينة، وحيث إن هذا الحديث ثابت من رواية زيد بن أرقم فالظاهر أنه من روايته هو كذلك، والله أعلم.

* ـ وأما حديث سعد بن أبي وقاص فهو مروي عنه من طريق بُريدة وربيعة بن عمرو الجُرَشي وعائشة بنت سعد وعبد الرحمن بن سابط:

ـ رواه ابن أبي عاصم في السنة [1359] عن محمد بن يحيى، والنسائيُّ في السنن الكبرى [8414] عن زكريا بن يحيى عن نصر بن علي، كلاهما عن عبد الله بن داود عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن بُريدة عن سعد مرفوعا به.

[محمد بن يحيى بن عبد الكريم بصري ثقة مات سنة 252. وزكريا بن يحيى السجزي ثقة مات سنة 289. نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي بصري ثقة مات سنة 250 عبد الله بن داود الخُرَيبي كوفي سكن البصرة ثقة، مات سنة 213. عبد الواحد بن أيمن المخزومي مكي صدوق. والده أيمن المخزومي مكي صدوق]. فهذا إسناد جيد.

ملحوظة: جاء في السند عند ابن أبي عاصم هنا "عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جده"، وكلمة "عن جده" هي خطأ ظاهر، إذ ليس لوالد عبد الواحد رواية عن أبيه، فهذه اللفظة مقحمة في السند وليست منه، وسقط في السند عند النسائي ذكْر بريدة.

ـ ورواه النسائي في الكبرى [8427] والطحاوي في مشكل الآثار [1766] عن زكريا بن يحيى السجزي، والضياءُ المقدسي في الأحاديث المختارة [1014] من طريق إسحاق بن أحمد الخزاعي، كلاهما عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني عن يعقوب بن جعفر بن أبي كثير عن مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن سعد مرفوعا به.

ورواه البزار [1203] عن هلال بن بشر، والطحاويُّ في مشكل الآثار [1768] عن أحمد بن شعيب عن أحمد بن عثمان البصري، كلاهما عن محمد بن خالد ابن عَثْمة عن موسى بن يعقوب عن مهاجِر بن مسمار به.

[زكريا بن يحيى السجزي نزيل دمشق ثقة مات سنة 289. وإسحاق بن أحمد الخزاعي مكي وثقه الذهبي في سير أعلام النبلاء، مات سنة 308. محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة صدوق مات سنة 243. يعقوب بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري مدني من رواة القراءات القرآنية، روى القراءة عن نافع بن أبي نُعيم، مات قرابة سنة 195].

[هلال بن بشر بصري ثقة مات سنة 246. وأحمد بن شعيب هو الإمام النسائي الثقة الحافظ المتوفى سنة 303. أحمد بن عثمان بن أبي عثمان بصري ثقة مات سنة 246. محمد بن خالد بن عَثْمة بصري صدوق فيه لين. موسى بن يعقوب الزَمْعِي مدني صدوق فيه لين].

[مهاجِر بن مسمار مدني ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له مسلم في صحيحه حديثين، وقال ابن سعد ليس بذاك. عائشة بنت سعد بن أبي وقاص وثقها العجلي وذكرها ابن حبان في الثقات]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ـ ورواه ابن أبي عاصم في السنة [1386] والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة [1093] عن ابن كاسب عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ربيعة الجُرَشي عن سعد مرفوعا به. [يعقوب بن حُميد بن كاسب مدني ثم سكن مكة، صدوق فيه لين مات سنة 141. سفيان بن عيينة كوفي ثم مكي ثقة مات سنة 198. عبد الله بن أبي نَجيح مكي ثقة مات سنة 131. يسار أبو نجيح مكي ثقة مات سنة 109. ربيعة بن عمرو الجرشي دمشقي صدوق مات سنة 64]. فهذا الطريق لين.

ـ ورواه ابن أبي شيبة [32741] وابن ماجه [121] وابن أبي عاصم في السنة [1387] عن أبي معاوية محمد بن خازم، والنسائي في الكبرى [8343] عن حَرَمي بن يونس بن محمد عن أبي غسان عن عبد السلام، كلاهما عن موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير عن عبد الرحمن بن سابط عن سعد مرفوعا به. [أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة فيه لين مات سنة 195. وحَرَمي بن يونس بن محمد اسمه إبراهيم بن يونس بن محمد، بغدادي صدوق. أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي كوفي ثقة مات سنة 217. عبد السلام بن حرب كوفي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 187. موسى بن مسلم المعروف بموسى الصغير كوفي صدوق. عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط مكي ثقة قد يرسل الإسناد، ولم يسمع من سعد، مات سنة 118]. فهذا الطريق منقطع الإسناد، فهو ضعيف.

طرق هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص: أحدها جيد، والثاني جيد في المتابعات، والثالث لين، والرابع ضعيف، فالإسناد بمجموع هذه الطرق صحيح.

* ـ وأما حديث بُريدة بن الحُصَيب فرواه ابن حنبل [22945] وفي فضائل الصحابة [989] وابن أبي شيبة [32795] والنسائي في الكبرى [8089، 8413] عن الفضل بن دُكَين، والبزارُ [4352] والنسائي في الكبرى [8412] وابن أبي عاصم في كتاب الآحاد والمثاني [2358] والآجري [1513، 1514] من طريقين عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، كلاهما عن عبد الملك بن حُميد بن أبي غنية عن الحكم بن عُتَيبة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن بريدة أنه قال: غزوتُ مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليا فتنقصْته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال: «يا بريدة، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!». قلت: بلى يا رسول الله. فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[الفضل بن دكين كوفي ثقة مات سنة 218. وأبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير كوفي ثقة مات سنة 203. عبد الملك بن حُميد بن أبي غنية كوفي ثقة. الحكم بن عتيبة كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 115. سعيد بن جبير كوفي ثقة مات سنة 95]. فهذا الطريق جيد في المتابعات.

ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة [1354] عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية ووكيع عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

[أبو بكر بن أبي شيبة كوفي ثقة مات سنة 235. أبو معاوية محمد بن خازم كوفي ثقة مات سنة 195. وكيع بن الجراح كوفي ثقة مات سنة 197. سليمان بن مهران الأعمش كوفي ثقة قد يدلس الإسناد، مات سنة 148. سعد بن عُبيدة كوفي ثقة. عبد الله بن بريدة مروزي صدوق ثقة فيه لين مات سنة 115]. فهذا الطريق جيد في المتابعات. والحديث عن بريدة صحيح بمجموع الطريقين.

* ـ وأما حديث أبي أيوب الأنصاري فرواه ابن أبي شيبة [32736] وابن أبي عاصم في السنة [1355] والطبراني في المعجم الكبير [4052، 4053] والآجري في الشريعة [1517] عن شريك بن عبد الله النخعي، وابنُ حنبل [23563] عن يحيى بن آدم، كلاهما عن حَنَش بن الحارث عن رِيَاح بن الحارث عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا به.

[شريك بن عبد الله النخعي كوفي صدوق ثم تغير حفظه، مات سنة 177. ويحيى بن آدم كوفي ثقة مات سنة 203. حنش بن الحارث كوفي صدوق ثقة. رياح بن الحارث كوفي ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي والذهبي وابن حجر]. فهذا إسناد جيد.

* ـ وأما حديث البراء بن عازب فرواه ابن حنبل [18479] وفي فضائل الصحابة [1016] وابن أبي شيبة [32781] وابن ماجه [116] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1363] والآجري في كتاب الشريعة [1524] من طرق، عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب مرفوعا به. وعند ابن أبي عاصم "حماد بن سلمة عن علي بن زيد وأبي هارون"، ولفظ الحديث عنده "هذا مولى من أنا مولاه"، أو "ولي مَن أنا مولاه".

[علي بن زيد ابن جُدعان بصري ضعيف مات سنة 131. وأبو هارون: يحتمِل أن يكون هو العبديَّ أو الغنويَّ، وقد روى حماد بن سلمة عن كل منهما، وهو بصري وهما بصريان، فأما أبو هارون العبدي فهو متروك الحديث متهم بالكذب، وأما أبو هارون الغنوي فهو ثقة، وإذا كان الاحتمال قائما بين أمرين فالاحتياط يوجب البناء على الأقل، وهو هنا أبو هارون العبدي المتهم. عدي بن ثابت كوفي ثقة مات سنة 116. البراء بن عازب مات سنة 72 بالكوفة]. فهذا الإسناد ضعيف.

* ـ وأما حديث جابر بن عبد الله فرواه ابن أبي شيبة [32735] وابن أبي عاصم في كتاب السنة [1356] والآجري [1518، 1519] من طريقين عن عبد الله بن محمد بن عَقيل عن جابر مرفوعا به. [عبد الله بن محمد بن عقيل مدني ضعيف مات سنة 142]. فهذا الإسناد ضعيف.

* ـ خلاصة البحث:

حديث "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه" مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد كثيرة عن عدد من الصحابة، ذكرتُ منها في هذا البحث أربعة أسانيد صحيحة، وإسنادا جيدا، وإسنادين ضعيفين، فلا شك في أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه في درجة عالية من درجات الصحة.

وفي ختام هذا المبحث أسأل الله تعالى القبول، وأن يوفقنا لدراسة تاريخنا في ضوء المرويات الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي في السادس من صفر 1446، الموافق 10/ 8/ 2024، والحمد لله رب العالمين.

***

  

الأربعاء، 7 يونيو 2023

ملخص عن حديث مقدار عمر السيدة عائشة رضي الله عنها وقت الزواج

 

 

روتْ عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وسنها ست سنوات وتزوجها وسنها تسع سنوات، وهذا النص إذا نظرنا إليه من حيث الزوجةُ فهو رواية تاريخية في مقدار سنها يوم زواجها، ولا يعْدو أن يكون شأنا من شؤون الأسرة، لكن إذا نظرنا إليه من حيث الزوجُ النبي الأكرم خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فهو حديث من الأحاديث الفعلية، وينبغي الاهتمام به لأنه إن ثبت أو لم يثبت فسيكون فيه مجال للدراسات التي تستنبط وتستلهم الدروس والعبر من سيرة هذا الرسول العظيم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.

تساؤل:

متى وُلدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟، وكم كان عمرها يوم العقد ويوم الزواج؟:

القول الأول الذي تشير إليه القرائن التاريخية هو أنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، وتمَّ عقد زواجها بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، أي بعد عشر سنوات من البعثة، وهذا قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين، وتمَّ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في أواخر السنة الأولى بعد الهجرة، أي كان عمرها أربع عشرة سنة يوم العقد وثماني عشرة سنة تقريبا يوم الزواج، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 75 عاما.

القول الثاني هو الذي قالته عائشة رضي الله عنها، وهو القول المشهور، وهو أنها كانت بنت ست سنين يوم العقد عليها وبنت تسع سنين يوم الزواج، أي إنها وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إنها ماتت سنة ثمان وخمسين هجرية فتكون قد عاشت 67 عاما.

* ـ القرائن التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها:

1 ـ عائشة أصغر من أختها أسماء رضي الله عنهما بعشر سنين، وقد وُلدت أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، أي قبل البعثة النبوية بأربع عشرة سنة، وهذا يعني أن عائشة ولدت قبل البعثة النبوية بأربع سنوات، وحيث إن العقد عليها كان قبل الهجرة بثلاث سنوات ـ أي بعد البعثة بعشر سنوات ـ فهذا يعني أنها كانت وقت العقد في الرابعة عشرة من العمر.

2 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعبُ {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ}".

ذكر عدد من المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل الهجرة بخمس سنين وبعد البعثة بثمان، والجارية في أصل معناها عند العرب: هي الفـَتِـيَّة من النساء، أي الشابّة في أوائل شبابها.

إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمرها وقت نزول هذه الآية أربع سنوات، وهذا بعيد عن أصل المعنى اللغوي لكلمة الجارية، وإذا كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين فهذا يعني أن عمُرها وقت نزول هذه الآية كان ثنتي عشرة سنة، وهذا هو المنسجم مع أصل معنى الجارية في اللغة.

3 ـ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة، ...". الحديثَ.

وجه الدلالة من هذه الرواية أمران:

أولهما أن الطفل لا يدرك في العادة تديُّنَ والديه بدين مغاير لدين أكثر الناس مِن حوله قبل سن الرابعة على الأقل، ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة وكان أول وعيها بما حولها في السنة الثامنة بعد البعثة لكان قولها "لم أعقلْ أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين" تحصيلَ حاصل غيرَ ذي فائدة، لأن أبا بكر معلومٌ سبْقه إلى الإسلام، وأم رومان أسلمت بمكة قديما كذلك.

لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات وكان أول وعيها بما حولها في السنة الأولى من البعثة فيكون لهذا القول فائدة، هي أنها ـ أولَ ما بدأت تعي ما حولها ـ رأت والديها كليهما يدينان بدين الإسلام، وليس والدَها فقط، وهذا يعني أن ولادتها كانت قبل البعثة بنحو أربع سنوات.

وثانيهما أن قولها "فلما ابتـُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَل الحبشة" معطوفًا على إدراكها لأبويها وهما يدينان الدين فيه إشارة خفيفة إلى أنها كانت إذ ذاك واعية لهذا الحدث، وخروجُ الصحابة من مكة للهجرة قِبَل الحبشة كان في أواسط السنة الخامسة من البعثة، وهجرتهم الثانية إليها في أواخر الخامسة أو أوائل السادسة.

ولو كانت عائشة قد وُلدت في السنة الرابعة من البعثة لما كان ممكنا لها أن تدرك ما حدث في أوائل السادسة، لكن إذا كانت قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني إمكان إدراكها لذلك بوضوح.

4 ـ ذكر محمد بن إسحاق في السيرة النبوية أسماء أوائل من أسلموا، وذكر منهم "أسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة"، ونقله عن ابن إسحاق جماعةٌ من أهل العلم دون إنكار.

إذا كانت عائشة مذكورة مع أوائل من أسلموا فهذا ينفي أنها وُلدت بعد البعثة بأربع سنين ويؤكد أنها قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنين على أقل تقدير.

5 ـ ذكرَ الطبري في كتاب التاريخ أن أبا بكر رضي الله عنه تزوج زوجتيه في الجاهلية، وأن أولاده الأربعة ومنهم عائشة وُلدوا في الجاهلية، أي وُلدوا قبل البعثة. وهذا نص تاريخي واضح صريح في أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية.

6 ـ روت عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم عرضتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخطِب له بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها إما عائشة وإما سَودة بنت زمعة.

من المستبعد جدا أن تفكر خولة بخطبة مَن لها مِن العمر ست سنوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصبح بدون زوجة بعد وفاة السيدة خديجة ليكون الزواج بعد ذلك بسنوات!. لكن إذا كانت بنتَ أربع عشرة سنة فهذا معقول.

7 ـ قالت عائشة رضي الله عنها في مسألة من المسائل: "ما عِلـْمُ أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، وإنما كانا غلامين صغيرين". تشير بذلك إلى أنها هي أكثر منهما وعيا للأحداث لكونهما كانا صغيرين.

وُلد أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك قبل الهجرة بعشر سنين، فهي على القول المشهور أصغر من هذين الصحابيين بسنة، فلا يستقيم إذا كانت أصغر منهما سنا أن تقول عنهما "إنما كانا غلامين صغيرين".

لكنها ـ على القول الأول ـ هي أكبر منهما بسبع سنوات، فهي أكثر منهما وعيا للأحداث، فمن المعقول أن تقول عنهما بأنهما كانا غلامين صغيرين.

8 ـ روتْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناجى ابنته فاطمة رضي الله عنها في مرضه الذي قـُبض فيه بشيء، وأنها قالت لفاطمة: "أيْ بُنية، أخبريني ماذا ناجاك أبوك؟". فما أخبرتْها بالذي ناجاها به إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وُلدت فاطمة ـ على الأشهَر ـ قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل، وإذا كانت عائشة قد وُلدت بعد البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبر سنا منها بتسع سنوات أو أربع سنوات على الأقل!، ومن المستغرب والمستبعد جدا أن تقول الصغيرة لمن هي أكبر منها بمثل هذا القدر "أيْ بنية"، حتى لو كانت هي زوجةَ أبيها.

أما إذا كانت عائشة قد وُلدت قبل البعثة بأربع سنوات فهذا يعني أن فاطمة أكبرُ سنا منها بسنة أو أصغرُ منها بأربع سنوات، فإذا كانت فاطمة أصغر من عائشة فليس من المستبعد أن تقول الكبيرة للصغيرة "أي بنية"، وإذا كانت فاطمة أكبر بسنة فليس لهذا الفرق الضئيل تأثير يمنع أن تقول الصغيرة للكبيرة "أي بنية" إذا كانت الصغيرة هي زوجةَ أبيها. ‏

9 ـ كان مُطْعِم بن عَدِيّ قد ذكر رغبته في خِطبة عائشة لولده جُبير وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، وظن بعض الناس أن في هذا دلالة على أن عائشة كانت قبل أن يخطِبها النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة مخطوبة للزواج!.

وهذا خطأ، لأنها لم تكن مخطوبة بما تعنيه هذه الكلمة، والواقع هو أن المطعم بن عدي كان قد ذكرها مجرد ذكْر وأخذَ من أبي بكر وعدا بذلك، ومثل هذا كثيرا ما يقع بين الناس حتى وإن كانت المذكورة ومن ذُكرتْ له طفلين صغيرين، وقد تكون بنتَ عام أو عامين.

سياق القصة يشير إلى أن المطعم بن عدي وزوجته كانا متمسكين بالشرك ويكرهان الدخول في الإسلام، كما يكرهان أن يتحول ابنهما إلى هذا الدين الجديد إذا تم زواجه بعائشة، ومن المعلوم ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحرص الشديد على دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، فمن المستبعد إذا كانت عائشة رضي الله عنها قد وُلدت بعد البعثة النبوية بأربع سنوات أن يوافقَ أبو بكر على تزويج ابنته لمشرك.

فلم يبق سوى أنَّ ذِكْرَ المطعم بن عدي لعائشة كي تكون مخطوبة لابنه وأخْذَ الوعد بذلك من أبي بكر إنما كان قبل البعثة النبوية، وهذا يعني أن عائشة كانت قد وُلدت قبل البعثة النبوية، وليس بعدها.

10 ـ كانت عائشة رضي الله عنها تحمل القِرَب الثقال يوم غزوة أُحُد على ظهرها ثم تفرغها في أفواه الجرحى.

ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها كانت في صِغرها نحيفة لم تحمل اللحم، وكانت يوم غزوة أحُد على القول المشهور ابنة أحد عشر عاما، وإذا كان الأمر كذلك فهي لا تقْوى غالبا على حمل قِرَب الماء الثقال لتفرغها في أفواه الجرحى ثم ترجعَ فتملأها ماء وتعودَ بها من جديد، وهذا يعني تضعيف القول المشهور في تحديد عمرها.

أما على القول الأول فقد كان عمرها يوم أحُد تسعة عشر عاما، وهذا هو الأقرب للواقع.

* ـ كل واحدة من القرائن المتقدمة لا تكفي بمفردها في الاستدلال على أن عائشة رضي الله عنها وُلدت قبل البعثة النبوية بأربع سنين، لكن اجتماع تلك القرائن يشكل دليلا قويا على ذلك.

* ـ الدليل الذي استند إليه القول المشهور في أن عائشة رضي الله عنها كانت يوم العقد عليها بنت ست سنين ويوم الزواج بنت تسع سنين:

هذا المعنى رواه عدد من الرواة عن عائشة رضي الله عنها في مصادر كثيرة من المصادر الحديثية والتاريخية، ومن تلك المصادر الحديثية صحيح البخاري وصحيح مسلم، فهو ثابت عنها من حيث الإسناد.

والظاهر أنه ربما وقع لها شيء من النسيان في أواخر العمر، لأن قولها هذا يعارضه عشرة من القرائن الدالة على خلافه، والله أعلم.

وكتبه صلاح الدين بن أحمد الإدلبي.